الفصل الأول: الصدمة المنسية - الكشف عن الجرح الأول في وعي الإنسان
بسم الله النور الهادي إلى سواء السبيل، كاشف الظلمات، ومُنزّل الكتاب بالحق ليخرج الناس من ظلمات أهوائهم إلى نور ربهم.
الجزء الثاني: الغوص في أعماق النفس (أصل الداء البشري)
يا أخي، يا من سلكت معي دروب تحطيم الأصنام الخارجية،
لقد حطمنا معاً وثن الحصرية الدينية، ونسفنا صنم المركزية البشرية، ودككنا غرور "عمارة الأرض". كانت تلك كلها أصناماً منصوبة في ساحة العالم الخارجي. أما الآن، فقد حان وقت الرحلة الأهم والأخطر. حان وقت الغوص إلى الداخل، إلى تلك الأودية السحيقة والكهوف المظلمة في أغوار النفس البشرية، لنبحث عن أصل الداء، عن "فيروس" الخلل الأول الذي أصاب "برنامج" الفطرة، والذي تتفرع عنه كل أمراضنا وأوجاعنا.
إنها رحلة تتطلب شجاعة، لأننا سنواجه فيها حقائق دفناها عميقاً تحت طبقات من الإنكار. ولكنها رحلة لا بد منها، فمن لم يعرف أصل دائه، كيف يرجو دواءه؟
الفصل الرابع: الصدمة المنسية - الكشف عن الجرح الأول في وعي الإنسان
صرخة فرويد الصادقة في بئر مظلمة: هناك صدمة حقيقية
في مطلع القرن العشرين، قام رجل اسمه سيغموند فرويد بما لم يجرؤ عليه أحد قبله. لقد كان كالمستكشف الشجاع الذي قرر، بلا خريطة ولا مصباح، أن يهبط إلى بئر النفس البشرية المظلمة. غاص في أعماق اللاوعي، واستمع إلى همس الأحلام، وتتبع آثار زلات اللسان.
وخرج على العالم بصرخة مدوية، صرخة أنكرها عليه الكثيرون ولا يزالون، ولكنا نحن، بنور القرآن، نسمع فيها صدىً من الحقيقة. صرخ فرويد قائلاً: "إن في عمق كل إنسان منكم صدمة أولى عنيفة، جرحٌ بدائيٌّ غائر، دُفن تحت طبقات هائلة من النسيان والكبت والإنكار، ولكنه لا يزال حياً ينزف في الظلام، وهو المحرك الخفي لكل عصابكم وقلقكم وأمراضكم".
صدق فرويد في هذه الصرخة. نعم، صدق. لقد كان كمن هو في بئر عميقة وسمع صوت ماء يجري، فلم يعرف مصدره ولكنه تيقن من وجوده. لقد شعر بوجود هذا الجرح الأول، وأدرك أنه أصل كل شيء. وهذه البصيرة، في حد ذاتها، كانت فتحاً إنسانياً هائلاً. لقد وضع يده على موضع الداء، وأخبر الإنسان المريض بأنه مريض حقاً، وأن مرضه ليس مجرد نزوة عابرة، بل له جذر عميق في طفولته الأولى.
لكن هذا المستكشف الشجاع، لأنه كان يغوص بلا مصباح إلهي، أخطأ في تشخيص طبيعة هذا الجرح، وأخطأ في تحديد مصدره. لقد سمع صوت الماء، ولكنه حين بحث عن النبع، حفر في المكان الخطأ.
خطأ فرويد الكارثي: البحث في أسطورة أوديب بدلاً من قصة آدم
حين أراد فرويد أن يفهم طبيعة هذه "الصدمة الأولى"، ارتكب خطأً كارثياً سيحرف مسار علم النفس لقرن كامل. لقد تجاهل "التقرير الإلهي" المفصل عن أصل الإنسان وحالته النفسية (قصة آدم)، وذهب ليبحث عن الجواب في "فلكلور وثني" أنتجه الخيال البشري المريض نفسه (أسطورة أوديب).
