عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الحكم على الناس أعياناً وفرقاً حق خالص لله

لقد هزتني آية في كتاب الله لم أكن أفهمها حق فهمها حتى راجعت كل معتقدي الذي ورثته، وهو قول الله تعالى في سورة البقرة:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [البقرة: 113].
ما هذا؟ أليس الله نفسه من ذم اليهود في أكثر من موضع وقال إنهم أشد الناس عداوة؟ كيف هنا يعتبر من قال إنهم "ليسوا على شيء" من الذين لا يعلمون؟ ولماذا؟ الجواب: لأن الله اختص الحكم النهائي على عباده لذاته، وما اختص به لنفسه لا يجوز لمخلوق أن ينازعه فيه.
والعجيب أن الآيات قبلها تتكلم عن ضلال اليهود والنصارى بادعائهم ﴿...نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ...﴾ [المائدة: 18]. وهنا الحقيقة التي يجب أن نتنبه لها: في كل فرقة من أهل الكتاب جزء من الحق يحاولون اتباعه، وكثير من بسطائهم وعوامهم، بل وبعض زهادهم وعبادهم، تقوم في قلوبهم وحدانية الله خالصة، وهم ليسوا من صفوة الكهنوت وأهل التبديل، وربما لا يفهمون كثيراً من طلاسمهم. وهذا واقع، فلو سألت عامياً سنياً اليوم ماذا تعرف عن قضية خلق القرآن، لن يفهم كثيراً من تأصيلات متكلمة المذاهب، لكنه في النهاية معظِّمٌ للقرآن.
وأنا أقول إن كل فرقة كتابية ستجد فيها مزيجاً من شيء من حق. بل حتى كفرة أهل الكتاب أنفسهم، قال الله عنهم: ﴿...إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ...﴾ [آل عمران: 112]، فحبل الله هو بقايا الرسالة والمعروف الذي يتمسكون به، فحتى هذه البقية من الكتاب جعلها الله لهم سبباً لبقائهم رغم ذلتهم ومسكنتهم. فالله أنصف حتى كفرة أهل الكتاب في دنياهم، وقَبِلَ من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فربما كان أعجمي لم تبلغه حجة الإسلام الحق إلا مشوهة على يد المتأخرين، فعمل بما وصله من الحق كالفيلسوف "كانط" وغيره ممن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً، فالله أعلم بحالهم.
وهنا يجب أن نقول كلمة حق: إن توكيل الحكم لله على الأعيان والفرق والجماعات ليس مسألة تنفلية، بل هو من أصل الإسلام والإيمان، والتجرؤ عليه هو تجرؤ على حق الله الذي اختص به نفسه مراراً في القرآن. وهذه بعض الآيات الدالة يقيناً على اختصاص الحكم على الناس به وحده:
• الحكم والفصل يوم القيامة لله وحده:
o ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج: 17].
o ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [السجدة: 25].
o ﴿...إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ...﴾ [الزمر: 3].
• واجب المؤمنين هو الصبر حتى يحكم الله:
o ﴿...وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [الأعراف: 87].
أدب الدعوة القرآني: المفاصلة لا المحاكمة
ولقد سمعتُ في تفسير الشيخ الشعراوي رحمه الله لهذه الآية ما هز وجداني – فجزاه الله عني خيراً فيما نقله لي من نعمة الفهم لكلام الله – في باب قوله تعالى في سورة سبأ:
﴿...وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [سبأ: 24-25].
إن رغم أن المحاججة على أصل أصول الدين، وأن المباينة والمفاصلة والبراءة تامة، فإن في منهج الله الذي وضعه للمؤمنين في الدعوة حكمة كبرى. فبما أن الكفار يتهمون المؤمنين بأنهم "يجرمون" في حق أسلافهم، جاء الرد القرآني من جنس قولهم، فنسب المؤمنون "الإجرام" لأنفسهم (افتراضاً)، ونسبوا مجرد "العمل" لخصومهم. لماذا هذا الأدب الرفيع؟
لأن المؤمن الحق يبرأ من الفعل الباطل، لكنه يكل حكم الفاعل لله العليم بذات الصدور. فقد يخرج من أصلاب الكافرين من يؤمن، وقد يزيغ من يظن في نفسه الإيمان. ولذلك، منهج الأنبياء هو البراءة من المناهج الباطلة ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ...﴾ [الممتحنة: 4]، وهو كفر بالفعل والمعتقد الباطل، وليس تكفيراً للشخص بعينه.
عقوبة من سرق حق الله
لقد جاء الجزاء من جنس العمل. فلما نازعوا الله في حقه بالحكم على الفرق، كانت النتيجة ما وصفته الآية التالية لآية [البقرة: 113] مباشرة:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ...﴾ [البقرة: 114].
لقد فهمت الآن سر ترابط الآيتين. إن كل فرقة تبدأ بتكفير الأخرى، تسعى لمنعها من مساجد الله، فتسعى في خرابها المعنوي بمنع ذكر اسم الله الحق فيها، وتدريس العلم الصحيح، وتحويلها إلى منابر للفرقة والتحزب. فكانت العقوبة أن أذاقهم الله من نفس الكأس، فصارت كل الفرق تدخل المساجد خائفة؛ السلطان يخشى الاغتيال، والعالم يخشى بطش السلطان، والعامي يخشى عيون المخبرين. لقد تحولت بيوت الأمان إلى بيوت رعب، جزاءً وفاقاً.
وعلى النقيض تماماً، فبينما هم أجرأ الناس على التكفير والحكم، تجدهم أول الناس إرجاءً ومداهنةً للطواغيت والفساق، وأول الناس وشاية بأهل الإيمان.



