الفصل الثاني: صنم المركزية البشرية - الإنسان دابةٌ في اختبار
بسم الله الواحد القهار، خالق الدواب والأطيار، ومُعلي أقدار الأبرار وخافض رؤوس الاستكبار.
الفصل الثاني: صنم المركزية البشرية - الإنسان دابةٌ في اختبار
يا أخي، يا من بدأنا معاً رحلة هدم الأصنام،
بعد أن حطمنا الصنم الأول، وثن الحصرية الدينية، وفتحنا أعين قلوبنا على شمول رحمة الله التي وسعت كل أمة، نأتي اليوم إلى صنمٍ أقدم وأشد تجذراً في أعماق نفوسنا. صنمٍ لا يُعبد بالأحجار، بل يُعبد بالغرور. صنمٍ لا يُسجد له، بل تتشربه النفس حتى تظن أنها هي الرب.
إنه صنم المركزية البشرية.
هذا الوهم العظيم الذي همس به الشيطان في أذن الإنسان فقال له: "أنت قصة الكون الوحيدة. أنت غاية الخلق. كل ما يدب على هذه الأرض أو يطير في سمائها، من حيتان البحار إلى أسود الغابات، ليسوا إلا كومبارس في مسرحيتك الكونية، وديكوراً وُضع لخدمتك وبهجتك".
فصدّق الإنسان هذه الكذبة، فانتفخ وتجبّر، ونصب لنفسه عرشاً وهمياً في مركز الوجود، ونسي أنه في ميزان الحق ليس إلا دابةً في اختبار.
واليوم، مستلهمين قوة حجة إمامنا إبراهيم عليه السلام، الذي لم يترك لقومه وثناً إلا وحطمه بمنطق العقل ونور الوحي، سنقتلع هذا الصنم من جذوره، وسنضع الإنسان في حجمه الحقيقي الذي أراده له خالقه.
أولاً: قلب الهرم - متى يكون الإنسان ﴿شَرَّ الدَّوَابِّ﴾؟
انظر يا أخي كيف يبدأ إبراهيم حجته. إنه لا يبدأ بالصراخ، بل يبدأ بالمنطق الهادئ القاصم. يدعو قومه للنظر في آلهتهم ليروا حقيقتها. ونحن كذلك، سندعو الإنسان المغرور لينظر في حقيقة "أفضليته" المزعومة.
يزعم الإنسان أنه الأفضل والأكرم لأنه يملك "العقل". حسناً، فلنستخدم هذا العقل نفسه كميزان. إن قيمة أي شيء هي في أدائه للغاية التي صُنع من أجلها. فقيمة العين في الإبصار، وقيمة الأذن في السمع. فما هي غاية العقل الذي مُنح للإنسان؟ إنها معرفة الحق والإيمان به.
فماذا لو أن هذا الإنسان، صاحب العقل، استخدم أثمن هبة مُنحت له ليفعل عكس الغاية منها؟ ماذا لو استخدم عقله ليجحد خالقه، ويصد عن سبيله، ويفسد في أرضه؟
هنا يأتي الجواب القرآني كالصاعقة التي تقلب هرم الغرور رأساً على عقب، وتضع الأمور في نصابها الصحيح:
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (الأنفال: 22).
وفي موضع آخر أشد وأوضح:
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنفال: 55).
الله أكبر! تأمل يا أخي في هذا البيان الإبراهيمي الحاسم. إن الميزان عند الله ليس بالنوع أو الشكل أو القدرة على بناء ناطحات السحاب. الميزان هو بالغاية.
الدابة التي لا تملك عقلاً ولكنها تسير على فطرتها فتسبح لربها، هي أكرم عند الله وأعلى درجة من الإنسان الذي أوتي العقل ثم استخدمه للكفر والجحود.
إن الإنسان الذي يكفر، لا يهبط إلى مستوى البهيمة، بل يهوي إلى ما هو أدنى منها. يصبح "شر الدواب"، أي أسوأ وأحقر ما يدب على الأرض في ميزان الحق. لأنه خان الأمانة، وعطّل الأداة، وخان الغاية من وجوده.
فأين هو هذا الكرم المطلق وهذا الشرف الموروث الذي تتشدق به أيها الإنسان، وأنت مهدد في كل لحظة بأن تكون في ميزان خالقك أحقر من بعوضة أو نملة؟
ثانياً: ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ - شهادات من وعي هدهد سليمان ونملته
بعد أن حطم إبراهيم آلهتهم منطقياً، واجههم بالواقع المادي: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾. ونحن أيضاً، بعد أن حطمنا أفضلية الإنسان منطقياً، سنواجهه بشهادات واقعية من قلب كتاب الله، شهادات تكشف أن وعيه الذي يتفاخر به ليس فريداً كما يظن.
لقد أخبرنا ربنا بحقيقة كونية مذهلة، طمسها غرورنا لقرون:
﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38).
