عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفصل الحادي عشر: من الفرد الصابئ إلى البنيان المرصوص - منهج العمل في زمن الغربة


الكتاب الرابع: المنهج والمهمة

الفصل الحادي عشر: من الفرد الصابئ إلى البنيان المرصوص - منهج العمل في زمن الغربة

مقدمة: بناة السفينة في زمن الطوفان

لقد وصلنا معًا أيها القارئ الكريم إلى نهاية رحلة الهدم، وبداية رحلة البناء. لقد حطمنا في الفصول السابقة أصنام الفكر والتاريخ والرجال، وكشفنا زيف المناهج التي أضلت الأمة. والآن، لم يعد يكفي أن نلعن الظلام، بل حان وقت إيقاد الشمعة الأولى.
إن العالم من حولنا يغرق في طوفان من الظلمات: ظلمة الطواغيت، وظلمة الكهنوت، وظلمة الإلحاد. ومهمتنا ليست أن نجلس على الشاطئ نندب حظنا، بل أن نقوم بما أمر الله به نوحًا عليه السلام: أن نبني "سفينة النجاة" بأعين الله ووحيه.
هذا الفصل هو "كتالوج" بناء هذه السفينة، وهو المنهج العملي للخروج من حالة الفرد التائه إلى قوة الجماعة المؤمنة.

1. المبدأ الأول للبناء: حتمية "الجماعة"

إن أول حقيقة يجب أن تستقر في يقيننا هي أن القرآن ليس كتابًا للأفراد المنعزلين، بل هو دستور لجماعة. لقد رأينا كيف أن تكاليفه كلها جماعية. إن الفرد المؤمن هو اللبنة، ولكن الله يريد بناء ﴿بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
فالخطوة الأولى للخروج من "التيه" الذي نعيشه، هي أن يكف المؤمن عن البحث عن نجاته الفردية فقط، ويبدأ في البحث عن أخيه المؤمن، ليؤسس معه "النواة الأولى"، مرحلة "ثاني اثنين" التي بدأت بها كل دعوة مباركة.

2. تصميم السفينة: "حبلٌ من الله وحبلٌ من الناس"

لقد وضع لنا القرآن قانون البقاء والنجاح في آية عظيمة هي سر نجاة بني إسرائيل رغم كل ما مر بهم: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾. هذان هما مجدافا سفينتنا:

  • حبل من الله (المحور الرأسي): وهو الاعتصام بالقرآن وحده، دستورًا ومنهجًا وحكمًا. أي جماعة لا تقوم على هذا الأساس الصافي، وتخلط معه روايات الرجال وأهواءهم، فإن حبلها مع الله واهٍ، وسفينتها مصيرها الغرق.
  • حبل من الناس (المحور الأفقي): وهو بناء علاقات قائمة على العدل والرحمة والحكمة مع العالم من حولنا. إن مهمتنا ليست العزلة والتكفير، بل الدعوة والشهادة بالقسط. يجب أن تكون جماعتنا مصدر خير ونفع وأمان لمجتمعها، فتكون بذلك "أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس".

3. وقود السفينة: العلم والإيمان لا انفصام بينهما

وهنا نصل إلى النقطة التي نفرق بها بين منهجنا ومنهج العلمانيين والتقليديين معًا.
نحن نتفق مع العلماني في ضرورة اتخاذ "العلم" سبيلاً لإقامة الدنيا، من فيزياء وكيمياء وطب وهندسة. فالله أمرنا بالنظر في ملكوت السماوات والأرض.
ولكننا نفترق معه افتراقًا جذريًا حين يزعم أن هناك انفصامًا بين "العلم" و "الإيمان".
إن هذا هو الكفر بعينه. ففي منهجنا:

  • "الكتاب المنظور" (الكون) و "الكتاب المقروء" (القرآن) هما من عند مؤلف واحد، فلا يمكن أن يتعارضا.
  • العلم المشهود يكشف لنا عن "آثار أفعاله" و "قوانين صنعه".
  • والقرآن يكشف لنا عن "الغيب" و "غاية الصنع".

فالمؤمن الحقيقي هو العالم الحقيقي، الذي كلما ازداد علمًا بقوانين الكون، ازداد خشية وإيمانًا بصانع هذا الكون. جماعتنا يجب أن تكون منارة للعلم والتقدم، لا كهفًا للجهل والخرافة. إن فصل العلم عن الدين هو عين "الإلحاد" و "الجحود" و "الكفران" بنعم الله العقلية والكونية.

4. ورشة البناء: "اجعلوا بيوتكم قبلة"

إن كل ما سبق قد يبدو كبيرًا وبعيد المنال. ولكن القرآن أعطانا نقطة البداية العملية في زمن الاستضعاف، في منهج موسى عليه السلام: ﴿...وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ...﴾.
بما أن الساحات العامة والمنابر والمساجد قد استولى عليها الطاغوت، فإن "ورشة بناء السفينة" اليوم هي بيوتنا.
في هذه البيوت-القبلة، نبدأ العمل:

  • نقيم حبل الله: بالاجتماع على تدبر القرآن وتدارسه.
  • نقيم حبل الناس: بتربية أبنائنا على الأخلاق الحسنة، والتواصي بالحق والصبر.
  • نقيم العلم: بتشجيع أبنائنا على التفوق في كل العلوم النافعة.

