في معالم الحج والعمرة كما بيّنها الذكر الحكيم
يا أخي في الله، يا من يسعى لإقامة دين الله على بصيرة من كتابه، لقد تدبرنا معًا آيات الحج، وجمعنا شتات فهمنا في سلك واحد من نور القرآن. وهذا فصلٌ نلخص فيه ما فتح الله به علينا، ليكون دستورًا لمن أراد أن يحج حجًا إبراهيميًا، خالصًا لوجه الله، كما أراده الله، لا كما شكّله الناس.
أولاً: النية وميقاتها - مفتاح الدخول في حرم الله
إن الحج، قبل أن يكون حركة جسد، هو رحلة قلب. ومفتاح هذه الرحلة يبدأ من عقد النية الصادقة، وهو ما سماه الله "الفرض".
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾
إن دقة اللفظ القرآني هنا معجزة. فالله لم يقل "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيهن" أي في الأشهر المعلومات كلها، بل خصص ذلك بقوله "فِي الْحَجِّ". وهذا يعني أن هذه المحظورات الثلاثة (الرفث، الفسوق، الجدال) تصبح إلزامية الامتناع عنها عند الدخول الفعلي في أعمال الحج، وليس طوال أشهر الحج الثلاثة على كل من نوى الحج. فالنية قد تُعقد في ذي القعدة، ولكن أعمال الحج الفعلية ومحظوراتها تبدأ في أيام الحج المعدودات من شهر ذي الحجة. وهذا من يسر الله ورحمته، فلم يحرم على الناس ما هو مباح لهم إلا في فترة التعبد الفعلية.
ثانياً: المحظورات - التحرر من متاع الغرور
بمجرد الدخول في النسك، يتحرر الحاج من قيود التفاخر وزينة الدنيا، لا من نعم الله الطيبات. المحظورات محددة بنص القرآن، وهي صنوف "المتاع" التي يتكاثر بها الناس ويتفاخرون:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
وعليه، فإن المحظورات هي:
- التمتع بالنساء: أي الجماع ومقدماته.
- الزينة والتفاخر: لبس الذهب والفضة، والملابس الفاخرة التي تظهر التفاخر، واستعراض وسائل النقل الفارهة (الخيل المسومة في عصرهم، والسيارات الفارهة في عصرنا).
- قص الشعر: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾. هذا النهي واضح عن الحلق حتى إتمام النسك.
- الصيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾.
ثالثاً: معالم الحج ومناسكُه
الحج له معالم واضحة وأعمال محددة في كتاب الله، وهو يسير لمن يسره الله عليه، بعيدًا عن تعقيدات الفقهاء وتقسيماتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان. هذه هي أوامر الله ومعالمه، وعلى العبد أن يحرص على إقامتها قدر استطاعته، والله عليم بذات الصدور.
- الطواف بالبيت العتيق: هو أول ما يبدأ به الحاج عند قدومه، وهو عمل متكرر ومستمر، كتحية للبيت، وكطواف للإفاضة والوداع في نهاية المناسك.
- السعي بين الصفا والمروة: شعيرة عظيمة لتذكر توكل السيدة هاجر. قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. قوله تعالى "فلا جناح عليه أن يطوف بهما" يدل على أن السعي ليس إلزاميًا، بل هو من شعائر الله التي يُستحب فعلها تطوعًا، ومن تركه فلا إثم عليه. وإن إجماع الفقهاء على ركنيته وبطلان حج من تركه لهو من أغرب الأمور التي تخالف صريح النص القرآني.
- الوقوف بعرفات والإفاضة منها: هو قلب الحج، حيث يتجه الحجاج إلى عرفات للدعاء والذكر. ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾. ثم تكون الإفاضة بالانصراف من عرفات إلى منطقة المشعر الحرام عند حدود الحرم.
- قضاء التفث والتحلل: بعد الإفاضة والذكر، يأتي وقت الخروج من حالة الشعث، وذلك بالحلق أو التقصير والتنظف. ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾.
- إيفاء النذور وتقديم الهدي (لمن وجب عليه).
- الطواف الأخير بالبيت العتيق بعد التحلل. ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾.
رابعاً: الرخص ومتطلباتها
• رخصة التعجيل والتأخير: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾. هذه الرخصة الربانية تمنح المتقي فسحة في بداية الحج ونهايته، وتدل على دقة الميقات وأهميته، وأن الأمر ليس مفتوحًا على مصراعيه.
• رخصة التمتع ومقابلها: أباح الله للقادم من خارج مكة أن يؤدي العمرة ثم يتحلل ويتمتع بالحياة العادية قبل بدء أعمال الحج، وهذا تيسير عظيم. ومقابل هذا الاختيار وهذا التيسير، يأتي الهدي كشكر لله وليس ككفارة عن ذنب.
﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ هذا الهدي أو بدله من الصيام هو شكر واجب ومقابل لهذا الاختيار المباح، وهو خاص فقط بمن اختار التمتع من غير أهل مكة.
خامساً: ما لا أصل له في كتاب الله من التنطع والغلو
من منطلق التسليم لله ولكتابه وحده، نعلم أن بعض المناسك والمفاهيم الشائعة اليوم لا يوجد لها أي ذكر أو أساس في القرآن الكريم، وهي من باب التنطع والغلو والتألي على الله بتحريم ما لم يحرم. وأهمها:
• رمي الجمرات: لا يوجد أي ذكر في القرآن لرمي أي أعمدة حجرية.
• اعتبار السعي ركنًا يبطل الحج بتركه: وهذا مخالف لصريح النص القرآني الذي رفع الجناح والإثم عمن يطوف بهما.
• بدعة التحلل الأصغر والأكبر: لم يأت في كتاب الله أي تفريق للتحلل. بل هو تحلل واحد يتم بقضاء التفث (الحلق والتنظف-) والطواف بالبيت العتيق، ليعود الإنسان بعدها إلى حالته الطبيعية فيما يتعلق ب (العلاقات الزوجية- التمتع بشتى أنواع الزينة و المتاع الحلال ) . أما هذه التقسيمات والتعقيدات فهي من التقعر المذموم.
• تحريم المخيط والأحذية وأغطية الرأس: القرآن واضح في تحريم "متاع" الزينة والتفاخر. أما تحريم كل ما هو مخيط، أو تحريم الأحذية العادية، أو منع الإنسان من حماية رأسه من الشمس بغطاء غير مزين، فهذا غلو وتنطع لا دليل عليه، بل هو تضييق على الناس في غير موضع ضيق.
• وجوب الهدي على عموم الحجاج: إن الأمر القرآني الواضح والصريح بتقديم الهدي جاء في حالتين: كفارة للمُحصَر، ومقابل وشكر لرخصة المتمتع. ولو كان الهدي (ما يسمى بالأضحية) فرضًا عامًا على كل حاج بل على كل مسلم في أقطار الحج ختاما لموسم الحج ، لما كان هناك أي معنى لتقييد الله له بهذه الحالات الخاصة. فالقول بوجوبه على كل حاج هو تشريع زائد على ما أنزل الله، وإلزام للناس بما لم يلزمهم به الله في كتابه.
فلتكن يا أخي على بصيرة من أمرك، تقيم دينك على ما أنزل الله من سلطان، معرضًا عن كل ما لم يأت به برهان من كتاب الله. حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا بإذن الله.