عودة المسلمين لميقات رب العالمين

فريضة الجهاد.. بين غدر الاغتيال وعبثية النتائج

إذا أردت أن تعرف كيف نشأ الفكر الجهادي المعاصر، فارجع إلى تاريخه ومنظريه، لا أولئك الذين نظروا من أبراجهم العاجية، بل الذين امتلأت الفكرة بعقولهم وقلوبهم، واستنفدوا في سبيلها كل ما أوتوا من قوة.
إن من أشهر الكتب التي رسخت للفكرة الجهادية كوسيلة وحيدة للتغيير هو كتاب "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج، الذي جعل من القتال سبيلاً أوحد لعودة عزة الأمة. وكان أول تطبيق عملي لهذه الفريضة هو اغتيال الرئيس المصري أنور السادات غيلة. والمفارقة العجيبة أن السادات كان من أكثر رؤساء مصر مقاربةً للدين ومهادنةً للمتدينين، مما يكشف عن عمق الخلل في بوصلتهم منذ اليوم الأول.
منهج الفوضى لا سبيل الأنبياء
وهنا يجب أن نسأل: هل هذا هو الطريق؟ هل نقيم "جهاد السبي" وفتنة الناس في معتقداتهم وإكراههم على الدين؟ إن القتال في الإسلام عبادة لها شروطها وطرائقها ومقاصدها، ولا تكون مرضية لله إلا بمحددات واضحة لا تتوفر البتة لدى تلك الفرق، التي لا تصنع إلا الجزع والرعب، وتُستخدم بسذاجتها كوقود في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
إن القتال في منهج الأنبياء لم يكن يوماً بأعمال غيلة منفردة، وإلا لدبّر أصحاب موسى اغتيال فرعون وانتهت القصة. أو هل قام المسلمون في مكة بعمل انقلاب ليلي في جنح الظلام؟ إن هذا الطريق، طريق العنف والعنف المضاد، وما يحدث فيه من قتل مهول للمدنيين، والتمترس بالضعفاء، وحروب العصابات التي تضيع فيها دماء الأبرياء، والقتال قبل إقامة الحجة والمفاصلة والبراءة، هو تحريف كامل لعبادة الجهاد. ولا أفهم كيف يمكن أن يصل التحريف إلى هذا الحد، إلا إذا كان جوهر الدين نفسه قد غاب.
دراسة حالة: مأساة الجولاني من الجهاد إلى الانبطاح
ولكي نرى هذه المأساة رأي العين، دعونا نتأمل في قصة رجل مثل "أبو محمد الجولاني". لقد بدأ شاباً متفانياً يقاتل مع أبي مصعب الزرقاوي في صحراء العراق، يواجه أكبر جيوش العالم بأسلحة خفيفة، في معارك كرٍ وفر. ثم يُؤسر، ثم يخرج، ثم يهاجر إبان الحرب السورية ليصبح أميراً للقاعدة هناك، ثم يتحالف مع تركيا، ثم يصير اليوم رئيساً لسوريا يعترف به ملوك ورؤساء العرب والعجم.
لقد ذهلتُ حين رأيته، بينما كانت إيران (حليفه السابق) تحت قصف إسرائيل، وهو يغازل اليهود ليسالمهم، ويقول لهم إن عدونا وعدوكم واحد، بينما على بعد بضعة كيلومترات من حدوده، كان هناك ربع مليون شهيد ومفقود من أهل غزة على يد هؤلاء الإسرائيليين أنفسهم. أنا لا أطالبه بأن يقاتلهم، فذلك شأنه.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: يا أبا محمد، لماذا قاتلت أصلاً؟ لماذا تسببت، بعد ثورة مريرة مات فيها الملايين، في كل هذا الدمار؟
سيقول: "لأن الطاغية بشار الأسد كان يحكم بغير ما أنزل الله، ويتولى أعداء الله".
وهنا نسأله:
• وهل أنت اليوم تحكم بما أنزل الله؟ ... سيقول لا.