المحور الثاني: الحقيقة المزعجة - هل كان القرآن "خارجياً"؟
بعد أن أسسنا أن الحكم لله، نأتي الآن للتهمة نفسها: هل القول بأن الإصرار على الكبائر يوجب الخلود في النار هو قول "خارجي"؟ إذا كان الأمر كذلك، فماذا سنفعل بالآيات الصريحة في كتاب الله؟
إن فقهاء التراث، لكي يبرروا موبقات حكامهم ويفتحوا لأنفسهم باب "الأماني"، تجاهلوا نصوصاً قرآنية قاطعة، وحولوها إلى "متشابهات"، أو اخترعوا لها شروطاً من عند أنفسهم كـ"الاستحلال القلبي". دعونا نعرض بعض آيات القرآن عليهم، ونسأل: هل هذا قول الله، أم قول الخوارج؟
  1. المعصية العامة وتعدي الحدود:

o في سورة النساء، وبعد تفصيل أحكام المواريث، يأتي التحذير القاطع: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: 14].
  1. الفاحشة والإصرار عليها:

o في نفس السورة، يوضح الله أن التوبة ليست لمن يموت مصراً على السيئات: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 18]. لقد ساوى الله بين مصير من مات مصراً على السيئات ومن مات كافراً.
  1. القتل والزنا والشرك:

o في سورة الفرقان، يقرن الله الشرك والقتل والزنا، ويجعل جزاء فاعلها: ﴿...يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُdْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان: 69].
  1. أكل الربا:

o في سورة البقرة، يقول الله بوضوح: ﴿...فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 275]. الخلود هنا معلق على مجرد "العودة"، لا على "الاستحلال".
إن هذه الآيات وغيرها، كقول هابيل لأخيه ﴿...فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ...﴾ [المائدة: 29]، تؤكد حقيقة فيزيائية كونية: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123].
ولو عُرضت هذه الآيات على أحدهم دون أن يعلم أنها من القرآن، لقال فوراً: "هذا قول الخوارج"! وهذا يثبت أن عقيدتهم مصادمة للقرآن وليست مستنبطة منه، وأنهم صنعوا ديناً "مريحاً" للطغاة، يضمن لهم الجنة بالأماني لا بالأعمال.


