الإشهار والتوثيق والإعلان الجماعي صفة جوهرية للنكاح الشرعي وليس شرطاً خارجياً
بسم الله الرحمن الرحيم.
يا أخي الباحث عن الحق، قبل أن نخوض في أي تفصيل، يجب أن نتفق على أصل الأصول في فهمنا لدين الله: إن القرآن يخاطبنا كـ "جماعة مؤمنة"، كأمة واحدة، وليس كأفراد منعزلين. إن الله لم يرسل دينه ليحكم حياة فرد هنا أو هناك في صومعته، بل أرسله ليقيم نظاماً اجتماعياً متكاملاً، وهذا لا يكون إلا من خلال خطاب جماعي.
أولاً: مفهوم "الخطاب الجماعي" كأساس للنظام الاجتماعي
تأمل في أوامر الله ونواهيه. حين يأمرنا بالصلاة، يقول: "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ" (البقرة: 43)، بصيغة الجمع. وحين ينهانا، يقول: "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا" (الإسراء: 32)، بصيغة الجمع. إن إقامة الصلاة ليست مجرد فعل فردي، بل هي شعيرة جماعية تقام في المجتمع، والنهي عن الزنا ليس مجرد تحذير فردي، بل هو أمر للمجتمع كله أن يغلق أبواب هذه الفاحشة.
والآن، انظر إلى الأفعال التي تبدو شخصية بطبيعتها، كالزواج والطلاق. هل خاطبنا الله فيها كأفراد؟ كلا.
• في الطلاق يقول: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ" (الطلاق: 1). الخطاب للنبي كقائد للجماعة، ثم يعمم على الجميع بصيغة الجمع "طلقـتم". لم يقل "إذا طلقتَ امرأتك". هذا يعني أن الطلاق ليس قراراً شخصياً يتم في الخفاء، بل هو حدث اجتماعي له تبعات، وتتولى الجماعة المؤمنة الإشراف على أحكامه (كالعدة).
• في النكاح، الأمر أوضح وأجلى. يقول الله: "وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ" (النور: 32)، ويقول: "وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ" (البقرة: 221). صيغة الأمر والنهي هنا موجهة للجماعة "أنكحـوا" و "لا تنكحـوا". الفعل نفسه، فعل "الإنكاح"، مُسند إلى المجتمع بمجموعه الإشهاري، وليس فعلاً فردياً سرياً. إنه مسؤولية جماعية، يقوم بها المجتمع لضمان طهارة الأنساب وتطبيق شرع الله.
فإذا كان تأسيس العلاقة (النكاح) وإنهاؤها (الطلاق) أفعالاً جماعية في خطاب القرآن، فهذا يهدم من الأساس فكرة أن الزواج يمكن أن يكون عقداً فردياً خاصاً يتم بين رجل وامرأة بمعزل عن علم الجماعة وإقرارها.
ثانياً: آية الوصية المهجورة: حجر الزاوية في توثيق شجرة الوالدية
يزعم الكثيرون أن آية الوصية قد نُسخت، وما فعلوه بذلك إلا أنهم هدموا الأساس الذي تقوم عليه منظومة التوثيق الاجتماعي في القرآن. يقول الحق تبارك وتعالى:
"كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ" (البقرة: 180)
هذه الآية ليست مجرد وصية بالمال، بل هي تؤسس لمفهوم أعمق: "شجرة الوالدية"، أي شبكة العلاقات المترابطة من "والدين" (أصل) و"أقربين" (فرع وحاشية بالنسب والمصاهرة). ولكي تُنفَّذ وصية الله في الميراث وغيره عند موت أي إنسان، لا بد للجماعة المؤمنة أن تكون على علم يقيني وموثق بمن هم "والديه" ومن هم "أقربوه".
كيف يتحقق ذلك؟ من خلال آية الشهادة على الوصية التي تأمرنا بالإشهاد والتوثيق (المائدة: 106). إن مجموع هذه الآيات يوجب على الجماعة المؤمنة فتح سجل عام للوصايا التوثيقية، ليس فقط للوصايا المالية، بل لتسجيل كل علاقة تؤسس للقرابة: كل عقد زواج، وكل حالة طلاق، وكل مولود جديد. هذا السجل هو المرجع الذي لا يُطعن فيه، والذي يضمن أنه عند موت أي إنسان، تستطيع الجماعة تطبيق وصية الله في تركته وحقوقه بكل عدل ودقة، لأن جميع علاقاته المكونة لـ "شجرة والدِيَتِه" موثقة ومعلنة.
