فصل في تدبر قوله تعالى: "كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ"
فصل في تدبر قوله تعالى: "كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ"
[cite_start]في سورة الحجر، يأمر الله نبيه بالإنذار الصريح، ثم يصف حال القوم الذين كذبوا بهذا الإنذار فيقول: "وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴿٨٩﴾ كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ﴿٩٠﴾ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴿٩١﴾" [cite: 15-89, 15-90, 15-91].
تقف النفس المؤمنة متدبرة عند هذا الوصف العجيب: من هم "المقتسمون"؟ وما معنى أنهم "جعلوا القرآن عِضين"؟ قد يتبادر إلى الذهن أنهم قوم قسّموا القرآن فآمنوا ببعضه وكفروا ببعض، ولكن سياق السورة يتحدث عن مشركين كذبوا بالرسالة كلها. فكيف يستقيم المعنى؟
إن مفتاح الفهم يكمن في منهج القرآن نفسه، فهو الكتاب المثاني الذي يفسر بعضه بعضًا.
من هم "المقتسمون"؟ إنهم أهل الدنيا الذين قُسّمت لهم معايشهم
[cite_start]قبل هذه الآيات مباشرة، يواسي الله نبيه ويُرشده إلى الكنز الحقيقي الذي أوتيه، وهو القرآن، وينهاه عن النظر إلى متاع الدنيا الزائل الذي في أيدي الكفار، فيقول: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴿٨٧﴾ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ..." [cite: 15-87, 15-88].
هؤلاء "الأزواج" أي الأصناف والجماعات من الكفار، هم الذين مُتّعوا بزهرة الحياة الدنيا. ثم يأتي القرآن في سورة الزخرف ليكشف لنا أن الله هو من قسّم بينهم هذا المتاع، فيقول عن هؤلاء الكفار أنفسهم: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...".
إذًا، "المقتسمون" ليسوا من قسّموا القرآن، بل هم الذين قسّم الله بينهم معيشتهم في الدنيا. إنهم أهل مكة ومن على شاكلتهم، الذين أخذوا نصيبهم المقسوم لهم من المال والبنين والجاه، واطمأنوا به وركنوا إليه.
ما جريمتهم؟ جعلوا القرآن سببًا للغيظ والحنق (عِضين)
بعد أن عرفنا هويتهم، تأتي الآية لتصف جريمتهم الشنعاء: "الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ".لقد كانوا غارقين في دنياهم المقسومة لهم، فلما جاءهم القرآن ليوقظهم وينذرهم، لم يكن منهم إلا الكراهية والنفور. [cite_start]لقد أصبح هذا القرآن العظيم في صدورهم سببًا للغيظ الذي يحرق قلوبهم ويدفعهم إلى عض الأنامل، وهو حال كل من يبغض الحق كما يصوره القرآن: "...وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ..." [cite: 3-119].
فمعنى "جعلوا القرآن عضين" أي جعلوه سببًا وموضوعًا للعض عليه من الغيظ. فبدل أن يكون سببًا لشكرهم، أصبح مصدرًا لسخطهم، لأنه يهدد مكانتهم، ويسفّه أحلامهم، ويدعوهم إلى ترك ما وجدوا عليه آباءهم.
التشخيص الإلهي: لماذا القرآن شفاء لقوم وعذاب لآخرين؟
قد يتعجب المرء، كيف يكون الكلام الواحد شفاءً وهدى لقوم، وسببًا للغيظ والعمى لآخرين؟ [cite_start]يجيب القرآن نفسه على هذا السؤال فيقول: "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى..." [cite: 41-44].
فالقرآن كاشف لما في القلوب. من كان في قلبه بذرة إيمان وتواضع لله، نزل عليه القرآن فكان له هدى وشفاء. ومن كان في قلبه كبر وغرور وتعلق بالدنيا، نزل عليه القرآن فكان عليه عمى، وأغلق على أذنيه فلم يسمع إلا ما يغيظه ويثير حنقه.
الخلاصة: تحذير يتجدد عبر الزمان
إن قصة "المقتسمين" ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي سنة إلهية تتكرر. ففي كل زمان ومكان، يوجد "مقتسمون"؛ أناس قسّم الله لهم من الدنيا، سواء من المال أو العلم أو المكانة، ولكنهم بدل الشكر، يجعلون كتاب الله خلف ظهورهم. وإذا ذُكّروا بآياته المحكمات التي تخالف أهواءهم أو موروثات أئمتهم، عضّوا عليها الأنامل من الغيظ، واتهموا من يدعوهم إلى الله وحده بأبشع التهم.
فليحذر العبد المؤمن أن يكون من هؤلاء. وليعلم أن النعمة الحقيقية ليست ما قُسِمَ له من الدنيا، بل هي رحمة الله التي لا تُقسَم، وهي القرآن العظيم. [cite_start]فمن تمسك به نجا، ومن جعله سببًا لغيظه فقد حكم على نفسه بالخسران، فكما كان "مقتسمًا" في الدنيا، سيكون في الآخرة "جُزْءٌ مَّقْسُومٌ" [cite: 15-44] على أبواب جهنم.