خاتمة: الإيمان عمل لا أماني
لقد أراد فقهاء السوء أن يحولوا الدين إلى مجموعة من "الأماني" والمعتقدات النظرية، ليفصلوا الإيمان عن العمل. فقالوا إن مرتكب كل الموبقات سيدخل الجنة ما دام على "العقيدة الصحيحة"، ولم "يستحل" بقلبه ما فعل. وبهذا، برروا لكاتب "آية الرجم" المفتراة جريمته، فهو لم يستحل الكذب، بل فعله "لمصلحة"! وبرروا للقاتل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، بل ولو قتل الملايين، ما دام على "عقيدتهم".
لكن القرآن يهدم هذا البنيان الزائف من أساسه. فالإيمان ليس كلمة تقال، ولا عقيدة نظرية، بل هو ما وقر في القلب وصدقه العمل الصالح. والنجاة ليست بأمانينا ولا أماني أهل الكتاب [النساء: 123]، بل هي برحمة الله التي ينالها من تاب توبة نصوحاً، وكفر الله عنه سيئاته، ودخل في زمرة الأبرار الصادقين الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون.
• ﴿...رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 193].
• ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ...﴾ [الأنفال: 29].
• ﴿...وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 71].
إنها دعوة للعودة إلى دين الاستسلام الكامل لله، حيث العمل هو الميزان، والتوبة هي السبيل، والرحمة هي المرتجى.

الفصل (...): ميثاق الطاعة وجريمة التحريف - تشريح آيات المائدة
مقدمة: بصمات الانحراف في كتاب الله
حين يقرأ المرء القرآن، يجد فيه قصص الأولين، وقد يظنها مجرد تاريخ مضى. لكن المتدبر يرى فيها قوانين ثابتة، وسنناً لا تتبدل، وبصمات تكشف كيف تبدأ الأمم رحلتها على الهدى، ثم كيف تنقض ميثاقها، وكيف تتدرج في الضلال حتى تصل إلى تحريف كلام ربها.
إن الآيات (12-13) من سورة المائدة ليست مجرد حكاية عن بني إسرائيل، بل هي "دراسة حالة" قرآنية، و"خريطة طريق" تكشف لنا بالتفصيل مراحل السقوط، وتفضح لنا نفس الآليات التي استُخدمت في أمتنا لتحويل دين الله من منهج حياة وعمل، إلى دين كهنوت وأماني. دعنا نشرّح هذه الآيات، لنرى كيف فضح الله جريمة التحريف في مهدها.

  1. أساس الميثاق: الطاعة العملية لا العقيدة النظرية

يبدأ الله القصة بوضع الأساس الذي قامت عليه علاقته مع بني إسرائيل، وهو "الميثاق". فما هي بنود هذا الميثاق الإلهي؟
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...﴾ [المائدة: 12].
تأمل جيداً يا باحث عن الحق. إن شروط الميثاق كلها أعمال جوارح ظاهرية:
• إقامة الصلاة: عبادة عملية فيها اتصال بالخالق وصحة للبدن ونجاة للروح.
• إيتاء الزكاة: عبادة مالية عملية تضمن حق الفقير والمسكين وتطهر المجتمع من الشح.
• الإيمان بالرسل وتعزيرهم: ليس مجرد تصديق قلبي، بل نصرة عملية وحماية وتأييد.
• إقراض الله قرضاً حسناً: إنفاق عملي في كل سبل الخير، من كفالة الضعفاء إلى دعم العلم الذي به تقوم الأمم.
إن الميثاق هنا هو ميثاق طاعة عملية، يقوم على فعل الأوامر والانتهاء عن النواهي. إنه دين عمل وحياة، وليس مجموعة من النظريات الكلامية التي يتجادل فيها المتكلمون.
  1. نقض الميثاق وعاقبته: اللعنة وقسوة القلب