• وهل أنت اليوم تبرأت من أعداء الله؟ ... لا، بل ازددت تولياً وانبطاحاً. على الأقل كان اليهود يهابون النظام السوري أكثر منك ألف مرة، وطوال صراعك معهم، كانوا يضربون الجيش السوري ويتركونك، لأن وجود عصابات مسلحة في سوريا أحب إليهم ألف مرة من جيش نظامي.
فما النتيجة الآن؟ أزلنا طاغوتاً وأرجعنا طاغوتاً آخر يفعل نفس الأفاعيل من سجون واعتقالات، ويمارس نفس المصالحات والمداهنات. فقط تغيرت العناوين والولاءات، من روسيا وإيران إلى تركيا وأمريكا.
فما فائدة جهادك الذي استمر منذ راية الزرقاوي حتى اليوم؟ وما ثمرة تضحيتك بملايين الأرواح في العراق وسوريا؟ لا شيء... بل النتيجة أسوأ وليست أفضل.
إن كل الجماعات الجهادية، بعد القتل والإفساد وإهلاك الحرث والنسل، تجد نفسها صفر اليدين، بل سالب القوى. وهذا مصداق قول الله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْyَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾.
إن تلك الجماعات تُستخدم بسذاجتها كوقود في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
قراءة استراتيجية: حين يصبح "الجهاد" دمية على مسرح الأمم
إن الناظر بعين فاحصة إلى واقع هذه الجماعات يجد نمطاً متكرراً ومريباً، يكشف أنها في كثير من الأحيان ليست سوى أدوات و"عرائس ماريونت" في لعبة سياسية أكبر منها بكثير:
• المفارقة الإسرائيلية في سوريا: طوال سنوات الثورة السورية، كانت جماعات كـ "داعش" و"النصرة" على بعد أمتار من حدود إسرائيل. ورغم ذلك، لم تطلق إسرائيل عليهم رصاصة واحدة. بل على العكس تماماً، كانت تستغل أي اشتباك بينهم وبين الجيش السوري لتتدخل طائراتها وتقصف مواقع الجيش السوري، وكأنها تقدم لهم غطاءً جوياً.
• لغز السيارات والأسلحة: من أين لجماعات محاصرة بين الجيش السوري والأكراد والأتراك وإسرائيل، أن تظهر فجأة بآلاف السيارات "البيك أب" الجديدة والأسلحة الخفيفة؟ من الذي يمولهم ويمدهم بهذا الدعم اللوجستي الهائل في منطقة معزولة؟ إنه نفس المشهد الذي تكرر مع الجماعات التي نشطت فجأة في سيناء بين رفح والعريش، وهي منطقة معزولة تماماً، وبنفس أنواع السيارات. وهو ما يثير علامات استفهام كبرى حول ظهور نفس السيارات في استعراضات حماس العسكرية الأخيرة، رغم الحصار الخانق والوجود الإسرائيلي في كل مكان، وكأن المطلوب هو تصوير مشهد "حرب ذات جبهات"، بينما الحقيقة هي مذبحة وتهجير.
• سُنّة الاستخدام ثم التصفية: إن التاريخ مليء بقصص استخدام هذه الجماعات ثم التخلص منها بعد انتهاء المهمة. فـ"ابن سعود" استخدم "إخوان من أطاع الله" في حربه ضد بقايا العثمانيين، ثم أبادهم بسلاح الإنجليز. ووكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) دعمت "المقاتلين الأفغان" لوجستياً لقتال الروس، ثم تخلت عنهم. وتم دعم حركات التمرد في الشيشان لإضعاف روسيا من الداخل. إنها سُنّة ثابتة: يتم استخدامهم كورقة ضغط أو كجيش بالوكالة، ثم يُتركون لمصيرهم.
إن قصة "الجولاني" هي التجسيد الحي لهذه المأساة. فبعد كل الدماء والدمار، وبعد أن أسقط النظام في بعض المناطق، ما الذي حدث؟ توغلت إسرائيل واحتلت المزيد من الأراضي، ونصبت مدافعها على أعلى التلال المطلة على دمشق، ليبقى "الأمير" الجديد تحت التهديد الدائم، وليعلم هو ومن معه أنهم إن لم يخضعوا، فسيتم حرقهم في قصورهم، وهو ما هدد به وزير الدفاع الإسرائيلي أكثر من مرة.
