الفصل الرابع: "لهو الحديث" - جريمة أهل التراث الكبرى
الكتاب الأول: هدم الأصنام الفكرية
الفصل الرابع: "لهو الحديث" - جريمة أهل التراث الكبرى
مقدمة: الفزاعة التي تخفي الجريمة
في منهج كهنة التراث، هناك دائمًا "فزاعة" تُرفع في وجه الناس لإخافتهم وصرف أنظارهم عن الجريمة الحقيقية. ومن أكبر هذه الفزاعات هي قضية "الغناء والموسيقى". لقد بنوا جبلاً من التحريم حولها، مستندين في ذلك بشكل أساسي على فهمهم الملتوي لآية واحدة في كتاب الله، هي قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...﴾.
لقد جعلوا من هذه الآية سيفًا يجلدون به كل من يجد في نفسه ميلًا للفطرة السليمة والجمال الذي أودعه الله في كونه. ولكن ماذا لو أن هذه الآية لا تتحدث عن الموسيقى أصلاً؟ ماذا لو أنها تتحدث عن جريمة أكبر وأخطر بكثير؟ ماذا لو أن الآية تتحدث عن "جريمتهم" هم بالذات؟
في هذا الفصل، سننزع عن هذه الآية غبار قرون من التلبيس، وسنرى كيف أن القرآن نفسه، بسياقه وبلاغته، يكشف لنا أن "لهو الحديث" ليس هو الغناء البريء، بل هو "دين الروايات" الذي اخترعوه ليكون ندًا لكتاب الله.
1. السياق القرآني هو الذي يفضح المعنى
إن الله لم يتركنا في حيرة. الآيات نفسها تفضح ما هو "لهو الحديث" بوضوح لا يقبل الشك. انظر إلى السياق الدقيق في سورة لقمان:
- الفعل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...﴾. هناك عملية "شراء" وإنفاق أموال طائلة. وهناك "حديث"، أي كلام وروايات وقصص.
- الغاية: ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا...﴾. الغاية هي الإضلال عن "سبيل الله" (وهو القرآن)، واتخاذ آيات الله سخرية، إما بتعطيلها أو تأويلها بشكل فاسد.
- المحك العملي: كيف نعرف هذا الشخص؟ الآية التالية مباشرة تعطيك الموقف العملي الذي يكشفه: ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا...﴾.
الآن، لنسأل أنفسنا بصدق: هل الموسيقى هي التي تجعل صاحبها، حين يسمع آية من القرآن، يقول "هذه الآية منسوخة بحديث في البخاري"؟ هل الأغنية تجعل صاحبها يقول "هذه الآية عامة، وقد خصصها حديث فلان"؟
بالطبع لا. ولكن من الذي يفعل هذا بالضبط؟
إنه الذي "اشترى" بأمواله ووقته وعمره أطناناً من كتب الروايات والأقاويل، التي يسمونها بكل فخر "الحديث". هو الذي إذا تلوت عليه آية صريحة من كتاب الله تخالف ما في كتبه، "تولى مستكبرًا"، وقال لك: "أنت لا تفهم! الحديث يفسر القرآن! هذا الحديث يخصص هذه الآية!". إنه يتخذ آيات الله هزوًا، فيعطلها ويجمدها بـ"لهو الحديث" الذي اشتراه.
2. تشريح الجريمة: "لهو" + "حديث"
إن إعجاز الآية يكمن في اختيار كلمتين اثنتين فقط لتشريح هذه الجريمة الفكرية تشريحًا كاملاً:
- أولاً: "اللهو" - الالتهاء عن الذكر:
إن "اللهو" ليس مجرد اللعب واللهو البريء. بل هو، في سياق الآية، كل ما "يُلتَهى به" عن هدى الله وكتابه. وهذا الوصف ينطبق تمامًا على أطنان كتب الحديث التي يلتَهون بها ليل نهار في: تأصيلات، وزخرف للقول غرورًا، وتشدقات، وتفيهقات، وتقعرات، وتزمتات، وتنطعات. لقد بنوا صرحًا هائلاً من القواعد الكلامية والفقهية والفلسفية حول رواياتهم، وهو بناء خاوٍ ألهَاهم تمامًا عن تدبر كتاب الله، والتفكر في كونه، والتعقل لأحكامه وحكمته.
لقد وصل بهم اللهو إلى حد أن أحدهم، وهو على فراش الموت، يُروى عنه بكل فخر أنه كان "يحقق" كتابًا من كتب الحديث تم تحقيقه عشرات المرات من قبله! فأي لهو هذا الذي يشغل الإنسان عن لقاء ربه حتى في آخر لحظات حياته؟ فإلى الله المشتكى.
- ثانيًا: "الحديث" - صنم الروايات الوهمي:
إن الله، الذي خلق اللغة، اختار كلمته بدقة إعجازية. لم يقل "لهو السماع" ولا "لهو الصوت"، بل حدد الجريمة في "الحديث". والحديث في لسان القرآن هو "القصة والرواية المنقولة". ألم يقل الله عن قوم سبأ بعد هلاكهم: ﴿...وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ...﴾ (سبأ: 19)؟ أي جعلناهم مجرد قصص وروايات يتناقلها الناس.
فأهل "لهو الحديث" هم الذين يلتَهون بـ "أحاديث" البشر وقصصهم ورواياتهم، ويجعلونها ندًا وصنمًا وهميًا في مقابل "أحسن الحديث"، وهو كتاب الله.
إنها معجزة مزدوجة في كلمتين: "لهو" تصف طبيعة انشغالهم، و "حديث" تصف مادة انشغالهم. إنه تشخيص إلهي كامل لمنهج أهل التراث.
3. جريمة قتل هابيل: التغطية على هجر القرآن
إن تركيزهم على تحريم الموسيقى هو محاولة يائسة لتغطية جريمتهم الكبرى. إنهم كقابيل الذي قتل أخاه هابيل، ثم راح يبحث عن أي شيء ليواري سوءة أخيه. لقد ارتكبوا جريمة "قتل" المعنى القرآني وهجره، واستبدلوه بـ"لهو حديثهم". ولكي يغطوا على هذه الجريمة، اتهموا الموسيقى والغناء، ليصرفوا أنظار الناس عن فعلتهم الحقيقية.
خاتمة: فبأي حديث بعد الله يؤمنون؟
إن الإسلام الحق، دين الفطرة، لا يحارب الجمال. والقرآن قد وضع ميزانًا دقيقًا للشعر والفن، فمدح منه ما كان لله، وذم منه ما كان للغواية. أما التحريم المطلق لكل صوت جميل، فهو دين القلوب القاسية التي لا تعرف من رحمة الله شيئًا.
إن القضية في النهاية هي قضية "مرجعية". مَن المرجع الأعلى؟ هل هو حديث الله (القرآن)، أم لهو حديث الرجال؟ إن القرآن يضعنا أمام هذا السؤال الحاسم:
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ (الجاثية: 6).
فمن اختار "حديث الله"، وجد فيه النور والهداية والجمال. ومن اشترى "لهو الحديث"، لم يجد فيه إلا الضلال والاستكبار والعذاب المهين.