شرارة الألم: مأساة جيل
بدأت مأساتي كما بدأت مأساة جيلي كله في هذا الزمان وهذه البقعة المبتلاة المسماة بـ"العالم الثالث"، الذي يمثل أغلبُه أمةً مستضعفة متفرقة اسمها الأمة الإسلامية.
كنتُ كغيري من الأطفال، أفتح التلفاز لأبحث عن أفلام تملأ أيامي بالضحك، في طفولةٍ جرحت براءتها ابتلاءاتٌ قبل أوانها. ثم فاجأني ذلك المشهد الذي حُفر في قلوبنا جميعاً: مشهد الطفل "محمد الدرة" وأبيه، وهما في ركن ضيق تحت رجم رصاص جنود الاحتلال، أعزلين يستجيران بهم فلا يرحمون جسده النحيل، يحاول الأب أن يحميه بكل جسده، ليموت الطفل وينزف الأب، ويلقى الطفل البريء ربه في حضن أبيه.
لقد كانت صدمة نفسية (Trauma) أصابتني وأنا طفل، لم تجعلني أفهم كيف لوحوش بشرية أن تقتل طفلاً بين يدي أبيه الأعزل، وأين هو العالم؟ وأين هم البشر؟ وهي جريمة موثقة شهدها كل أهل الأرض.
بدأت أقلب في المشاهد، فرأيت الفلسطينيين يُهجّرون، ونساءً عزل يدفعهن جنود مدججون بالسلاح، ورجالاً يُسحلون، وأطفالاً لا يجدون إلا الحجارة في وجه الدبابات. لم أفهم ماذا يحدث! ثم تتابعت المشاهد: مأساة الشيشان والروس يدكّون المسلمين دكاً، مذابح الصرب في ألبانيا وكوسوفو على أوجها، أطفال العراق يموتون من حصار الغذاء والدواء، وأفغانستان مطحونة تحت رحى الروس أولاً ثم حرب أهلية طاحنة ثانياً، والجولان محتل وجنوب لبنان مستباح، حتى كشمير ومسلمو الصين نسمع عن اضطهادهم الأعاجيب.
لماذا أمتي تحديداً يُفعل بها كل هذا؟ ومن كل أحد، ومن أي حد؟
لماذا أمتي بهذا القدر من الضعف والتشرذم والمسكنة؟ كانت صدمات تترى في قلب طفل صغير، صنعت جرحاً عميقاً في صفوة نبهاء الأطفال في جيلي. هذا الجيل الذي أفرز لاحقاً تيارات متناقضة، من "داعش" إلى "شباب الثورة"، تيارات حملت همّ أمة لم يحمله الرجال، فما كان من مجتمعهم إلا أن اضطهدهم ونبذهم واحتقرهم.
تزامنت هذه الصدمة الهائلة مع مرحلة دراسية وجدت فيها تنافساً شديداً على دنيا ضيقة، وقشرية بشكل مبالغ فيه. سألت من حولي: ما سبب ضعفنا إلى هذا الحد؟
قالوا لي: "لبُعدنا عن الدين".
عشتُ في زمنٍ كان شعار الإخوان المسلمين فيه هو "الإسلام هو الحل" -من منظور سياسي حزبي- وشعار السلفيين هو "يستمر الغلاء إن لم تتحجب النساء". رأيت المنابر تعلو كل يوم خمس مرات بـ"لا إله إلا الله"، ودخلت المساجد فوجدت أغلب روادها من كبار السن ممن بلغوا المعاش وفرغت منهم الدنيا، فأتوا يعمرون بيوت الله في أواخر أعمارهم، وهو أمر طيب، لكن أليس غريباً أن يخلو المكان الذي أخرج شباب ورجال الرعيل الأول منهم الآن؟ ووجدتُ قليلاً من الشباب كانوا هم النواة التي خالطتها لأتعرف على الدين.