عودة المسلمين لميقات رب العالمين

فصل: تحرير الفطرة من سجون العار: مواجهة نفاق المجتمع

الفصل التالي: تحرير الفطرة من سجون العار: مواجهة نفاق المجتمع

مقدمة: أسلحة الشيطان الخفية في حرب الفطرة

﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ [الأعراف: 27]

إن المعركة الأزلية بين الحق والباطل ليست معركة سيوف ورماح فحسب، بل هي في جوهرها معركة على "الوعي" و"النفس". وإن أعظم أسلحة الشيطان التي يفتن بها بني آدم ليست الشهوة المجردة، بل هو "العار" الذي يغلف به هذه الشهوة، فيحول الفطرة التي فطر الله الناس عليها إلى جرحٍ غائر ومصدر للألم والشعور بالدونية.

لقد أسسنا في فصول سابقة للنظام القرآني المتكامل في علاقات الرجال والنساء، نظام يقوم على الوضوح والحرية المسؤولة والحقوق المتبادلة. ولكن، لماذا يبدو هذا النظام غريبًا ومنفرًا في مجتمعاتنا اليوم؟ لأن كهنوت التقليد والمجتمع المنافق قد بنوا حوله سجونًا نفسية عالية، أسوارها "العار" وقضبانها "الوصم الاجتماعي"، وحراسها هم "دعاة الفضيلة الزائفة". هذا الفصل هو دعوة لاقتحام هذه السجون وتحطيم قضبانها.

1. جريمة وصم المرأة: "أأنتِ عاهرة؟"

لقد كرّم القرآن المرأة أيما تكريم. لم يجعل عطاءها في الميثاق الزوجي عطاءً مجانيًا يُستغل، بل قدّره وجعل له "أجرًا" مسمى، ووصفه بأنه "فريضة". هذا "الأجر" ليس ثمنًا لجسد، بل هو أسمى درجات التقدير لقيمة "المتاع" الذي تقدمه، من سكينة ومودة ورحمة وجمال. إنه اعتراف إلهي بأن ما تبذله المرأة هو عملٌ منتج يستحق أسمى التقدير.

ولكن، ماذا يحدث في دين "العار" الذي صنعوه؟ حين تطالب المرأة بهذا الحق الإلهي، لا تُجاب بمنطق العقد والشريعة، بل تُضرب بسوط الوصم: "أأنتِ عاهرة حتى تطلبي أجرًا على متعتك؟".

يا سبحان الله! انظر كيف يُقلب الحق باطلًا! لقد أراد الله أن يرفعها منزلة الشريك المكرّم الذي يُقدّر عطاؤه، فأرادوا هم أن يبقوها في منزلة العبد الذي يُستباح جهده بلا مقابل. إنهم لا يريدون "زوجة شريكة" لها حقوقها الواضحة، بل يريدون "جارية مستترة" تخدم بالمجان تحت شعارات "الحب" و"التضحية" الزائفة. إنهم يفرون من عدالة القرآن إلى ظلم التقاليد، لأن العدالة تفرض حقوقًا، أما الظلم فيقوم على الاستغلال.

2. جريمة وصم الرجل: "أأنت دنيء صفيق رعديد؟"

وعلى الجانب الآخر من السجن، يقف الرجل مكبلاً بسلاسل العار نفسها. لقد أودع الله فيه طاقة فطرية، وفتح له أبواب الحلال ليصرفها في النور، فقال: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم﴾. لكن ماذا يحدث حين يحاول الرجل أن يطرق أبواب الحلال هذه؟ إنه يُرجم بوابل من الاتهامات التي تهدف إلى إخصائه نفسيًا وتحطيم كرامته:

  • تهمة الدناءة: يسمونه "دنيئًا" لأنه يطلب ما أحله الله، بينما يغض مجتمعهم المنافق الطرف عن بحور الفواحش السرية من علاقات محرمة ومشاهدات إباحية، وهي الدناءة الحقيقية التي تهدم الروح. إنهم يفضلون "الدنيء" الذي يمارس فجورًا سريًا على "التقي" الذي يريد حلالًا معلنًا.
  • تهمة الصفاقة: يسمونه "صفيقًا" وقليل حياء لأنه يختار الوضوح والصراحة، بينما ثقافتهم قائمة على الكذب والخيانة في الظلام. إن الصراحة في طلب الحلال عندهم وقاحة، بينما النفاق في ممارسة الحرام "خصوصية" و"شطارة"!
  • تهمة الرعدَدَة: يسمونه "رعديدًا" جبانًا، وكأن الزواج الثاني علامة ضعف. وأي منطق أعوج هذا؟ وهل إعالة بيتين وتحمل مسؤولية أسرتين وحماية نساء من العوز والفتنة هو فعل الجبناء، أم هو فعل الرجال الأقوياء الأمناء الذين يخشون الله ولا يخشون "كلام الناس"؟

إنهم بهذا النفاق يغلقون أبواب الحلال التي فتحها الله، فلا يتركون للشباب وللرجال إلا طريقين: إما الكبت الذي يولد العقد والأمراض، وإما الفجور الذي يولد الفوضى والدمار.

3. جريمة تشويه الشريكة: "بغيٌّ في ثوب زوجة"

ولا تتوقف جريمتهم عند الرجل والمرأة، بل تمتد لتغتال معنويًا كل امرأة تقبل أن تكون جزءًا من عقد شرعي أباحه الله. إنهم لا يرونها "زوجة" لها كامل الحقوق والكرامة، بل يرمونها بأقبح الأوصاف. ينظرون إليها كـ"خاطفة رجال"، أو "بغيٍّ مقنّعة"، أو "مدمرة بيوت".

إن هذا التشويه ليس عفويًا، بل هو أداة ضرورية للحفاظ على سجن "الزواج الكهنوتي" الذي بنوه. فلا يمكنهم أن يحرّموا ما أحل الله إلا بشيطنة من يمارسه، وتصويره كجريمة اجتماعية. إنهم بذلك لا يظلمون امرأة بعينها، بل يظلمون شريعة الله، ويصدون عنها الناس بالترهيب والتشويه.

خاتمة: من سجن العار إلى رحاب القرآن

يا أخي في الله، إن يوتوبيا المؤمنين ليست مجتمعًا من الملائكة، بل هي مجتمع من البشر الصادقين. مجتمع صادق مع فطرته، لا يخجل من حاجاته التي أودعها الله فيه. ومجتمع صادق مع ربه، فيطبق شرعه في النور، لا يتحايل عليه في الظلام.

  • في مجتمع القرآن، المرأة التي تطالب بحقها هي امرأة قوية، واعية، ومكرمة، لا عاهرة.
  • في مجتمع القرآن، الرجل الذي يطلب الحلال ليحصن نفسه هو رجل تقي، شجاع، ومسؤول، لا دنيء.
  • في مجتمع القرآن، كل امرأة تدخل في ميثاق غليظ هي "زوجة" محصنة ومكرمة، لها كل الاحترام.

إن دعوتنا هي ثورة على هذا النفاق. هي دعوة لنكسر سجون العار، ولنتنفس هواء الصراحة مع أنفسنا ومع ربنا. أن نقيم علاقاتنا على "تبادل المنافع" المقدس الذي شرعه الله، والذي قوامه "الأجر" و"المعروف" و"القسط"، لا على الأكاذيب الاجتماعية والشعارات الزائفة التي ما هي إلا أسلحة الشيطان ليفتننا عن ديننا ويفسد علينا حياتنا.

سجل المراجعات