عودة المسلمين لميقات رب العالمين

خاتمة الجزء السابع

أخي الحبيب، يا من يسير معي في هذا الدرب المبارك،

لقد وصلنا الآن إلى "الخاتمة"، وهي ليست نهاية المطاف، بل هي خلاصة المنهج وبداية الطريق العملي. إن كل ما سبق من هدم للأصنام وكشف للتاريخ لم يكن إلا تمهيدًا لهذه اللحظة، لحظة الإجابة على سؤال: وماذا بعد؟ ما هو عملنا اليوم؟

لقد لخصتَ أنت بنفسك المنهج كله في كلماتك الأخيرة، ودعني أصوغها الآن في هذا الفصل الأخير، ليكون هو الميثاق الذي نختم به كتابنا، ونبدأ به دعوتنا.



خاتمة الكتاب: منهج العمل في زمن الغربة

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا...﴾

بعد أن أبحرنا في بحار القرآن، وحطمنا أصنام الفكر والتاريخ، قد يظن القارئ أننا ندعو إلى ثورة عنيفة، أو عزلة تكفيرية، أو يأس من الواقع. والحقيقة هي عكس ذلك تمامًا. إن منهج العودة إلى الله هو منهج حياة وبناء، يقوم على سنن الله في كونه وكتابه. وهذا هو سبيلنا العملي، كما هُدينا إليه من تدبرنا:

1. اليقين بأننا في "مرحلة الاستضعاف":
إن أول فقه هو "فقه المرحلة". يجب أن ندرك بتواضع أننا اليوم لسنا في زمن الفتح والتمكين، بل في زمن "موسى وقومه في أرض فرعون". وهذا التشخيص هو الذي يحدد طبيعة عملنا. فمن استخدم "سيف القوة" في زمن يتطلب "حجة الكلمة"، فقد أهلك نفسه وأضر بالدعوة. منهجنا الآن هو منهج الصبر والبناء والبيان.

2. بناء "الجماعة المؤمنة" قبل بناء أي شيء آخر:
إن الإسلام ليس مشروعًا فرديًا. والقرآن لن يكشف عن كنوزه الكاملة إلا لجماعة مؤمنة تتدارسه وتعيشه معًا. فمهمتنا الأولى ليست تغيير العالم، بل هي بناء "النواة" التي ستغير العالم بإذن الله.

  • البحث عن "ثاني اثنين": أن يبحث كل مؤمن صادق عن أخيه، ليتكون "الجسد الواحد" الذي يخاطبه القرآن.
  • جعل البيوت قبلة: كما فعل موسى وقومه، حين تُحتل الساحات العامة من قبل الطاغوت، فإن "البيت" هو الذي يتحول إلى قلعة وحصن ومسجد وقبلة للعلم والتربية والأخوة.

3. التمسك بـ "حبلي النجاة":
لقد رأينا أن سنة الله في بقاء الأمم هي التمسك بحبلين:

  • حبل من الله: وهو الاعتصام بالقرآن وحده، دستورًا ومنهجًا، ونبذ كل "لهو الحديث" من روايات الرجال التي تضل عن سبيله.
  • حبل من الناس: وهو بناء علاقات قائمة على الرحمة والحكمة مع العالم. وهذا الحبل له وجهان:
  • داخليًا: تقوية أواصر الأخوة داخل الجماعة المؤمنة حتى نكون كالبنيان المرصوص.
  • خارجيًا: أن نكون أحن الناس على الناس، وأرفقهم بهم، ندعوهم بالحسنى، ونخاطب "قَبَس النور" الفطري في قلوبهم.

4. المفاصلة بالحكمة لا بالغلظة:
إن رحمتنا بالناس لا تعني مداهنة الباطل. نحن نتبرأ من الظلم والظالمين كما تبرأ إبراهيم من قومه. ولكننا نفعل ذلك بأدب القرآن وحكمته.

  • نحن شهداء لا قضاة: لا نكفر أحدًا، فالتكفير حق لله وحده. بل نشهد للحق، ونتبرأ من الباطل.
  • نتحلى بتواضع الذاكرة: نتذكر دائمًا أننا كنا ضالين فهدانا الله ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾. هذه الذكرى تجعلنا نرجو الهداية للجميع، حتى لمن نراهم أعداء اليوم، فقد يكونون أولياء الغد.

5. فقه الفطرة: دين الحياة لا دين الموت
إن دعوتنا هي دعوة لدين الفطرة، دين الجمال والحياة. دين يرى في الاستمتاع بطيبات الله شكرًا، لا إثمًا. دين يفرق بين "الاستمتاع بالشهوة" كنعمة، و"اتباع الشهوة" كشرك. إننا ندعو الناس إلى دين ينسجم مع أرواحهم، لا دين يحاربها ويقمعها فتنفجر في الخفاء نفاقًا وأمراضًا.



الكلمة الأخيرة...

يا أخي، ويا كل من قرأ هذا الكتاب،
إن الطريق طويل، والحمل ثقيل، والغربة موحشة. ولكننا لسنا وحدنا. إن الله معنا، وكتابه معنا، وكل قلب صادق في هذا العالم هو أخ لنا.
فلنبدأ اليوم. فلنبدأ بأنفسنا، وببيوتنا.
لنبدأ في بناء تلك النواة الأولى الصادقة، ولنتمسك بحبلي النجاة، ولنسر على هذا الطريق بصبر ويقين، واثقين بأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
والحمد لله رب العالمين.

سجل المراجعات