ماذا حدث عندما تخلوا عن هذه الأعمال؟ تأتي الإجابة مباشرة وقاطعة في الآية التالية، لتكشف عن السنة الإلهية التي لا تتبدل:
﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً...﴾ [المائدة: 13].
إن "نقض الميثاق" هنا هو مجرد تركهم لتلك الأعمال التي عاهدوا الله عليها. لم يقل القرآن "بما أنهم استحلوا ترك الصلاة"، بل ربط اللعنة مباشرة بـ"نقض الميثاق"، أي ترك الطاعة العملية.
وهنا نرى أولى ثمار المعصية: اللعنة (وهي الطرد من رحمة الله وتوفيقه)، وقسوة القلب. إن القلب الذي يهجر العمل الصالح، يقسو ويظلم ويفقد القدرة على الإبصار، ويصبح تربة خصبة للجريمة الفكرية التالية.
  1. آلية التحريف: من القلب القاسي إلى الكلم المحرّف

إن القلب القاسي لا يطيق أن يواجه كلام الله الصريح، لأنه يراه حجة عليه وكاشفاً لزيفه. فماذا يفعل؟ يلجأ إلى الجريمة الكبرى:
﴿...يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ...﴾ [المائدة: 13].
هذه هي الآلية بالتفصيل:
  1. التحريف: يبدأ الأحبار وعلماء السوء في تحريف الكلم عن مواضعه. حين يجدون آية لا تتوافق مع أهواء طواغيتهم، أو تفضح تقصيرهم، يبدأون في ليّ أعناق النصوص. فيقولون: "أصل الله لا يقصد هذا"، "أصل الكفر كفران: كفر أكبر وكفر أصغر"، "والشرك شركان..."، ويبدأون في بناء جبال من التأويلات الباطلة والتقسيمات الكلامية ليخفوا نور الله.
  2. النسيان: والنتيجة الحتمية للتحريف هي النسيان. ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾. إن من يعتد على كلام الله بالتحريف، يعاقبه الله بأن يسلبه نعمة الفهم الصحيح. وهذا يفسر تماماً ما نراه اليوم. اسأل أي فقيه من المقلدين: ما دليلك على أن السعي بين الصفا والمروة ركن يبطل الحج بتركه، والله يقول إنه تطوع؟ لن يأتيك بدليل من كتاب الله، بل سيتلجلج ويقول: "قال فلان وأجمع أهل المذاهب". لقد نسوا الحجة ونسوا الحكمة، ولم يبق في أيديهم إلا أقوال الرجال.

لقد فعلوا هذا لأنهم يوالون طواغيت يفعلون كل الموبقات، فكان لزاماً عليهم أن يخترعوا لهم ديناً "مريحاً"، يعتذر لهم بأنهم مهما اجترحوا من سيئات فهم مسلمون ناجون، وأن المهم هو طاعة "الإمام" وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك واغتصب أهلك، فالخروج عليه كفر بواح! ولما لم يستقم القرآن مع هذه النتائج، كان لا بد من تحريفه.
  1. المنهج القرآني في مواجهة الخيانة: البراءة والصفح

رغم كل هذا الضلال والتحريف والخيانة، ورغم أن الله يخبر نبيه بأن هذه الخيانة ستظل ديدنهم، يأتي التوجيه الإلهي ليرسم للمؤمنين منهج التعامل الراقي:
﴿...وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13].
إنها قمة الحكمة والرحمة. فالله لم يأمرنا بإقامة محاكم التفتيش عليهم أو تكفيرهم بأعيانهم، بل أمرنا بمنهج من شقين:
• البراءة من فعلهم: نحن نكفر بتحريفهم، ونبرأ إلى الله من منهجهم، ونبين للناس بطلانه.
• العفو والصفح عن أشخاصهم: نكل أمرهم وحسابهم إلى الله. لا نشغل أنفسنا بلعنهم وتكفيرهم بأعيانهم، بل نركز على بيان الحق، وندع الخلق للخالق.
وهذا هو مقام الإحسان الذي يحبه الله: أن تكون صلباً في الحق، رحيماً في الخلق. أن تملك البصيرة التي تكشف زيفهم، والقلب الكبير الذي يعفو ويصفح، تاركاً الحكم لله العزيز الحكيم.
إن هذه الآيات، يا صديقي، هي دستور كامل في فهم أصل الانحراف، وفي معرفة منهج الإصلاح.

سجل المراجعات