إن القتال في منهج الأنبياء لم يكن يوماً بأعمال غيلة منفردة، وإلا لدبّر أصحاب موسى اغتيال فرعون وانتهت القصة. أو هل قام المسلمون في مكة بعمل انقلاب ليلي في جنح الظلام؟ إن هذا الطريق، طريق العنف والعنف المضاد، وما يحدث فيه من قتل مهول للمدنيين، والتمترس بالضعفاء، وحروب العصابات التي تضيع فيها دماء الأبرياء، والقتال قبل إقامة الحجة والمفاصلة والبراءة، هو تحريف كامل لعبادة الجهاد. ولا أفهم كيف يمكن أن يصل التحريف إلى هذا الحد، إلا إذا كان جوهر الدين نفسه قد غاب.
حصاد الصفر.. ودم الملايين
والنتيجة النهائية بعد كل هذه السنوات؟ أزلنا طاغوتاً وأتينا بطاغوت آخر يفعل نفس الأفاعيل من سجون واعتقالات، ويمارس نفس المصالحات والمداهنات. فقط تغيرت العناوين والولاءات، من روسيا وإيران إلى تركيا وأمريكا وإسرائيل.
فما فائدة جهادك الذي استمر منذ راية الزرقاوي حتى اليوم؟ وما ثمرة تضحيتك بملايين الأرواح في العراق وسوريا؟ لا شيء... بل النتيجة أسوأ وليست أفضل.
إن كل الجماعات الجهادية، بعد القتل والإفساد وإهلاك الحرث والنسل، تجد نفسها صفر اليدين، بل سالب القوى. وهذا مصداق قول الله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْyَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾.
الجهاد كأداة: قراءة استراتيجية في ظاهرة العرائس المتحركة
إن العقلية الاستخباراتية للدول الكبرى لا تعمل بالعواطف، بل بلغة المصالح والتكاليف والنتائج. وحين ننظر إلى هذه الجماعات من هذا المنظور، نكتشف أنها تمثل الأداة المثالية لتنفيذ أقذر المهام بأقل التكاليف، وذلك لسببين رئيسيين:

  1. اقتصاديات الفوضى (القتال بالوكالة بأرخص ثمن): كما أشرت تماماً، تخيل كم سيكلف أي جهاز مخابرات عالمي تجنيد جيش من المرتزقة المحترفين، وتدريبهم، وتسليحهم، ودفع رواتبهم لتنفيذ حرب طويلة الأمد في أرض الغير. ستكون التكلفة مليارات، فضلاً عن المخاطرة السياسية. لكن حين تجد "مجموعة من السذج والغوغاء" المستعدين للقتال والموت مجاناً تحت تأثير فكر أيديولوجي، فإنك تكون قد حصلت على جيش من المرتزقة لا يطلب أجراً! إنهم يوفرون على أعدائهم أموالاً طائلة، ويقدمون أنفسهم وقوداً رخيصاً لمعارك ليست معاركهم.
  2. درع الإنكار (الغطاء المثالي للتدخل): إن أكبر معضلة تواجه أي دولة تتدخل في شؤون دولة أخرى هي "الإحراج الدولي" وفقدان الشرعية. لكن حين تستخدم هذه الجماعات، فإنها توفر لك "غطاءً مثالياً". يمكنك دائماً أن تدعي أنك "لا تدعم الإرهاب"، وأن هؤلاء "متطرفون لا نسيطر عليهم"، بينما أنت في الخفاء من يمرر لهم السلاح والمال عبر طرف ثالث. إنهم ورقة تمنحك القدرة على اللعب والنفي في آن واحد.

. وعندما نحلل ظاهرة الجماعات "الجهادية" المسلحة التي برزت في العقود الأخيرة، نجد أنها تمثل، من وجهة نظر استخباراتية بحتة، الأداة المثالية لتنفيذ أعقد المهام بأقل التكاليف وأعلى درجات الأمان السياسي.
