خاص: السحر، الجن، والشياطين - فك شفرة العلم المفقود والميثاق المنسي
مقدمة للقارئ: رحلة إلى ما وراء الخرافة
أيها القارئ الكريم، قبل أن تتابع، عليك أن تخلع عن عقلك كل ما ورثته من صور شعبية وخرافات وأفلام حول السحر والجن. نحن هنا لنقوم بعملية "فك تشفير" لمفاهيم قرآنية عميقة، تم تسطيحها عمدًا أو جهلاً عبر القرون، وتحويلها إلى قصص أطفال. القرآن لا يتحدث عن مشعوذ يرتدي قبعة مدببة، ولا عن جني أزرق يخرج من مصباح. القرآن يتحدث عن حقائق كونية، وعن تاريخ منسي للبشرية، وعن علوم كانت يومًا بين أيدينا.
هذا الفصل ليس تكرارًا للأساطير، بل هو تدبر مباشر في آيات الله، لنستعيد الصورة الحقيقية كما يعرضها القرآن وحده.
أولًا: إعادة تعريف "السحر".. من الشعوذة إلى العلم الخطير
الخطأ الأول الذي نقع فيه هو ظننا أن "السحر" مجرد خداع بصري أو حيل تافهة. القرآن يتحدث عن شيء أكثر تأثيرًا وعمقًا. كان السحر في أصله "عِلْمًا" حقيقيًا، له أصوله وقواعده، علمٌ خطير وقوي، يمكن تشبيهه في عصرنا بـ "العلم النووي". فالعلم النووي بحد ذاته ليس خيرًا ولا شرًا، بل هو معرفة بقوانين المادة والطاقة؛ يمكن أن يضيء مدنًا، ويمكن أن يمحوها. طريقة استخدامه هي ما تحدد طبيعته.
الدليل القرآني على أن السحر كان "عِلْمًا" يُعلَّم، وليس مجرد كفر مباشر، هو الدليل الأكثر إثارة للجدل في القرآن، قصة الملكين في بابل: ﴿...وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ...﴾ [البقرة: 102].
لنتوقف ونتدبر هذا النص المزلزل بعمق:
- مصدر العلم: يقول النص ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾. هذا العلم "أُنزل" على مَلَكين. هذا يعطيه في أصله مصدرًا ليس شيطانيًا. إنه معرفة نزلت كاختبار وامتحان (فتنة) للبشر في تلك الحقبة.
- التحذير لا التحريم: المَلَكان كانا يُعلّمان هذا العلم، لكن مع تحذير واضح وصريح: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾. لم يقولا "لا تتعلم"، بل قالا "لا تكفر". هذا يعني أن "الكفر" هو أحد الاستخدامات المحتملة لهذا العلم، وليس العلم نفسه. الكفر هنا هو استخدام هذه القوة في الإضرار، والظلم، والتفريق بين المرء وزوجه، والتمرد على شريعة الله. لو كان العلم بحد ذاته كفرًا، لما أنزله الله على ملائكته لتعليم البشر، حتى على سبيل الاختبار.
إذًا، نحن نتحدث عن علم حقيقي، له قوة تأثير حقيقية (﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾)، وكان تعلمه في تلك الحقبة متاحًا، لكن استخدامه كان هو المحك بين الإيمان والكفر.
ثانيًا: إعادة تعريف "الجن".. موضوع العلم المفقود
إذا كان السحر هو "العلم"، فما هو موضوع هذا العلم؟ ما هي القوة التي كان يتعامل معها؟ القرآن يجيب: الجن.
ومرة أخرى، علينا أن نمحو من أذهاننا صورة الجني الفولكلورية. القرآن يقدم لنا ملفًا تعريفيًا لكائنات حقيقية، ذات خصائص مذهلة:
• كائنات أقدم من الإنسان: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: 27]. هم أقدم منا بآماد سحيقة، مما يعني أنهم مروا بمراحل تطور لا يمكننا تخيلها.
• كائنات ذات طبيعة مختلفة: خُلقوا من ﴿مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن: 15]، أي لهب صافٍ مضطرب، أو طاقة نقية. وعيهم ليس كوعينا البشري المبني على خلايا عصبية مائية فيزيائية، بل هو وعي طاقي، وهذا هو سر خفائهم عنا: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27].
• كائنات واعية وذات قدرات هائلة: القرآن لا يصفهم كأشباح، بل كقوة عاملة ومنتجة. فهم من كانوا يعملون لسليمان: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ: 13]. هذه ليست أعمالاً بسيطة، بل هي فنون وصناعات ثقيلة وهندسة معمارية متقدمة. وأبلغ دليل على قدرتهم هو قصة عرش بلقيس، حين قال عفريت من الجن: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: 39]. هذا ليس سحرًا بمعنى الخفة، بل هو نقل آني لجسم مادي ضخم، وهو ما تحلم به الفيزياء الحديثة.
