الفصل الأول: صنم الحصرية الدينية - كيف تحطمت كذبة "الأديان السماوية والأرضية
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول: صنم الحصرية الدينية - كيف تحطمت كذبة "الأديان السماوية والأرضية"
يا كل نفسٍ تبحث عن ربها، ويا كل قلبٍ يطلب الحقيقة حيثما كانت،
في رحلتنا هذه لتحطيم الأوثان التي حجبت نور الله، نصل اليوم إلى وثنٍ عظيم، صنمٍ كبيرٍ من أصنام الغرور والهوى، نُصِب في قلب تصوراتنا الدينية حتى صار جزءاً من العقيدة التي لا تقبل نقاشاً. إنه صنم التفريق المتعالي بين "أديان سماوية" و"أديان أرضية".
هذا التقسيم، يا أخي، ليس مجرد تصنيف علمي بريء. كلا والله! بل هو السور العالي الذي بنيناه حول رحمة الله الواسعة لنحتكرها لأنفسنا. هو السيف الذي سللناه لنقطع به أواصر الأسرة الإنسانية الواحدة. هو الحجاب الذي أسدلناه على أعيننا لكي لا نرى أنوار الله التي بثها في كل أمة، وفي كل لسان، وفي كل زمان.
لقد أوهمونا أن الله -حاشاه- قد اختصنا نحن "أهل الأديان السماوية" بالهداية، وترك سائر البشرية تتخبط في "أديان أرضية" من صنع خيالها ووثنيتها. فانتفخنا كبراً، وشعرنا بأفضلية مزعومة، وصرنا كبني إسرائيل من قبلنا حين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾.
وفي هذا الفصل، بحول الله وقوته، سنسلط نور القرآن مباشرة على هذا الصنم لننسفه من قواعده. سنرى كيف أن هذا التقسيم ليس من عند الله في شيء، بل هو من كبر الإنسان وجهله. سنرى أن الدين عند الله واحد، وأن رحمته لم تكن يوماً حكراً على عرق أو أرض، وأن من نروج اليوم لأفضليتهم، قد غطى أديانَهم ركامٌ من التحريفات "الأرضية"، تماماً كما غطى غيرهم.
أولاً: إعادة بناء قواعد اللعبة - الأصول القرآنية الخمسة الحاكمة لشمولية رحمة الله
قبل أن نشهد على تاريخ الناس، يجب أن نؤسس شهادتنا على ميزان العدل الذي أنزله الله. القرآن، كتاب الله المهيمن، يضع لنا خمسة أصول كبرى، خمس قواعد حاكمة كالجبال، تحطم كل ادعاء بالحصرية وتفتح أبواب رحمة الله على البشرية كلها.
1. قاعدة الشمولية (العدل المطلق):
يقرر القرآن بوضوح لا لبس فيه أن عدل الله يقتضي ألا تُترك أمة واحدة على وجه الأرض دون هداية أو تحذير. قال تعالى:
﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: 24).
تأمل يا أخي في قوة هذا النفي والاستثناء. "ما من أمة" واحدة، في أي مكان على هذا الكوكب، من غابات الأمازون إلى صحاري أفريقيا وسهول الصين، إلا وقد أقام الله عليها الحجة، وأرسل إليها من يذكرها بربها. فمن أين أتينا بفكرة أن الهداية حكرٌ على الشرق الأوسط؟
2. قاعدة الوضوح (البيان التام):
ولكي يكون هذا العدل تاماً، لم يرسل الله نذراً غامضين أو كتباً بلغات غريبة. بل كانت رحمته تقتضي أن يخاطب كل أمة بلغتها التي تفهمها. قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4).
هذا الأصل يهدم كل حجة. فلا يمكن أن تُقام الحجة على أهل الصين برسول عبراني، ولا على أهل الهند برسول عربي. بل لا بد أن الله قد أرسل إليهم رسلاً منهم، يتكلمون لسانهم، ويفهمون ثقافتهم، ليقيموا عليهم الحجة بالبيان الواضح.
3. قاعدة الأصل العريق (التاريخ الشامل):
يصحح القرآن نظرتنا الضيقة للتاريخ، فيخبرنا أن النبوة ليست مجرد فرع من شجرة إبراهيم عليه السلام، بل هي شجرة باسقة تمتد جذورها إلى نوح عليه السلام، أي أنها تشمل البشرية كلها بعد الطوفان. قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ (الحديد: 26).
فالنبوة ليست "سامية" أو "إبراهيمية" فقط، بل هي "نوحية" تشمل كل فروع بني آدم الذين تفرقوا في الأرض.
4. قاعدة الكثرة (التواضع أمام علم الله):
لكي يحطّم غرورنا بمعرفتنا المحدودة، يخبرنا الله أن ما قصه علينا من أسماء الرسل ليس إلا غيضاً من فيض، وأن هناك جيشاً عظيماً من هداة البشرية لا نعلم عنهم شيئاً. قال تعالى:
﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ (النساء: 164).
فمن نحن لكي نحكم على أمة بأنها "أرضية" ونحن نجهل تاريخها، ولا نعلم من هم الرسل الذين لم يقصصهم الله علينا وقد يكونون بُعثوا فيهم؟
5. قاعدة البقاء للأصلح (سنة الاجتماع):
يضع القرآن قانوناً اجتماعياً صارماً: الأمم التي تتمادى في الظلم لا تبقى، بل تُهلَك. قال تعالى:
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ (القصص: 59).