توقف عند كل كلمة! "أممٌ": لهم مجتمعات وأنظمة وقوانين. "أمثالكم": هذه هي الكلمة القاصمة. لم يقل "أدنى منكم" أو "مسخرة لكم"، بل "أمثالكم". لهم وعي ولغات ومشاعر وذاكرة وشخصيات. جهلنا بلغتهم لا ينفي وجودها. ثم "إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ": يُحشرون ليُقام العدل بينهم، ويشهدوا على ما كان في عالمهم.
ولكي لا يبقى هذا كلاماً نظرياً، فتح الله لنا نافذتين صغيرتين لنطل منهما على عظمة هذه العوالم:
- شاهد الإثبات الأول: هدهد سليمان
هذا "الطائر" لم يأتِ بخبرٍ عابر. بل قدم تقريراً استخباراتياً وتحليلياً كاملاً لا يقدمه إلا أعقل الحكماء:
- تحليل سياسي: "إني وجدت امرأة تملكهم".
- تقييم اقتصادي: "وأوتيت من كل شيء".
- وصف معماري: "ولها عرش عظيم".
- تحليل عقدي (وهو الأعجب): "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله".
- فهم لنفسية الشيطان: "وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل".
- غيرة على التوحيد: "أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ...".
هل هذا وعي "بهيمة"؟ أم وعي نبيّ مصلح غيور على دين الله؟
- شاهد الإثبات الثاني: نملة سليمان
تلك "الحشرة" الصغيرة، لم تصرخ صرخة هلع، بل نطقت ببيان محكم يكشف عن منظومة وعي مذهلة:
- وعي بالهوية الجماعية: "يا أيها النمل".
- تخطيط استراتيجي: "ادخلوا مساكنكم".
- تحديد دقيق للخطر: "لا يحطمنكم سليمان وجنوده".
- فهم لنوايا الآخرين (وهو قمة الوعي): "وهم لا يشعرون".
يا الله! إنها لا تتهم سليمان بالظلم، بل تلتمس له العذر! تدرك الفرق بين الفعل العمد والفعل الخطأ. هذا مستوى من الرقي الأخلاقي والنفسي يفتقر إليه اليوم كثير من البشر الذين يفترسون بعضهم البعض.
فيا أيها الإنسان المتكبر بوعيك، وأنت الكائن الحديث على هذا الكوكب، ماذا تعرف عن وعي هذه الأمم التي تسبقك بملايين السنين؟ أي حكمة تراكمت لديها؟ أي تسبيح وفطرة نقية تحملها؟ إننا كطفل وليد يرى شيخاً حكيماً صامتاً، فيظنه جاهلاً لأنه لا يتكلم لغته الصاخبة.
ثالثاً: مقامك الحقيقي - بين أسفل سافلين وسدرة المنتهى
والآن، بعد أن تحطمت صورة الإنسان كـ"مركز للكون"، يأتي القرآن ليبني لنا الصورة الحقيقية. ليجيب على السؤال الأهم: إذن، ما هو مقامك الحقيقي يا إنسان؟
الجواب يأتي في سورة التين، التي هي الميزان الأخير الذي يحدد قيمتك الحقيقية:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... (6)﴾
هنا الحقيقة كاملة. أنت لست في مقام ثابت، بل أنت كائنٌ على سلم متحرك، له قطبان:
- القطب الأعلى (أحسن تقويم): هذا هو التكريم بالإمكانية والقدرة. لقد أعطاك الله أفضل "عتاد": العقل، والبيان، وحرية الاختيار، والقدرة على حمل الأمانة. هذه هي نقطة انطلاقك، وهي محض فضل ورحمة.
- القطب الأدنى (أسفل سافلين): هذا هو المصير الحتمي لمن يخون الأمانة ويخون "أحسن تقويم". حين تستخدم العقل للكفر، والبيان للكذب، والإرادة للفساد، فإنك تهوي بنفسك إلى حفرة سحيقة، إلى مرتبة لا تصل إليها البهائم، فتصبح "شر الدواب"، وتكون في أسفل السافلين.
- المحرك الصاعد (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات): ما الذي يمنعك من الهويّ ويرفعك على هذا السلم؟ شيء واحد فقط لا غير. ليس جنسك، ولا لونك، ولا عرقك، ولا ذكاؤك. إنه الإيمان والعمل الصالح.
شرفك ليس في كونك "إنساناً"، بل في كونك "عبداً مؤمناً صالحاً". فقط حين تستسلم لخالقك، وتتواضع له، وتكون صالحاً في نفسك، مصلحاً في الأرض، ساعتها فقط يبدأ محركك بالصعود. تبدأ رحلة الارتقاء بوعيك وروحك، رحلة معراج لا تتوقف، قد تصل بك إلى مقام القرب، إلى "سدرة المنتهى"، إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه وعي مخلوق من نور الله وقدسيته.
فيا أيها الإنسان، اعرف قدرك. أنت لست سيداً متوجاً على عرش الكون. أنت دابة في اختبار، على جسر دقيق منصوب بين "أسفل سافلين" و"سدرة المنتهى". فإما أن يدفعك الكبر والغرور فتهوي، وإما أن يرفعك الإيمان والتواضع فترتقي.
فاختر لنفسك مقامك.