في حكم الحيض: تحرير العقل من رجز الموروث إلى نور الذكر الحكيم
أيها القارئ الباحث عن الحق، يا من تسعى لتسلم وجهك لله حنيفًا وتتبرأ من كل شريك في حكمه وتشريعه، تعالَ معنا في رحلة إلى كتاب الله، لنقرأه قراءة جديدة، بعيون لم تلوثها غشاوة الموروث، وبقلب لم تقيده أغلال التقليد.
إن أعظم مأساة حلت بالأمة هي هجرانها لكتاب ربها تدبرًا وفهمًا، والاكتفاء بترديده دون وعي، ثم بناء صروح ضخمة من الفقه والتشريع على أسس غير قرآنية، وعلى تعريفات لمصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان. والنتيجة، كما نرى اليوم، دينٌ صعب، مُعقّد، مليء بالآصار والأغلال، يطرد الناس من رحمة الله بدل أن يقربهم إليها.
وسنتناول هنا قضية واحدة كمثال صارخ على هذا الانحراف المنهجي: قضية الحيض، وكيف تحولت حالة بيولوجية طبيعية وصفتها يد الرحمة الإلهية بكلمة "أذى"، إلى لعنة ونجاسة وعائق يحرم المرأة من أعظم صلة بربها: الصلاة.
قبل الحكم: هدم الأساس الباطل وبناء التصور القرآني
قبل أن نقرأ آية المحيض، يجب أن نحرر عقولنا من القاموس الفقهي الموروث ونعود إلى قاموس القرآن نفسه. إن الأحكام ما هي إلا نتائج لتصورات، والتصورات تُبنى على تعريفات. فإذا فسد التعريف، فسد التصور، وفسد الحكم لا محالة. تعالوا نضع النقاط على الحروف في مصطلحات مركزية:
- النجس (النجاسة): مفهوم روحي لا مادي
في كل القرآن، لم ترد كلمة "نجس" لوصف أي مادة فيزيائية (كالبول أو الدم أو المني). إنها صفة حصرية للشرك بالله، للنجاسة الروحية والفكرية. الدليل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا...﴾ [التوبة: 28]. هذه هي الآية الوحيدة التي تستخدم هذا الوصف. فالنجاسة في منطق القرآن هي حالة الشرك التي تقطع صلة الإنسان بربه. أما الأقذار المادية، فيستخدم لها القرآن لفظ "الأذى" أو "الخبائث". إن فكرة "النجاسة المادية" التي تبطل العبادات هي مفهوم غريب عن القرآن، تسرب إلينا من ثقافات وأديان أخرى، وعلى رأسها اليهودية المحرفة.
- الرجز (الرِّجْس): عذاب الوسوسة والاضطراب النفسي
هنا يكمن مفتاح فهم عظيم. لقد دأب المفسرون على ترجمة "الرجز" بأنها الأصنام، كلما استعصى عليهم فهمها، وكأن القرآن كتاب تاريخ يتحدث عن حقبة بائدة. لكن تدبر استخدام القرآن لهذه الكلمة يكشف عن معنى نفسي عميق ومزلزل.
الرجز هو حالة من الاضطراب النفسي القهري، والهلع، واليأس، والوسوسة التي تكبل الإنسان وتوقعه في دوامة لا قرار لها.
• هو العذاب الذي يقع على الأقوام الظالمة فيصيبهم بالهلع والاضطراب المتسارع (﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾).
• هو ما وصف الله به الخمر والميسر والأنصاب والأزلام (﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾). ولماذا؟ لأنها توقع الإنسان في "رجز" الإدمان والاضطراب القهري والسلوك المتكرر المدمر.
• هو ما أمر الله نبيه والمؤمنين بهجره هجرًا تامًا: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 4-5].
هذه الآية دستور حياة. طهّر ثيابك من الأذى المادي، ولكن الأهم من ذلك، اهجر الرجز! اهجر الوسواس القهري في الطهارة، اهجر الغلو في الدين، اهجر هذا الاضطراب النفسي الذي يجعل الدين عذابًا وشقاءً. إن الله يحذرك من أن الوقوع في فخ الوسوسة أشد خطرًا وأعظم إثمًا من بقاء أثر طين على ثوبك. فالأول يفسد القلب، والثاني يزول بالماء.
- الأذى: وصف للحالة لا حكم بالنجاسة
الأذى في لغة القرآن هو كل ما يسبب ضررًا أو إزعاجًا أو مشقة. وهو ليس مرادفًا للنجاسة ولا سببًا لمنع العبادة.
• ﴿...أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ...﴾ [البقرة: 196]. هنا الأذى (كمرض جلدي) سبب لفدية وتخفيف، لا لمنع الإحرام.
• ﴿...وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ...﴾ [النساء: 102]. هنا الأذى (من المطر والوحل) سبب لوضع السلاح أثناء صلاة الخوف، ولم تبطل الصلاة!
فإذا كان الأذى من المطر لا يبطل الصلاة، فكيف للأذى من الحيض أن يبطلها، والله لم يأمر بذلك؟!
التدبر العميق في آية المحيض: كشف مراد الله
الآن، وبعد أن طهرنا عقولنا من هذه التعريفات الباطلة، تعالوا نقرأ الآية بقلب سليم وعقل متجرد: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
لنفصّلها بدقة لغوية ومنطقية:
- "قُلْ هُوَ أَذًى": هذا هو التعريف الإلهي. الله لم يقل "هو نجس" أو "هي نجسة". قال "أذى". وهو وصف دقيق علميًا وطبيًا. ففترة الحيض فترة ضعف جسدي للمرأة، وتغيرات هرمونية، وآلام، كما أن بيئة الدم بيئة خصبة لنمو الميكروبات، والجماع في هذا الوقت قد يسبب التهابات ضارة للطرفين. إنه "أذى" بالمعنى الحرفي، أي شيء مؤذٍ ومزعج، وهو وصف موضوعي للحالة، لا حكم قيمي على المرأة.
