عودة المسلمين لميقات رب العالمين

رحلة البحث عن النجاة: في بحر الفرق

لقد دخلتُ كل فرقة من هذه الفرق جاثياً على ركبتي، متعلماً وتلميذاً مستمعاً، وكثيراً ما كنتُ سابقاً وداعياً، لم أكن مجرد عابر سبيل. إن مسيرتي، على ضعفها، فيها شبه ولو ضئيل بقصة الخليل إبراهيم عليه السلام في بحثه عن ربه. لقد كنتُ قلب فتى تشوّق إلى الحق، مندفعاً بكل ما أوتي من قوة ليجد الحل، ظاناً أن الجواب سهل.
ما من فرقة أو مذهب أو نحلة دخلتها إلا واعتبرتها في البداية طوق النجاة الأخير، كنت كمن يقول مع إبراهيم: ﴿هَٰذَا رَبِّي ۖ هَٰذَا أَكْبَرُ﴾. ولكن، ما إن أدخل في خضم كل منهج، حتى أجد بعد المقدمات الجميلة والشعارات البراقة والأدوات الفعالة، خواءً واختلافاً وتشرذماً.
بدأت رحلتي فتىً ناشئاً أحافظ على الصلوات، انتقلتُ من فكر الإخوان إلى جماعة التبليغ والدعوة، ثم إلى السلفية التقليدية وأعلامها (محمد حسان، محمد حسين يعقوب، عائض القرني، سلمان العودة)، ثم إلى السلفية العلمية (الألباني، ابن عثيمين، ابن باز)، ثم إلى فروعها كالسلفية الجامية والمدخلية. وبعد صدمات الثورات، استغرقتني كتابات سيد قطب جداً وتأثرت بها، ثم بدأت في تأصيل قناعات جهادية، ثم تكفيرية، والفرق التكفيرية بحر لا ساحل له. ولما لم أجد بغيتي إلا اختلافاً واختلالاً، اعترتني فترة بحث صادق في مسالك التصوف وفرق التشيع، ثم الإباضية، ثم التيارات العقلانية، ثم الفكر القرآني.
استغرقت تلك الرحلة العنيفة عقداً ونيفاً، ثم وقعتُ في الإلحاد، ولم يكن دخولاً عابراً، بل جاء بعد بحث معمق استمر عقداً كاملاً، تعمقت فيه في تأصيلات الفكر الإلحادي، سواء في أصول الأديان مع كتابات سيد القمني وفراس السواح وعبدالله القصيمي، أو من الناحية العلمية مع كتابات ريتشارد دوكنز.
حتى بلغت الأربعين من عمري، ثم عادت دماء أهل غزة لتزلزل بنياني من جديد، وتكشف لي فساد المنظومة الفلسفية الغربية وتطبيقاتها الإجرامية وازدواجية معاييرها الخطيرة. فكما كانت دماء أهل فلسطين نوراً لي في بداية تديني، كانت هي قبس النور الأخير قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، فرجعتُ إلى ربي نادماً آسفاً.
لقد رأيت في مشواري أهوالاً؛ جحافل بشرية من صفوة مجتمعاتنا تهوي في السجون، أو تُباد على الثغور، أو تفنى أعمارها في خدمة أغراض أقوام آخرين، والحصيلة خسارة الدنيا والدين. رأيت أعناق الشباب تُسحق بين فكي كماشة علماء السوء وطواغيت الإجرام في مؤامرة محكمة ومكررة. وأيقنت أن العيب فينا لا فيهم، وأنه يجب أن نتعلم من أخطائنا، فقد قيل: "من الحماقة أن تكرر نفس العمل وتتوقع نتيجة مختلفة".
اتركُوني أحكِ لكم عن هذا المشوار بشيء من التفصيل، وكيف رأيت كل فريق من الداخل، وكيف أكد لي هذا الدرب أن حجم التضحيات الذي قدمناه يحتاج فقط إلى قليل من الإخلاص ليؤتي ثماره المهولة. فلا تستقلوا التصحيح، ولا تملّوا الدعوة الحقة، ولا تيأسوا من روح الله، فإن في كل فرقة مخلصين يمكنهم أن يتركوا كل الأهواء، ويعودوا أفراداً ليدخلوا في منظومة جديدة ليس فيها إلا الله وحق الله.
سأبدأ بقصتي بنوع من التبسط، لنستخلص معاً فائدة من كل محطة، وعبرة من كل فصل.

سجل المراجعات