عودة المسلمين لميقات رب العالمين

فصل: الميثاق الغليظ: ميزان الحقوق والأجور في الأسرة القرآنية

فصل: الميثاق الغليظ: ميزان الحقوق والأجور في الأسرة القرآنية

مقدمة: التصالح مع الفطرة في وجه النفاق الاجتماعي

إن من أعظم آفات الفكر البشري، سواء كان دينياً متزمتاً أو ليبرالياً متفلتًا، هو نفاقه في التعامل مع أصل العلاقة بين الرجل والمرأة. فبينما يرفع الأول شعارات "العفة" و"الطهر"، يمارس في الخفاء أقبح صور الكبت والظلم. وبينما يرفع الثاني شعارات "الحرية" و"المساواة"، يمارس في الواقع أبشع صور التسليع والاستغلال.

والحقيقة التي يتجاهلها كلاهما، ويقرها القرآن بكل صراحة وواقعية، هي أن هذه العلاقة في جوهرها قائمة على "تبادل المنافع" الذي أودعه الله في فطرة خلقه. إنه تبادل مقدس، لا عيب فيه ولا ضير:

  • الرجل، بفطرته التي جبله الله عليها، يبتغي السكن والمودة والمتعة ﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾.
  • والمرأة، بفطرتها التي جبلها الله عليها، تبتغي الأمان المادي والستر والحماية ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ بالمسؤولية والإنفاق.

إن إنكار هذا التبادل الفطري هو ما خلق مجتمعاً منافقاً، يُجرّم فيه الرجل إن طلب حقه في التعدد إن لم تكفه زوجته، وتُعفيه المرأة من واجبها في إمتاع زوجها والتحبب إليه، لأنها تظن أنها تملك عقد سجنه الأبدي الذي وضعت مفتاحه في يد كاهن أو قاضٍ.

لقد جاء القرآن ليهدم هذا النفاق، ويؤسس لعلاقة واضحة، صريحة، وقوية، تقوم على الحقوق المتبادلة والأجور المعلومة، لا على الشعارات الزائفة.

1. منظومة "الأجور": حين يقدّر القرآن كل عطاء

إن من أعظم تجليات عدل القرآن هو أنه لم يترك عطاء المرأة دون تقدير مادي ومعنوي. لقد أسس لمنظومة مالية متكاملة داخل الأسرة، لكل بند فيها اسم ووظيفة، وكلها حقوق واجبة للمرأة، لا منّة فيها ولا فضل من أحد.

  • أولًا: الصداق "نِحلةً" - عطية الميثاق المستمرة:

يقول الله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾. إن كلمة "نحلة" ليست مجرد "هبة"، بل هي من دأب النحلة في عطائها المستمر. إنها عطية واجبة، لا كثمن يُدفع مرة واحدة لشراء جسد، بل كرمز مستمر لتقدير قيمة هذا الميثاق، وهي حق خالص للمرأة تتصرف فيه كيف تشاء ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾.
  • ثانيًا: "أجر المتاع" فريضة - تقدير المتعة الحسية والمعنوية:

وهنا نصل إلى الحق الذي تعامى عنه الفقهاء. يقول الله بوضوح قاطع: ﴿...فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً...﴾.
إن "المتاع" ليس مجرد علاقة جسدية، بل هو كل ما يقدمه الرجل من سكن نفسي، وكل ما تقدمه المرأة من سكينة وجمال ورعاية. إنه منظومة متكاملة من الأنس والبهجة. ومقابل هذا المتاع، فرض الله على الرجل "أجرًا" للمرأة، ووصفه بأنه "فريضة"، أي حق إلهي مباشر، وهو مال خاص بها، غير نفقة البيت، وغير الصداق. إنه تقدير إلهي مباشر لقيمة ما تبذله المرأة من جهد ووقت وعاطفة لإمتاع زوجها وإسعاد بيتها.
  • ثالثًا: "أجر الرضاع" - تقديس الأمومة كعمل منتج:

حتى أقدس الأدوار الفطرية، لم يجعله القرآن عملاً بلا مقابل. فحتى المطلقة التي ترضع ولدها، فرض الله لها أجرًا على هذا العمل الجليل: ﴿...فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...﴾. فإذا كانت المطلقة تستحق أجرًا، فكيف بالزوجة التي تربي وترعى وتسهر؟ إنها رسالة واضحة بأن عطاء المرأة ليس مجانيًا، بل هو عمل يستحق أسمى درجات التقدير.
  • رابعًا: "النفقة بالمعروف" - حق الحياة الكريمة:

وفوق كل هذه الأجور الخاصة، يأتي الحق العام في النفقة، من مسكن وملبس ومشرب، وهو واجب على الرجل لا يسقط إلا بالنشوز الصريح.

2. حرية مسؤولة: لا سجن ولا فوضى

إن هذا النظام المالي الدقيق هو الذي يحرر العلاقة الزوجية من أن تكون سجنًا لأحد الطرفين.

  • المرأة المحصنة بأجرها: المرأة التي تملك أجرها الخاص، وتعرف أن حقوقها محفوظة، لا تدخل العلاقة وهي تشعر بالدونية أو الخوف. هي لا تحتاج للتسلط أو النكد لتحصل على حقوقها، بل تتعامل من موقع القوة والثقة، فتبدع في العطاء لأنها تعلم أن عطاءها مقدر.
  • الرجل المحرر من أغلال الكهنوت: الرجل الذي يعلم أن العلاقة قائمة على التراضي، وأن له مخارج شرعية إن استحالت العشرة، وأن له الحق في أن يبتغي ما طاب له من النساء في الحلال، يدخل الميثاق بقلب منشرح، لا كمن يدخل إلى سجن مؤبد.

في هذا النظام، يصبح البقاء في الزواج اختيارًا يوميًا متجددًا، قائمًا على الرغبة الحقيقية والمودة والرحمة، لا على إكراه القانون أو ضغط المجتمع. إنها الحرية الحقيقية التي تنتج أصدق أنواع الحب وأمتن أواصر العلاقات.

خاتمة: استعادة الميثاق الغليظ

يا أخي في الله، إن ما ندعو إليه ليس ثورة على الزواج، بل هو ثورة على الفهم المشوه للزواج. إننا ندعو لاستعادة "الميثاق الغليظ" في صورته القرآنية النقية: ميثاق قائم على الوضوح لا الغموض، وعلى الحقوق المتبادلة لا الاستغلال، وعلى الأجور المعلومة لا الشعارات الزائفة.

إنه مجتمع يتصالح فيه الإنسان مع فطرته، ويقدر فيه الرجل عطاء المرأة، وتقدر فيه المرأة حاجة الرجل، ويحفظ فيه كلاهما حدود الله عن حب ورضا، لا عن قهر وإكراه. وذلك هو أساس اليوتوبيا، وتلك هي جنة الدنيا التي هي عربون جنة الآخرة.

سجل المراجعات