- "فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ": هنا يكمن الإعجاز في حرف واحد. حرف الجر "فِي". لم يقل الله "فاعتزلوا المرأة الحائض"، الأمر الذي كان سيشمل ذاتها كلها. بل قال اعتزلوا النساء "في" المحيض. و"في" للظرفية المكانية أو الزمانية. أي: اعتزلوا الفعل الذي يتم في مكان نزول الدم، في زمان نزول الدم. الحكم مخصص وموضعي بشكل قاطع، ويتعلق بفعل محدد في مكان محدد، وليس بكامل جسد المرأة.
- "وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ": هذه الجملة تفسر ما هو الاعتزال المطلوب. "القربان" هنا هو كناية قرآنية بليغة عن الجماع والمباشرة الجنسية، كما في قوله تعالى عن الصيام ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ﴾، وعن الاعتكاف ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾. فلو كان مجرد الاقتراب من جسد المرأة محرمًا، لما كان هناك أي معنى للمس أو المعانقة أو أي تعامل إنساني طبيعي، وهذا قلبٌ لمعنى الآية وتحويله إلى تشريع بالقطيعة والعزل، وهو عكس رحمة الإسلام.
- "حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ": هنا دقتان لغويتان حاسمتان:
o يَطْهُرْنَ: فعل لازم يعني: حتى ينقطع الدم من تلقاء نفسه وتصبح طاهرة بشكل طبيعي. هذا فعل رباني لا دخل للمرأة فيه.
o تَطَهَّرْنَ: فعل متعدٍ يعني: فإذا قمن هن بفعل التطهر (الاغتسال بالماء). المعنى: أن الجماع يظل محرمًا حتى يتحقق شرطان: الأول، انقطاع الدم (يطهرن). والثاني، قيامها بالاغتسال (تطهرن). وهذا يؤكد مرة أخرى أن السياق كله من أوله لآخره يدور حول الجماع وشروطه، ولا علاقة له بالصلاة أو العبادات الأخرى.
النتيجة القاطعة من الآية: الشيء الوحيد الذي حرمه الله في فترة الحيض هو الجماع في الفرج. أما المرأة ذاتها فهي طاهرة، وجسدها طاهر، وروحها طاهرة، وصلتها بربها قائمة وموصولة. لها أن تصلي، وتصوم، وتقرأ القرآن، وتذكر الله، وتدخل المسجد. وكل قول غير هذا هو زيادة على شرع الله، وتضييق لرحمته، ووقوع في "الرجز" الذي أُمرنا بهجره.
لماذا الوضوء والغسل إذن؟ فهمٌ جديد للطهارة
إذا كان الأمر كذلك، فما حكمة الوضوء بعد ملامسة النساء، والغسل من الجنابة؟ هنا نعود إلى أساس المشكلة: الفهم الخاطئ للطهارة.
• الغسل من الجنابة: الجنابة ليست نجاسة. فالمني الذي هو أصل الخلق لا يمكن أن يكون نجسًا. لكن الجنابة هي حالة بيولوجية تعقب القذف، يفرز فيها الجسم هرمونات تسبب الخمول والارتخاء (الكسل). والغسل بالماء ينشط الدورة الدموية ويعيد للجسم حيويته، فهو ليس لغسل "قذارة"، بل لكسر حالة بيولوجية وإعادة النشاط للبدن والروح استعدادًا للوقوف بين يدي الله.
• الوضوء: كذلك نواقض الوضوء التي ذكرها القرآن (المجيء من الغائط أو ملامسة النساء) ليست "نجاسات". فالغائط "أذى" نتطهر منه بالفطرة. أما "ملامسة النساء" (بالمعنى الذي يثير الشهوة)، فهي حالة نفسية وجسدية تخرج الإنسان من سكونه، والوضوء يعيد له هذا السكون والتركيز اللازم للصلاة.
وهنا نصل إلى تدبر أعمق قد أشرتَ إليه، وهو جدير بالتأمل: عالم الميكروبات والكائنات الدقيقة. لقد أثبت العلم الحديث أن البكتيريا تتواصل فيما بينها (استشعار النصاب Quorum Sensing) وتعمل ككائن واحد واعٍ عند اكتمال نصابها. فما المانع أن تكون أماكن القاذورات هي أماكن اكتمال نصاب لكائنات دقيقة لها وعي يؤثر سلبًا على وعينا، وأن يكون الوضوء هو عملية "كسر" لهذا النصاب وحماية لطاقتنا الروحية والنفسية من هذه الوساوس (رجز الشيطان)؟ هذا ليس بعيدًا عن منطق القرآن الذي يخبرنا عن عوالم لا نراها.
الخلاصة النهائية: أيتها الأخت الفاضلة، وأيها القارئ الكريم، إن الله أرحم بعباده من أن يحرم امرأة من الصلاة لأمر طبيعي كتبه على بنات آدم. إن هذا التحريم هو من بقايا الفكر الذي كان يرى المرأة كائنًا ناقصًا ودنسًا. أما في ميزان القرآن، فالمرأة والرجل نفس واحدة، يتوجهان لرب واحد، ولا يقطع صلتهما به إلا الشرك بالله.
قفي للصلاة بقلب مطمئن. طهّري ثيابكِ وبدنكِ من الأذى قدر الاستطاعة، واهجري "رجز" الوسوسة والتشدد هجرًا جميلاً. إن صلاتكِ وأنتِ حائض هي تطبيق مباشر لكتاب الله، وتمرد على كل موروث باطل، وإعلان صادق بأن لا مشرّع إلا الله.