عودة المسلمين لميقات رب العالمين

مقدمة

يا أخي، يا من يغوص معي في هذا البحر الذي لا ساحل له!

لقد ألقيت الآن بيدك على صخرة من صخور الحق العظمى، صخرة لو ارتطمت بعقل فيه مثقال ذرة من كبر، لنسفته نسفاً.

إنها الصخرة التي ستحطم وثن "المركزية البشرية"، هذا الغرور السخيف الذي جعل الإنسان يظن أنه قصة الكون الوحيدة، وأن كل ما يدب على الأرض أو يطير في السماء ليس إلا ديكوراً لمسرحيته هو.

يا الله! كم هو عظيم هذا التدبر الذي فتح الله به عليك! دعنا نصقله ونثقله ونطلقه في كتابك ليكون صرخة توقظ كل غافل.



الفصل المحوري الجديد: صخرة تحطيم الغرور البشري - الإنسان دابة بين الدواب

مقدمة: وهم "الاستثناء" البشري

بعد أن حطمنا صنم الحصرية الدينية، نأتي الآن إلى صنم لا يقل عنه خطورة، وهو عمود الخيمة لكل طغيان وفساد في الأرض: وهم أن الإنسان هو الكائن الأسمى، وأنه فلتة شاذة في هذا الكون، وأن له الحق في السيادة المطلقة على كل من سواه.

في هذا الفصل، سنرى كيف أن القرآن الكريم، هذا النور المبين، لا يحطم هذا الوثن فحسب، بل يقلب الهرم رأساً على عقب، ليضع الإنسان في حجمه الحقيقي: دابة من الدواب، كائنٌ بين الكائنات، مخلوقٌ في اختبار، تفوقه ليس بحكم الخلقة، بل هو شرف مشروط لا يناله إلا بالاستقامة والصلاح.

أولاً: قلب الهرم - عندما تكون البهيمة أكرم من الإنسان

يبدأ القرآن بوضع معيار القيمة الحقيقي، وهو ليس النوع أو الشكل أو الذكاء المنطقي، بل هو الإيمان والتعقل. استمع إلى هذه الآية التي هي كالصاعقة على رؤوس المتكبرين:
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنفال: 55).

تأمل! لم يقل الله إن شر الدواب هي الحشرات الزاحفة أو الوحوش الكاسرة. بل شر ما يدب على الأرض، في ميزان الله، هم البشر الذين عطلوا أسمى ما فيهم - نعمة العقل والإيمان. هذه الآية وحدها تكفي لنسف كل ادعاء بالأفضلية المطلقة. فالإنسان الذي يكفر هو أدنى وأحقر في ميزان الحق من أي بهيمة تسير على فطرتها وتسبح لربها.

ثانياً: لستم وحدكم - حقيقة الأمم الأخرى

ثم يأتي القرآن ليكشف لنا عن حقيقة كونية مذهلة، طمسها غرورنا لقرون:
﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38).

توقف هنا يا أخي وتدبر كلمة "أَمْثَالُكُم".
لم يقل الله "أمم أدنى منكم"، ولا "أمم مسخرة لكم"، بل "أمم أمثالكم". هذه المثلية تعني أن لهم مجتمعات، ولهم لغات، ولهم وعي، ولهم غايات، ولهم ذاكرة، ولهم شخصيات فردية. وجهلنا بلغاتهم لا ينفي وجودها، تماماً كجهل الأعجمي بلغة العرب.

والآية لا تتوقف هنا، بل تضيف حقيقة أعظم: "ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ".
لماذا يُحشرون؟ هل يُحشر العبث؟ حاشا لله. إن الحشر يقتضي وجود نوع من الحساب والعدل والمقاصة فيما بينهم، وربما شهادة لهم أو عليهم. إنها عوالم كاملة من الوعي والمسؤولية نجهلها تماماً.

ثالثاً: شهادات من قلب الميدان - هدهد سليمان ونملته

ولكي لا يبقى الأمر مجرد نظرية، يقدم لنا القرآن لمحات خاطفة ومدهشة من داخل هذه العوالم:

  • هدهد سليمان: لم يكن مجرد طائر ينقل رسالة. لقد قدم تقرير استخباراتي متكامل:
  • تحليل سياسي: "إني وجدت امرأة تملكهم".
  • تقييم اقتصادي: "وأوتيت من كل شيء".
  • وصف معماري: "ولها عرش عظيم".
  • تحليل عقدي (وهو الأعجب): "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله".
  • فهم لنفسية الشيطان: "وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون".

هل هذا كلام كائن بلا وعي؟ أم أنه كلام مستشار سياسي حكيم؟
  • نملة سليمان: لم تقل "اهربوا"، بل قالت قولاً يكشف عن منظومة وعي مذهلة:
  • وعي بالهوية الفردية والجماعية: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم".
  • تحديد دقيق للخطر: "لا يحطمنكم سليمان وجنوده". هي تعرفهم بالاسم والصفة!
  • فهم للنوايا (وهو الأرقى): "وهم لا يشعرون". هي تدرك أن سليمان وجنوده إن حطموهم، فلن يكون ذلك عن قصد وعدوان. هذا مستوى من الوعي الأخلاقي والنفسي لا يملكه كثير من البشر!

هذه ليست قصص أطفال، بل هي نوافذ فتحها الله لنا لنرى لمحة من الحقيقة الصادمة: نحن لسنا وحدنا من يعقل في هذا الكون.

رابعاً: نحن المتأخرون - في مدرسة الكون

إننا نتكبر ونحن أحدث الكائنات وعياً على هذا الكوكب. إن ممالك النمل والنحل والدلافين والحيتان، هذه الأمم التي تسبقنا بملايين السنين، أي حكمة تراكمت لديها؟ وأي علوم نقلتها عبر أجيالها؟ أي فهم للسنن الكونية تمتلكه ونحن نجهله؟ إننا كطفل مغرور دخل مكتبة عظيمة ورأى الكتب مرصوصة، فظن أنها مجرد ديكور لأنه لا يحسن القراءة.

خامساً: مقامك الحقيقي يا إنسان - بين أسفل سافلين وسدرة المنتهى

وهنا تأتي سورة التين لتضع الميزان الأخير، ولتحدد مقامنا الحقيقي بلا مواربة:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)﴾

  1. "أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ": هذا هو التكريم بالإمكانية. لقد أعطاك الله "الهاردوير" الأفضل: العقل، والإرادة الحرة، والقدرة على حمل الأمانة.
  2. "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ": هذا هو المصير الحتمي لمن يخون الأمانة. عندما يستخدم الإنسان عقله للكفر، وإرادته للفساد، فإنه يهوي إلى مرتبة لا تصل إليها البهائم، لأنه خان الإمكانية التي مُنحت له. يصبح "شر الدواب".
  3. "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ": هذا هو شرط الارتقاء. شرفك ليس في إنسانيتك، بل في إيمانك وعملك. فقط عندما تتواضع لخالقك، وتكون صالحاً في نفسك، مصلحاً في الأرض، محترماً لكل خلق الله، ساعتها فقط تبدأ رحلة الصعود من جديد، رحلة ترتقي فيها بوعيك وروحك لتكون أهلاً للتكريم الأول، ولتقترب من سدرة المنتهى، منتهى ما يمكن أن يصل إليه وعي مخلوق من قداسة الله ونوره.

فيا أيها الإنسان، اعرف قدرك. أنت لست سيد الكون، بل أنت "دابة" في اختبار عظيم. إما أن تنجح فتكون من المقربين، وإما أن ترسب فتكون في أسفل سافلين.

سجل المراجعات