الإخوان المسلمون.. انتشار في الواقع وقصور في المنهج
مزايا الانتشار العملي
اكتشفت لاحقاً أن لذلك الرجل توجهاً إخوانياً. وميزة الإخوان التي لا تُنكر هي انتشارهم في جوانب حياة الناس العملية؛ فهم جزء من نسيج العمل النقابي والخيري، ولهم وجود في الاتحادات الطلابية، كما أنهم جزء من النسيج الاجتماعي للمسجد. هم براغماتيون (عمليون) جداً، ونشطون، ومنظمون، وكثير منهم مخلصون لأفكارهم ومثابرون عليها.
لهذا السبب، فإن من يبحث عن أولى خطواته نحو الدين، يلتقي بهم بنسبة كبيرة، إن لم يكن كفكر منظم، فبشكل فردي أو دعوي متأثر بهم. إن ميزة انسياب الإخوان في مجالات الحياة العملية، الاجتماعية منها أو الحزبية، هي قوة انتشار تتجاوز حدود المسجد. فعلى أهمية المسجد ومركزيته، إلا أن طبيعة حياة الناس اليوم، التي قامت على فصل الدين عن الدنيا، جعلت دور المسجد يقتصر على كونه محلاً لشعائر فردية محدودة. فصار الناس لا يدخلونه إلا ساعة الجمعة أو لأداء ركعتين على عجل، وبالتالي فإن فرصة إيجاد بيئة دعوية متكاملة فيه شبه منعدمة. هذه العملية الاندماجية مع أنشطة المجتمع أعطت الإخوان ميزة استباقية في الوصول للناس (ورغم أنهم فقدوا هذه الميزة في كثير من البلدان بسبب الاضطهاد، إلا أنها تظل سمة عالمية لهم تظهر بين الحين والآخر).
لماذا لم أنضم إليهم؟ صراع القشور واللباب
قد تسأل: لماذا لم أندمج مع الإخوان آنذاك؟ لن أتفلسف وأقول إنني ابتعدت عنهم لأني أدركت وقتها أن لديهم مشاكل منهجية في كذا وتأصيلية في كذا، فهذا فهمٌ جاء لاحقاً. إن مشكلة الشاب في تلك المرحلة أنه يغتر بـ"التدين القشري"، ويصطدم بأطنان من كتب التراث التي تكرس هذا المفهوم. روايات مثل: "أعفوا اللحى وحُفُّوا الشوارب"، و"لعن الله النامصة والمتنمصة"، وتوظيف بعض المشايخ لآية أمر الشيطان ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ وإسقاطها على تأصيلاتهم الخاصة.
فعند بعض التيارات السلفية، يصبح حلق اللحية من "خوارم المروءة"، ومخالفة صريحة لأمر الرسول، بل ومن "تغيير خلق الله"، وطاعة للشيطان، وتشبّه بالنساء والفساق... ويرصون لك قائمة من التهم من هنا إلى السماء، يتمترسون خلف أقوال نسبوها للرسول، ثم خلف أقوال علمائهم.
يرتعب الشاب الملتزم حديثاً من أوصاف اللعن والطرد من رحمة الله، ويفهم أن هؤلاء الإخوان، الذين لا يلتزمون بهذه الشكليات، هم قومٌ "متساهلون"، فيبدأ في اجتنابهم.
لقد أحرجتُ معلمي الأول، ذلك الرجل الخلوق الهادئ، فقلت له بحدةٍ لم أدرك قسوتها وقتها: "لماذا تحلق لحيتك؟". لا أنسى كيف كنت أصدر أحكامي عليه بأن منهجه لا يعجبني لأنه يخالف أمر الرسول!. وأنا أراجع المشهد الآن بعد ربع قرن، أرى كيف أني كسرتُ قلبه. وجدتُ الحسرة على وجهه، وفي تنهدات صدره، ودقات قلبه التي لا تزال ترن في حسي إلى اليوم. لم يغضب لنفسه، بل تحسر على فهمي الضحل. قال لي كلمة لا تزال أصداؤها تتردد في أذني: "يا ولدي، أنا من ساعدتك لتثبت على الحق ودعمتك في كل خطواتك، في أيام تخلّى فيها حتى والداك عنك. أيكون هذا جزائي منك؟ ألا تقدر كل ما تعرفه عني من فضائل، وتظن فيّ أني أخالف أمر الرسول؟". وافترقنا وهو حزين.
بدأت لقاءاتي به تقل تدريجياً بعد أن كنتُ أكاد أجالسه بعد كل صلاة. ثم إن هذا الرجل أصلاً، الذي لا أتذكر حتى اسمه، كان من العوام المتأثرين بالإخوان ولم يكن عضواً منظماً. وفرص الاندماج الحقيقي مع الإخوان وقتها كانت شبه منعدمة، لأنهم كانوا مضطهدين جداً في تلك الفترة، والساحة كانت خالية للسلفيين الذين أسرونا بقشرياتهم، بينما كان أغلب كوادر الإخوان يُعتقلون موسمياً ويُضيّق عليهم أشد التضييق.