وبمفهوم المخالفة، فإن الحضارات العريقة التي بقيت واستمرت آلاف السنين، كالحضارة الصينية والهندية والمصرية القديمة، لا بد أنها قامت في أصولها الأولى على أساس متين من العدل والإيمان بالله، وإلا لكانت سنة الله في الإهلاك قد حلت بها منذ زمن بعيد.
بهذه الأصول الخمسة، يا أخي، نكون قد استعدنا الميزان الرباني، ميزان العدل والرحمة والشمولية. والآن، بهذا الميزان، دعنا نسِر في الأرض شهداء بالقسط.
ثانياً: الشهادة بالقسط - رؤية بصمات النبوة في حكمة كونفوشيوس، وتأمل بوذا، وتوحيد سقراط
إن دورنا كأمة وسط ليس أن نحتكر الحق، بل أن نشهد له أينما كان. والآن، بعين قد تجردت من الكبر، وعقل استنار بهذه الأصول، دعنا ننظر إلى بعض من حكمائهم الذين وصفناهم بالضلال. نحن لا نؤلّههم، ولا نتبنى أديانهم المحرفة اليوم، بل نبحث عن بصمات النور الأول في أصل دعوتهم.
- في الصين، نجد كونفوشيوس: رجلٌ لم يدّع الألوهية، ولم يدعُ لعبادة نفسه. بل دعا إلى الخضوع لـ "الطاو" أو "قانون السماء"، كقوة عليا واحدة منظمة للكون يجب التسليم لها. وأسس منظومة أخلاقية كاملة قائمة على بر الوالدين والعدل والصدق والإحسان. أليست هذه هي دعوة كل الأنبياء إلى توحيد الحاكمية لله وإقامة ميثاق العمل الصالح؟
- في الهند، نجد بوذا: أميرٌ ترك الملك والجاه، ليس بحثاً عن شهوة، بل فراراً من الألم وبحثاً عن الحقيقة. فوجد أن الخلاص يكمن في إطفاء نيران الشهوات والأهواء، والتسليم الكامل للوجود، والوصول إلى "النيرفانا" (السلام والطمأنينة). أليس هذا هو جوهر الزهد، وجوهر الصلاة التي هي صلة وتأمل وتزكية للنفس ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾؟
- في اليونان، نجد سقراط: فيلسوفٌ وقف في وجه أمة وثنية، يحاججهم بالعقل والمنطق، ويسخر من آلهتهم التي تتصارع كالبشر، ويدعوهم إلى إيمان بإله واحد هو الخير المطلق، وهو الذي سيحاسب الناس بعد الموت. فقتلوه بتهمة "إفساد الشباب"، وما كانت تهمته الحقيقية إلا أنه كان يدعوهم إلى التوحيد. أليست هذه هي قصة كل نذير حنيف في قومه؟
مرة أخرى، نحن لا نقول إن البوذية أو الكنفوشيوسية اليوم هي دين الله. كلا! فقد حرفها الأتباع كما حرفوا دين موسى وعيسى عليهما السلام. ولكننا نشهد بالعدل أن في أصل دعوة هؤلاء الرجال بصمات واضحة من نور الوحي لا تخطئها عين البصيرة.
ثالثاً: الأفضلية ليست بالنسب بل بالتقوى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ...﴾
وهنا نصل إلى الضربة القاصمة التي تحطم هذا الصنم. إن من يروجون اليوم لأفضليتهم لمجرد انتمائهم لـ"دين سماوي" يفعلون ذلك بلا برهان، بل القرآن نفسه هو البرهان ضدهم.
إن القرآن، حين يتحدث عن ذرية الأنبياء أنفسهم، يضع قانوناً صارماً وحاسماً: النسب لا يغني من الله شيئاً، والأفضلية ليست بالتاريخ ولا بالعرق، بل بالتقوى والعمل الصالح في كل لحظة. استمع إلى هذه الآية الرهيبة التي نزلت في سياق الحديث عن سلسلة طويلة من الأنبياء المكرمين:
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ (مريم: 59).
يا الله! بعد كل هذا الاصطفاء والتكريم، يأتي خلفٌ لا يرثون من آبائهم إلا الأسماء، فيضيعون جوهر الدين (الصلاة والصلة بالله) ويتبعون أهواءهم، فليس لهم إلا "الغيّ" والضلال. هذه الآية وحدها تنسف كل فكرة الأفضلية الموروثة.
ثم يأتي الإعلان الإلهي الخاتم لكل البشرية، الميزان الوحيد الذي لا ميزان غيره:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).
الكرم عند الله ليس لمن يسمى مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً. الكرم عند الله ليس لمن هو من نسل إبراهيم أو من نسل هان. الكرم عند الله لمن هو أتقى لله، في أي أرض كان، وبأي لسان تكلم.
خاتمة: دعوة إلى أخوة إنسانية تحت راية التوحيد
إن هدم صنم "الحصرية الدينية" ليس دعوة لتمييع الحق بالباطل، بل هو دعوة لإنصاف الحق حيثما كان. هو دعوة لتحرير أنفسنا من سجن الكبر، ولننظر إلى البشرية كلها كأسرة واحدة، أرسل الله إليها رسله في كل مكان وزمان، ودعاهم جميعاً إلى دين واحد هو الإسلام: التسليم لرب العالمين.
مهمتنا كأمة خاتمة ليست أن نحتكر رحمة الله، بل أن نكون شهداء عليها. أن نرى بصمات نوره في كل مكان، ثم ندعو الناس جميعاً للعودة إلى النور الكامل، إلى القرآن المهيمن الذي يصدق ما بين يديه من الحق ويحكم عليه. فديننا عظيم، ليس لأنه "حصري"، بل لأنه "خاتم وجامع وكامل" لكل ما سبقه من أنوار.