وهنا نصل إلى نقطة تدبر عميقة: لقد أشرتَ إلى ظاهرة "استشعار النصاب" (Quorum Sensing) في عالم البكتيريا، حيث تتصرف كائنات دقيقة كوعي جماعي واحد. هذا يجعلنا نتساءل: إذا كانت أبسط الكائنات الحية تمتلك هذا الوعي الجماعي، فما بالنا بكائنات أقدم منا بمليارات السنين، ومخلوقة من طاقة صافية؟ ما المانع أن يكون "الجن" هو وعي طاقي متقدم لهذه الكائنات؟ وربما كان "علم السحر" هو معرفة قوانين الفيزياء والطاقة التي تمكّن الإنسان من التفاعل مع هذا الوعي الجماعي وتسخيره. ولعل هذا ما كان يقترب منه العالم "نيكولا تسلا" حين رصد ترددات كونية منتظمة وكان على يقين أنها من مصدر ذكي، قبل أن تنتهي حياته ومشاريعه في ظروف غامضة.
ثالثًا: نقطة التحول.. سليمان والميثاق الذي غيّر كل شيء
بلغ هذا العلم ذروته المطلقة مع نبي الله سليمان، الذي لم يكن ساحرًا (﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾)، بل آتاه الله المعرفة والقدرة للتحكم في هذه القوة الكونية تسخيرًا كاملاً، ولكن بإذن ربه ومراقبته (﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾).
لكن هذه القوة المطلقة كانت هي فتنته الكبرى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]. هذا "الجسد" الذي أُلقي على كرسيه لم يكن مجرد جثة، بل كان رمزًا وتجسيدًا للقوة المطلقة التي بين يديه، قوة جعلته على حافة أن يتحول إلى طاغية، لكنه أدرك الفتنة ورجع إلى الله (﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾).
وبعد أن رأى بعينيه هذه القوة المرعبة وفتنتها التي لا يقوى عليها بشر عادي، دعا سليمان دعوة غيرت مجرى التاريخ، وأغلقت هذا الباب إلى الأبد. لم تكن دعوته أنانية، بل كانت قمة المسؤولية والحكمة: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35].
هذه الدعوة كانت بمثابة "ميثاق إلهي"، طلب من الله أن يجعل هذا النوع من التسخير الكامل للجن حكرًا عليه، وأن يُغلق هذا العلم وهذه القدرة عن البشر من بعده. كانت هذه الدعوة "إعلان تحرير" لعالم الجن من استعباد البشر، وفي نفس الوقت حماية للبشرية من فتنة وقوة لا يمكنها التعامل معها دون أن تدمر نفسها.
رابعًا: حكم السحر اليوم.. بين الحرام القاطع والتدبر المفتوح
بناءً على هذا الميثاق السليماني، تغير وضع هذا العلم تمامًا. وهنا يجب أن نفرق بدقة بين ما هو قطعي، وبين ما هو مجال للتدبر:
- الطريق المحرم قطعًا: إن القرآن يخبرنا بوضوح أن الطريق الوحيد المتاح اليوم للوصول إلى بقايا هذا العلم هو عن طريق الشياطين: ﴿وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾. هذا الطريق محرم تحريمًا قاطعًا، لا مجال فيه للنقاش، لأن مدخله هو الكفر والتمرد على الله، وعقد العهود مع الشياطين، وهذا بحد ذاته خرق لميثاق العبودية لله، واعتداء على الميثاق السليماني. فمن يسلك هذا الدرب، فقد اشترى الضلالة بالهدى، ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾.
- الطريق العلمي التجريبي (مجال التدبر): ولكن، ماذا لو استطاعت البشرية في المستقبل، عن طريق تطور الفيزياء وعلم الطاقة، أن تكتشف قوانين هذا العالم بنفسها، دون أي اتصال أو عهود مع الشياطين؟ ماذا لو أصبح "تسخير الجن" علمًا تجريبيًا بحتًا؟ هذه مسألة مختلفة تمامًا، وهي في صميم مجال التدبر والاستنباط. لا يمكننا الجزم بتحريمها أو إباحتها، بل يجب التوقف فيها حتى تتضح معالمها. كل ما نقوله هنا هو محاولة للفهم وفتح لآفاق التفكير، والله وحده الأعلم بمراده.
ومع ذلك، حتى لو تم اكتشافه، يظل علمًا خطيرًا بطبيعته، لأنه يعتمد على التأثير في الوعي والتعامل مع قوى غير منظورة. ولهذا قال الله بوضوح ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾. فالمشتغل به، كمن يعمل في مفاعل نووي بلا حماية، سيتأثر حتمًا بهذا "الرجز" الطاقي والنفسي، ويصيبه الداء الذي يريد أن يصيب به غيره.
وهكذا، نرى كيف تحول علم كان يومًا ما متاحًا كفتنة، إلى فن محرم لا يُنال اليوم إلا بالكفر، وباب لا يوصل إلا إلى الضرر والهلاك في الدنيا والآخرة.