الفصل الثاني عشر: فقه الفطرة - دين الحياة لا دين الموت
الكتاب الرابع: المنهج والمهمة
الفصل الثاني عشر: فقه الفطرة - دين الحياة لا دين الموت
مقدمة: أي دين هذا الذي يخاف من الجمال؟
بعد أن هدمنا الأصنام، وكشفنا زيف التاريخ، ورسمنا ملامح طريق العودة، نصل إلى سؤال جوهري: ما هي "روح" هذا الدين الذي ندعو إليه؟ هل هو دين التجهم والمنع والكبت الذي يصوره لنا كهنة التراث؟ هل المؤمن الحقيقي هو ذلك الإنسان القاسي القلب، الذي يرى الشيطان في كل متعة، والخطيئة في كل جمال؟
حاشا لله. إن الدين الذي أنزله الله هو "دين الحياة"، دين ينسجم مع الفطرة التي فطر الناس عليها، لا دين يحاربها ويقمعها. إنه دين يرى في الجمال آية، وفي اللذة نعمة، وفي الاستمتاع بالطيبات شكرًا. أما الدين الآخر، دين القلوب الحجرية، فهو دين غريب عن الحياة، لأنه دين يخاصم الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
1. الميزان الدقيق: بين "الاستمتاع بالشهوات" و "اتباع الشهوات"
لقد وضع القرآن ميزانًا دقيقًا هو الفرقان بين دين الله ودين الشيطان. إنه الفرق بين "الاستمتاع" و "الاتباع".
- الاستمتاع بالشهوات: هو أن تشكر الله على نعمه، وتتمتع بما أحل لك من جمال في هذه الدنيا، من صوت حسن، ومنظر بهيج، وطعام طيب، وزوجة صالحة. هذا من شكر النعمة، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. إنه تعامل العبد الشاكر مع عطايا ربه.
- أما اتباع الشهوات: فهو أن تتحول الشهوة من "نعمة" إلى "إله". أن تصير هي التي تقودك وتوجهك، وأن يكون رضاها هو غايتك، فتُقدمها على طاعة الله. هذا هو الشرك بعينه، وهو ما حذر منه القرآن: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ...﴾ (الجاثية: 23).
إن الشهوة ليست شرًا في ذاتها، كيف تكون شرًا والله يَعِد بها عباده في الجنة أبدا؟ إنها "جزاء" من الله، يكافئ به عبده المؤمن في الدنيا والآخرة.
2. صرخة الفطرة: لماذا نقول "الله" في ذروة النعمة؟
إن أكبر دليل على أن علاقتنا بالله هي علاقة حب وشوق، لا علاقة خوف ورعب، هي تلك الصرخة الفطرية التي تخرج من أعماقنا في أقصى لحظات اختبار النعمة.
- حين ترى منظرًا بديعًا يأخذ بالأنفاس، فإن روحك تسبح لخالقها فتقول: "الله".
- حين ترتشف رشفة قهوة تضبط مزاجك، فإن جسدك يشكر واهب النعمة فيقول: "الله".
- وحين تصل النفس الإنسانية إلى ذروة النشوة، فإنها في تلك اللحظة من التجرد الكامل تصرخ بلغتها الأصلية: "Oh my God". إنها ليست كلمة مبتذلة، بل هي نداء الفطرة الأعمق لربها.
هذا هو المؤمن، يجد الله في كل لذة حلال، فتزيده لذته شكرًا وقربًا. أما المنافق، الذي اعتاد على فصل الدين عن الدنيا، فإنه لا يتخيل أبدًا أن الله يمكن أن يكون معه في هذه اللحظات. لقد خصص هذه المنطقة لهواه وشيطانه، فإذا ذكر الله فيها شعر بالغرابة وسخر من فطرته.
3. مرض الكبت: لماذا يولد التشدد الإدمان؟
وهنا نصل إلى فهم عميق لظاهرة نراها بأعيننا: لماذا ينتشر إدمان المواقع الإباحية وغيره من الأمراض النفسية في أوساط المتشددين الذين يحرمون على الناس كل جمال ومتعة؟
إن السبب ليس قوة الشيطان، بل هو فساد المنهج.
إن منهجهم القائم على محاربة الفطرة وقمعها لا يقتلها، بل يدفعها إلى أقبية النفس المظلمة لتنفجر هناك في أبشع صورها. إنهم كمن يسد فوهة بركان بيده، فلا يلبث البركان أن ينفجر بشكل مدمر.
لقد صنعوا دينًا يربي المنافقين، دينًا يعلم الإنسان أن يظهر للناس وجه الزاهد القاسي، بينما هو في حقيقته عبد لشهوة سرية تهلك روحه.
أما دين القرآن، فإنه لا يكبت، بل يزكي. إنه لا يحارب الشهوة، بل يوجهها إلى قناتها الطاهرة النقية: الزواج، والمودة، والرحمة، والاستمتاع الحلال الذي هو في حد ذاته شكر لله.
خاتمة: من هم أسعد أهل الأرض؟
إن أكثر الناس تمتعًا في الدنيا هم المؤمنون الحقيقيون. لا لأنهم يملكون أكثر من غيرهم، بل لأن الله قد زين الإيمان في قلوبهم، فصاروا يجدون لذة لا يعرفها الملوك.
لقد رأينا بأعيننا بسمات الإخوة ومضاحكتهم بعد خروجهم من أقبية التعذيب، جروحهم لم تندمل، ولكن قلوبهم كانت تتنعم بلطف الله وقربه. ورأينا في المقابل النكد والضنك على وجوه من يملكون الملايين، أموالهم وأولادهم عذاب لهم، تزهق أنفسهم وهم كافرون.
إن ديننا ليس دين حرمان، بل هو دين الجمال والرحمة والحياة. دين يأمرنا أن نستمتع بزينة الله، ولكن يأمر قلوبنا ألا تعشق إلا الله.
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...﴾ (الأعراف: 32).
إنها لنا في الدنيا، خالصة لنا وحدنا يوم القيامة.