وهنا الفرق بين المنهجين كالفرق بين السماء والأرض:
- أسطورة أوديب: هي قصة مظلمة من صنع البشر، تصف حالهم ولا تشرحه. إنها قصة عن شهوة محرمة، وقتل أب، ونكاح أم. إنها تضع أصل المأساة البشرية في "صراع جنسي" قذر وحتمي بين الابن وأبيه على جسد الأم. إنها رؤية مادية، حيوانية، لا ترى في الإنسان إلا غرائزه، ولا ترى في الوجود إلا صراعاً دموياً. إنها قصة تصف عرضاً من أعراض المرض، وظنته هو المرض نفسه.
- قصة آدم (عليه السلام): هي ليست أسطورة، بل هي "نبأ عظيم". إنها التقرير التشخيصي الدقيق الذي أرسله "صانع النفس" ليشرح لنا حالة النفس التي صنعها. إنها قصة نورانية تبدأ بالجنة والطهر والسكينة. أصل المأساة فيها ليس "شهوة"، بل "اختيار حر" للمعرفة. وصدمتها ليست "صراعاً جنسياً"، بل "انكشاف للضعف" و"وعي بالهشاشة". إنها قصة تبدأ بالكرامة، وتمر بالمسؤولية، وتنتهي بباب التوبة والرحمة مفتوحاً.
لقد كان فرويد كطبيب حاذق أراد تشخيص مرض غامض، وبدلاً من أن يقرأ تقرير الأشعة والتحاليل الدقيقة، ذهب يسأل الجيران والمرضى الآخرين عن تخميناتهم! فكيف لا يضل التشخيص؟ لقد وضع فرويد "الشهوة" في مكان "المعرفة"، ووضع "القتل" في مكان "الاختيار"، ووضع "الجنس" في مكان "الوعي".
قصة آدم ليست فلكلوراً، بل هي قصتنا المتكررة في كل طفولة
والآن، دع عنك أوديب وظلمته، وتعال معي لنرى كيف أن قصة أبينا آدم، كما يرويها القرآن، ليست مجرد حدث تاريخي وقع مرة وانتهى. كلا! إنها البرنامج التأسيسي (Operating System) الذي يُنسخ في وعي كل طفل منا. إنها ليست قصة نقرأها، بل هي قصة نعيشها حرفياً في طفولتنا.
انظر إلى هذا التطابق المذهل بين جنة آدم وجنة الطفل:
- الجنة الأولى (جنة الوحدة والسكينة):
حال آدم في جنته: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119)﴾.
حال الطفل في جنته (حضن أمه): هو بالضبط نفس الحال! إنه في حالة من الوحدة الكاملة، لا يعرف انفصالاً. لا يجوع لأن الطعام يأتيه، ولا يعرى لأن الدفء يحيط به، ولا يظمأ، ولا يتعرض لحر "شمس" الحياة ومخاطرها. إنه في جنة من الأمان المطلق، حيث كل حاجاته تُلبى قبل أن يشعر بها.
- الأكل من الشجرة (لحظة تفعيل الوعي):
ثم تأتي تلك اللحظة الفارقة. لحظة تبدأ فيها جينات الوعي بالانفصال في التفعيل. يبدأ الطفل تدريجياً بإدراك أنه كائن منفصل عن أمه، وأن هناك "آخرين" في الوجود. هذا هو "الأكل من الشجرة" الرمزي. إنه اختيار (غير واعٍ في البداية) لتذوق ثمرة "المعرفة" و"الوعي بالذات".
- الهبوط والصدمة (لحظة انكشاف الضعف):
وما هي النتيجة المباشرة لهذا الوعي الجديد؟ هي نفسها نتيجة آدم: ﴿فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾. إنها "الصدمة المنسية"! فجأة، يدرك هذا الكائن الصغير أنه ضعيف، هش، منفصل، وأن هذا الجسد الذي كان جزءاً من أمه صار كياناً مستقلاً ومكشوفاً. إنها لحظة ولادة الخوف، والخجل، والشعور بالوحدة، والحاجة إلى ستر هذا الضعف. إنها لحظة الخروج من جنة الوحدة الآمنة إلى أرض الكثرة والصراع.
فيا أخي، إن الجرح الأول الذي لم يفهمه فرويد ليس جرح "الشهوة المحرمة". إنه جرح "الانفصال"، وصدمة "الوعي بالضعف". هذا هو أصل قلقنا الوجودي، وهذا هو مصدر حنيننا الدائم إلى "جنة مفقودة"، وهذا هو ما سنفصل فيه القول في الفصل القادم حين نكشف عن المعنى الحقيقي للشجرة والسوءة.