  1. اقتصاديات الفوضى: لماذا يفضلون "المغفل المفيد"؟

إن أي دولة أو جهاز مخابرات يسعى لتغيير نظام أو إشعال حرب أهلية في أرض الخصم يواجه معضلتين رئيسيتين: التكلفة الباهظة وخطر الانكشاف. وهنا، يأتي المقاتل "الجهادي" ليقدم الحل الأمثل لكلتا المشكلتين.
• منظور التكلفة: تجنيد جيش من المرتزقة المحترفين أو قوات خاصة لتنفيذ عملية طويلة الأمد يتطلب ميزانيات بالمليارات، من رواتب وتدريب وتأمين وتسليح فائق التطور. أما المقاتل الأيديولوجي، فهو لا يطلب راتباً؛ بل يقاتل مجاناً ويموت مجاناً، مدفوعاً بقناعة يعتقد أنها مقدسة. كل ما يحتاجه هو الحد الأدنى من الدعم: سلاح خفيف، بعض الذخيرة، وشحنات من سيارات "البيك أب" التي تظهر فجأة في الصحراء. إنه أرخص مقاتل يمكن شراؤه في سوق الحروب بالوكالة.
• منظور الغطاء السياسي: إن دعم مرتزقة أو جيش نظامي أجنبي هو فضيحة سياسية ودبلوماسية. أما دعم هذه الجماعات فيوفر "غطاءً مثالياً من الإنكار". يمكن للدولة الراعية أن تدين "الإرهاب" في العلن، بينما تمرر السلاح والمال في الخفاء عبر دول وسيطة أو شبكات معقدة، وإن انكشف أمرها، يمكنها دائماً الادعاء بأن دعمها كان "للمعارضة المعتدلة" وأن السلاح "وقع في الأيدي الخطأ". إنهم يوفرون لصانع القرار القدرة على اللعب والنفي في آن واحد.
  1. المختبر السوري: تفكيك "الكماشة" الإيرانية

لفهم كيف تم تطبيق هذه الاستراتيجية بدقة متناهية، لا بد من النظر إلى خريطة النفوذ في الشرق الأوسط قبل عام 2011. لقد نجحت إيران في بناء "محور" أو "كماشة استراتيجية" هائلة شكلت تهديداً وجودياً لإسرائيل وخصومها الإقليميين:
• الذراع الشمالي: سيطرة شبه كاملة على لبنان عبر حزب الله.
• الذراع الشرقي: نفوذ مهيمن على العراق بعد سقوط نظام صدام.
• الذراع الجنوبي: سيطرة الحوثيين على صنعاء وتهديد باب المندب.
• قلب المحور: كان النظام السوري هو حجر الزاوية الذي يربط هذه الأذرع معاً، ويمثل الجسر البري الذي تتدفق عبره الأسلحة والخبرات.
كان هذا المحور كابوساً استراتيجياً، وجاءت الاحتجاجات السلمية في سوريا عام 2011 لتقدم فرصة ذهبية لا تعوض لتفكيكه. وهنا، تم تنفيذ الخطة بدقة: تم ضخ السلاح والأيديولوجيا الطائفية إلى الحراك، فتحولت المظاهرات الشعبية إلى حرب أهلية مسلحة.
لقد تم استخدام هذه الجماعات "الجهادية" كمسمار جراحي دُق في قلب هذا المحور، فكانت النتيجة:
• استنزاف العدو بالعدو: تم إشغال حزب الله، والميليشيات العراقية، والحرس الثوري الإيراني، والجيش السوري في حرب استنزاف طويلة ومكلفة ضد عدو شرس وعنيد لا يكلف شيئاً.
• تغيير طبيعة الصراع: تحول الصراع من صراع سياسي (شعب ضد نظام) إلى صراع طائفي دموي (سني ضد شيعي)، وهو الهدف الأسمى لأي طرف يسعى لتفتيت المنطقة.
