عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفصل السادس تنطعات الطاغوت: كيف أصبح الحج برهانًا على الخضوع لغير الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل السادس

تنطعات الطاغوت: كيف أصبح الحج برهانًا على الخضوع لغير الله

بعد أن أبحرت سفينة تدبرنا في محيط كتاب الله، ورأينا بأعيننا صورة الحج الرباني، بكل جلاله ونوره ومنافعه ورحمته، آن الأوان لنرسو على شاطئ الواقع الأليم. آن الأوان لنقوم بعملية تشريح مؤلمة ولكنها ضرورية، لنكشف كيف تحول هذا الجسد النوراني إلى هيكل فارغ، وكيف تم مسخ أعظم منسك في دين الله ليصبح شيئًا آخر، بل نقيضًا لما أراده الله.

إن الحج في صورته الحالية، بكل أسف وأسى، لم يعد برهانًا على الخضوع لله وحده، بل أصبح أكبر استعراض سنوي، وبرهانًا عمليًا على خضوع الأمة لسلطة الأحبار والرهبان، وطاعة الطاغوت. لقد تم تفريغ المنسك من معناه بالكامل، وتحويله إلى سلسلة من "التنطعات" والمشقات والطقوس التي لا تخدم إلا غاية واحدة: إثبات أن هذه الأمة لا تزال تسمع وتطيع لمنظومة "الوثن التشريعي"، حتى لو أمرتها بما يخالف صريح القرآن.

هذا الفصل هو شهادة زور على دين الله، وبهتان عظيم افتروه عليه. هو صرخة لنقض هذا البنيان الزائف، وكشف عورته، ودعوة للعودة من حج الطاغوت، إلى حج رب العالمين.



قلب الأولويات: حينما يُهدم الركن ويُقام التطوع

إن أولى علامات التحريف في أي دين هي قلب الأولويات. أن يصبح ما هو تطوع ورخصة، فرضًا وركنًا. وأن يصبح ما هو ركن وفرض، منسيًا ومطموسًا. وهذا بالضبط ما حدث للحج.

  • السعي بين الصفا والمروة: جعلوه ركنًا لا يتم الحج إلا به، بينما القرآن يصفه بعبارة ترفع الحرج وتفيد الإباحة: ﴿...فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...﴾.
  • شعيرة "البُدْن" العظمى: وهي الشعيرة المركزية التي أُقيم الحج أصلًا لشكر الله على نعمتها، والتي ورد فيها الأمر الإلهي الصريح ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا﴾، تم طمسها تمامًا، ومحوها من قائمة الأركان والواجبات، فلم يعد لها وجود إلا في بطون المصاحف.

إن هذا القلب المتعمد للأولويات ليس عبثيًا. لقد تم إلهاء الحجيج بشعائر حركية فردية (كالسعي)، وصرفهم عن الشعيرة الجماعية الكبرى (البُدْن) التي تحمل في طياتها أبعادًا اقتصادية واجتماعية ووحدوية تهدد مصالح القائمين على هذا الدين المحرف.



عرفات: من براءة الله إلى بيعة الطاغوت

كان يوم عرفات، يوم الحج الأكبر، هو يوم الإعلان السياسي والتوحيدي الأهم في تاريخ الأمة. كان هو اليوم الذي يُعلن فيه الميثاق:
﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ...﴾
كان يوم إعلان البراءة من كل شرك، ومن كل طاغوت، وتجديد الولاء لله وحده. فماذا أصبح اليوم؟ لقد تحول إلى منبر "للتسبيح بحمد الطاغوت". أصبحت خطبة عرفات هي المنصة السنوية لتكريس سلطة الحاكم، وتذكير الناس بواجب طاعته، والدعاء له، مع التحذير من كل فكر تحرري يدعو للعودة إلى القرآن وحده. لقد استُبدل "أذان البراءة من المشركين" بـ"بيعة الولاء للطاغوت"، وتم تخدير الأمة في أقدس أيامها.



دين المشقة والسفاسف: إرهاق الأمة وإلهاؤها

لكي تضمن هذه المنظومة الحبرية الطاغوتية استمرار سيطرتها، كان لا بد لها من إرهاق الحجيج وإلهائهم بسفاسف الأمور وتفاصيل لا تنتهي من الغلو والتشدد. لقد لبّسوا على الناس دينهم، وحولوا رحلة اليسر والرحمة إلى رحلة عذاب نفسي وجسدي:

  • حرب المخيط والصابون: تجد الآلاف من رجال الدين والمتطوعين يجرون في كل مكان، ليس ليعلموا الناس مقاصد الحج العظمى، بل لينهروا هذا لأنه لبس جوربًا مخيطًا، ويصرخوا في وجه ذاك لأنه اغتسل بصابونة معطرة. لقد حولوا دين الله إلى قائمة من الممنوعات التافهة، فأشغلوا الناس بالقشور عن اللباب.
  • فوضى المصطلحات: لقد أضلوا الناس عمدًا عن الزمان والمكان والنسك. خلطوا "الهدي" بـ"البُدْن". جعلوا "التمتع" الذي هو "إلى الحج"، يتم "في الحج" في تناقض صارخ. ابتدعوا بدعة "الأضحية" المعممة. واخترعوا مناسك الموت التي لا أصل لها كالمبيت بمنى ورجم الجمرات.

إن الهدف من كل هذا هو إبقاء الحاج في حالة من الإرهاق الذهني والجسدي، والقلق الدائم من الوقوع في الخطأ، فلا يجد أي فرصة أو طاقة ليتساءل: أين هي المنافع التي جئت لأشهدها؟ وأين هي وليمة الرحمن التي وُعدت بها؟



الخسارة الكاملة: قائمة ما ضيعناه

إن الحجيج اليوم لا يأكلون من "البُدْن" لأنها لم تعد موجودة. وأهل الحرم لا يأكلون، لأن "الهدي المدعدع الهزيل" من النعاج والجديان (الجلد على العظم) الذي أجازوه لا يكفي أحدًا. لقد تم ترويج تجارة الرعاة الأغنياء على حساب اقتصاد الفلاحين الفقراء. لقد خسرنا المؤتمر العلمي والثقافي الذي كانت تأتي فيه كل أمة لتذكر إنجازاتها شكرًا لله. خسرنا وليمة الرحمن. خسرنا الميقات الكوني. خسرنا الأمن الغذائي. خسرنا إعلان البراءة. خسرنا كل شيء تقريبًا.

لقد أصبح الحج، في معظمه، مجرد "تنطعات". استعراض شكلي، ومظاهر فارغة، ومشقة بلا طائل، ورحلة لا تحقق من مقاصدها القرآنية شيئًا. إنه أكبر شاهد على غربة الإسلام، وأصدق برهان على أن الأمة قد ضلت عن سواء السبيل، يوم أن تركت كتاب ربها واتبعت أهواء أحبارها وطواغيتها.

سجل المراجعات