ثالثاً: الحرية الشخصية والحق الأصيل في مواجهة عبودية الطواغيت
قد يظن البعض أن هذا النظام الجماعي يلغي الحرية الشخصية. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. إن الإسلام يقدس الحرية الشخصية، خاصة في أخص الميول الطبيعية للإنسان. فمن لم يملك حرية نفسه في ميله وقلبه وفرجه، كان أبأس من كلاب الشوارع ووحوش البراري. ما أسوأها من عبودية أن يُقهر الإنسان حتى في فطرته التي فطره الله عليها!
إن الله أقر هذا الحق في أسمى صوره:
• للرجال: "...فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ..." (النساء: 3). "ما طاب لكم" هي قمة الإقرار بالحرية والميل القلبي. بل وأمر الرجل أن يبتغي بماله "مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ"، أي أن حريته ليست للفجور، بل لتأسيس علاقات طاهرة ومحصنة.
• للنساء: للمرأة الحق الكامل في أن تجد زوجاً يكون لباساً لها، يشبعها ويمتعها. ولا عيب ولا ذم عليها إن هي تركت بعلاً وذهبت لزوج آخر "إِنْ خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ" (البقرة: 229). إن خافت ألا تعطي زوجها حقه، أو ألا تجد عنده ما يشبع فطرتها، فهل يذمها الله والمجتمع؟ كلا، بل يعينونها على فراقه بالمعروف والزواج بمن ترتضيه. هذا حقها الأصيل. ولولا حكمة الله في جعل المرأة مستودع النطفة الذكرية للحفاظ على نقاء النسب، لأبيح لها التعدد كالرجل، وعلينا التسليم لحكمة العليم الخبير.
إن أصل "الحق الليبرالي" في الحرية الشخصية هو حق مقدس وصحيح، وخلافنا الجوهري معهم يكمن في فلسفته وضوابطه. هم اعتبروه فعلاً فردياً خاصاً لا سلطان عليه لأحد، فكانت النتيجة كارثية. انظر إلى المجتمعات الليبرالية، أسوأ نظام زواج في العالمين. لقد تحول الزواج إلى سجن وسجان، وإلى أكبر أداة لتدمير الثروات وهدم الحضارات، كما قال مفكروهم أنفسهم. لقد تحولت العلاقة إلى صفقة تجارية، حيث تنتظر الزوجة فرصة الطلاق لنهب نصف ثروة الرجل الذي كدّ وتعب، ثم تمارس الجنس مع غيره بماله وفي بيته! هذا هو النفاق السافر الناتج عن الزواج الفردي الكهنوتي أو المدني الذي يغل عنق الرجل، فهرب منه الرجال إلى علاقات بلا عهد ولا ميثاق.
رابعاً: الحل القرآني: مجتمع الحرية والحق والاطمئنان
إن النظام القرآني، بجمعيته وتوثيقه، هو الضمانة الوحيدة لتحقيق حرية حقيقية وسعادة واطمئنان. تخيل مجتمعاً:
• كله يرغب في النكاح، ويأمر به، وييسره.
• يبارك للرجل التعدد الذي أباحه الله، ويراه قوة للمجتمع لا خيانة.
• يحفظ للمرأة حقها في البحث عن الإشباع العاطفي والجسدي، وينتقل بها من زوج لزوج إن لم تجد راحتها، دون وصمة عار.
• كل علاقة فيه موثقة في "سجل الوصايا العام"، فلا مجال لإنكار نسب، أو ضياع حق، أو التلاعب بالميراث.
هذا هو المجتمع الذي يحرر الإنسان من تسلط الطواغيت الذين يريدون إخصاءه نفسياً وجسدياً. إنه مجتمع يجمع بين أسمى صور الحرية الشخصية وأقوى ضمانات الحقوق الجماعية في ميزان دقيق، أساسه ومنتهاه هو التسليم لأمر الله الموثق في سجله العام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.