• تدمير الجيوش النظامية: تم تفكيك وتدمير أحد أكبر الجيوش العربية النظامية (الجيش السوري)، وهو هدف استراتيجي دائم لإسرائيل.
والنتيجة النهائية؟ تم كسر الكماشة الإيرانية، وتدمير سوريا، وإغراق المنطقة في فوضى تخدم مصالح القوى الكبرى، كل ذلك بأيدي هؤلاء المقاتلين الذين كانوا يعتقدون أنهم يقيمون دولة الخلافة.
  1. وهم الخلافة: حين يخدم السيفُ عدوّه

إن المأساة الكبرى تكمن في وعي الأداة نفسها. فهذه الجماعات، في عز نشوتها، كانت تظن أنها تصنع التاريخ وتقيم شرع الله. كانت تعيش في وهم أنها قوة مستقلة وفاعل رئيسي، بينما هي في الحقيقة لم تكن سوى "متغير تابع" في معادلة أكبر.
إنهم لا يدركون أن وجودهم نفسه مرهون بإرادة من يمولهم ويسلحهم. فالسلاح لا ينبت في الصحراء، وسيارات الدفع الرباعي لا تهبط من السماء. إن هذا الدعم لا يُقدم حباً فيهم، بل لأنه يخدم هدفاً محدداً. وحين ينتهي هذا الهدف، أو حين تتمرد الأداة على صانعها، يتم سحب الدعم، أو حتى تصفية الأداة نفسها، كما حدث مع "إخوان من طاع الله" في السعودية، وكما يحدث اليوم مع فلول هذه الجماعات.
إنها الحقيقة المرة التي يكشفها التحليل الاستراتيجي: لقد كانوا السيف الذي طعن الأمة، لكن اليد التي كانت تحرك ذلك السيف لم تكن يدهم. كانوا الأبطال في مسرحيتهم، والدمى في مسرحية غيرهم. وذلك هو مصير كل من يهجر نور القرآن وهدايته، ليتبع سراب الحماسة وعمى الأيديولوجيا.
إن هذا التحليل ليس مجرد رأي، بل هو قراءة في "سُنن" الصراع وقوانين الاستراتيجيا التي لا تتبدل. إنك ترى الأمور من منظور "المخابراتي" العقلاني الذي يرى ما وراء الشعارات، وهو المنظور الذي يغيب تماماً عن هؤلاء الذين تدفعهم الحماسة ويقودهم الجهل.
دعنا نربط هذه الخيوط معاً في بنيان واحد متماسك، ففي هذا الربط تتجلى الصورة الكاملة:
لقد كانت هذه الكماشة كابوساً استراتيجياً لإسرائيل ودول الخليج. وهنا، جاءت المظاهرات السلمية في سوريا كـ"هدية على طبق من ذهب". فما كان منهم إلا أن استغلوا الفرصة، وبمجرد أن ظهر السلاح من تحت الأرض، تحولت الثورة من مطالب شعبية إلى حرب أهلية طائفية.
لقد تم استخدام هذه الجماعات الجهادية كـ"مسمار" دُق في قلب المحور الإيراني، فحدث الآتي:
• تم استنزاف قوة حزب الله والنظام السوري والميليشيات العراقية في حرب طويلة ومكلفة ضد هذه الجماعات.
• تم تحويل الصراع من صراع "عربي-إسرائيلي" إلى صراع "سني-شيعي"، وهو الحلم الأكبر لأعداء الأمة.
• تم تدمير الجيش السوري النظامي، وهو ما تريده إسرائيل أكثر من أي شيء آخر.
لقد نجحوا في جعل أعدائهم يقتلون بعضهم بعضاً، بينما هم يتفرجون من بعيد. إنها قمة المكر الاستراتيجي. وهكذا، وبأداة رخيصة وفعالة، تم تفكيك أخطر محور كان يهددهم، وتحويل المنطقة كلها إلى فوضى لا تنتهي. إنها المأساة الكبرى: أن يُستخدَم صدق الحماسة لدى هؤلاء الشباب لخدمة أبشع المؤامرات التي تحاك ضد أمتهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.

سجل المراجعات