إن كل بيت يتحول إلى قبلة للعلم والإيمان والأخوة، هو أول لبنة في "البنيان المرصوص". وحين تتصل هذه البيوت ببعضها، تبدأ سفينة النجاة في التشكل.

خاتمة: وعد الله للصابرين

إن الطريق طويل، والبناء شاق. ولكننا لسنا مكلفين بالوصول، بل مكلفون بالسير على الطريق. مهمتنا أن نضع اللبنات الأولى بشكل صحيح، وأن نغرس البذرة الصالحة، ثم نترك الأمر لمن بيده كل شيء.
فاصبر يا أخي، ولنصبر معًا، ولنبنِ سفينتنا في صمت ويقين.
﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (هود: 115).



تتمة وتعميق للفصل الحادي عشر

"حبل من الناس": حبل الرحمة لا حبل المداهنة

حين نقول إن على الجماعة المؤمنة أن تبني "حبلاً مع الناس"، يجب أن يكون واضحًا أن هذا الحبل ليس حبل "المداهنة" والتنازل عن المبادئ. حاشا لله. إننا لا نترك أبدًا منهج "المفاصلة" الذي قام عليه دين إبراهيم والذين معه، فنحن نتبرأ من الباطل وأهله.

ولكن "المفاصلة" شيء، و"الحكمة والرحمة في الدعوة" شيء آخر. إن منهجنا في التعامل مع الناس يقوم على هذه الأركان القرآنية:

1. الأصل هو الرحمة، والاستثناء هو المواجهة:
إن قاعدتنا العامة مع كل الفرق وكل الناس هي المجادلة ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. نحن لا نبدأ بالعداوة، بل نبدأ بالدعوة. والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، أي أولئك الذين يبدأوننا بالعدوان والظلم ويحاربون الحق عنادًا واستكبارًا.

2. في كل ضلال قبس من نور:
إننا نرى الناس، كما وصفتَ، ليسوا كتلة واحدة من الظلام. بل نرى أن الصفوف مختلطة، وأن كثيرًا من الناس في كل فرقة وتيار، فيهم "جزء من نور"، بذرة من الفطرة الصادقة، ولكنهم يجهلون الطريق إلى النور الكامل. مهمتنا ليست أن نلعن ظلامهم، بل أن نخاطب قبس النور الذي فيهم، ونريهم كيف أن القرآن هو الشمس التي ستجعل هذا القبس يشرق.

3. نحن شهداء لا قضاة:
وهنا نصل إلى النقطة الأخطر التي ضلت فيها الفرق: "التكفير". لقد قلتها بوضوح، وهو الحق: إن التكفير ليس حقًا للكهنوت ولا للعامة، بل هو حق لله وحده، له الحكم والأمر.
إن مهمتنا ليست أن نحكم على مصائر الناس ونوزع عليهم صكوك الكفر والإيمان. مهمتنا هي:

  • أن نوالي الحق وأهله، وننصر الضعفاء والمظلومين.
  • وأن نتبرأ من الباطل ومنهجه، ومن الظالمين وأفعالهم.

نحن نفصل بين "الفعل" و "الشخص". نتبرأ من "فعل" الشرك والظلم، ولكننا نكل "شخص" الفاعل إلى الله، وندعوه إلى التوبة، ولا نغلق في وجهه باب رحمة الله.

4. أدب المفاصلة: قمة الرقي الإيماني
حتى في أشد لحظات المفاصلة، يعلمنا القرآن أدبًا رفيعًا يذوب له القلب. لقد أتيتَ بالآية التي هي دستور هذا الأدب:
﴿قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (سبأ: 25).
تأمل في هذا الجمال! المؤمنون، رغم يقينهم بأنهم على الحق، ينسبون لأنفسهم كلمة "الإجرام" على سبيل الفرض، بينما ينسبون لخصومهم كلمة "العمل" المحايدة. إنهم لا يقولون "ولا نُسأل عما تجرمون"، بل ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
إنهم لا يشخصنون الخلاف، ولا يقابلون الشتيمة بشتيمة. إنهم يرفعون القضية كلها إلى الله الفتاح العليم، في منتهى الثقة والأدب.

5. تواضع الذاكرة: "كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ"
وهذا هو السياج الأخير الذي يحمي قلوبنا من الغرور والكبر. يجب ألا ننسى أبدًا من كنا.
حين ننظر إلى شاب متعصب في فرقة ضالة، أو شيخ مقلد يردد كلام الأحبار، يجب أن نتذكر أنفسنا. لقد كنا يومًا في مكانهم، نتعصب لما يتعصبون، ونقول ما يقولون. ﴿كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ...﴾ (النساء: 98).
فمن الذي هدانا؟ إنه الله وحده. فكيف نضمن ألا يهديهم الله غدًا كما هدانا اليوم؟ بل لعلهم إن اهتدوا، يكونون أصدق منا وأقرب إلى الله.
إن هذه الذكرى تجعل قلوبنا حانية، وألسنتنا رفيقة، ودعوتنا صادقة، لأننا لا ندعوهم من برج عالٍ، بل ندعوهم كإخوة كانوا في نفس الحفرة التي كنا فيها، ونريد أن نأخذ بأيديهم ليخرجوا معنا إلى النور.

سجل المراجعات