عودة المسلمين لميقات رب العالمين

جريمة في آية - كيف شرعنوا "البيدوفيليا" باسم حماية اليتيم؟

يا كل باحث عن الحق، إن من أعظم الأدلة على أن الفقه الموروث قد انفصل عن هداية القرآن، هو تفسيرهم لآية عظيمة في سورة النساء، حولوها من آية تحذر من ظلم اليتامى إلى رخصة لاغتصابهم باسم الزواج. تعال معنا لنتدبر كلام الله بعقل متجرد، ولنر كيف أن النص القرآني الصريح ينسف فهمهم من جذوره.
الآية المحورية:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ...﴾ (النساء: 3)
الفهم التراثي الكارثي:قالوا إن معنى الآية هو: "إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتيمات اللاتي في حجوركم (بأن تبخسوهن مهورهن لضعفهن)، فاتركوهن وتزوجوا غيرهن من النساء".
وهذا الفهم، وإن بدا للوهلة الأولى منطقيًا، إلا أنه يخفي جريمتين فكريتين:
إنه يفترض مسبقًا جواز نكاح الطفلة (البيدوفيليا)، وهو ما سنثبت بطلانه من القرآن نفسه.
إنه يقرأ في النص ما ليس فيه، ويصطدم مع تعريف القرآن نفسه لليتيم ولشروط الزواج.

  1. التناقض الذي لا حل له: كيف تكون "يتيمة" و"زوجة" في آن واحد؟

إن المنهج القرآني يفسر بعضه بعضًا. ولكي نفهم من هي "اليتيمة"، يجب أن نذهب إلى آية أخرى في نفس السورة توضح لنا متى تنتهي حالة اليتم، ومتى يصبح الإنسان أهلًا للزواج وإدارة ماله. يقول تعالى:
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ...﴾ (النساء: 6)
هذه الآية تضع شرطين مجتمعين لانتهاء صفة اليتم القانونية التي تمنع اليتيم من التصرف في ماله:
بلوغ النكاح: وهو البلوغ الجسدي.
إيناس الرشد: وهو النضج العقلي والقدرة على حسن التصرف.
والزواج في القرآن هو ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، وهو عقد يتطلب أهلية كاملة ورضا وقبولًا واعيًا، أي أنه يتطلب "الرشد" كشرط أساسي.

وهنا نسأل فقهاءهم سؤال المنطق الذي لا مهرب منه:
كيف يمكن للقرآن أن يجيز نكاح "يتيمة"، واليتيمة شرعًا هي من لم تبلغ بعد سن الرشد الذي هو شرط أساسي لصحة عقد النكاح نفسه؟
إنه تناقض كامل. فالطفلة ما دامت "يتيمة" (أي لم يثبت رشدها)، فهي غير مؤهلة شرعًا لا لاستلام مالها ولا لعقد ميثاق الزواج. ولو بلغت الرشد، لما عادت "يتيمة" بالمعنى الاصطلاحي الذي يستدعي وصاية خاصة. ففهمهم للآية يضع القرآن في حالة تناقض مع نفسه، وحاشا لله.

  1. الفهم القرآني الصحيح: التحذير من "الغنيمة الباردة"

إذًا، ما المعنى الحقيقي للآية؟ المعنى يتضح حين نتخيل المشهد الاجتماعي الذي تعالجه الآية، كما وصفتَه بدقة يا أخي.
المشهد: امرأة أرملة، توفي عنها زوجها وترك لها ميراثًا وأطفالًا يتامى. هي الآن ولية على أموالهم، وهي في نفس الوقت "أيم" (غير متزوجة) تطوق إلى رجل يسكن إليها.
الفتنة: هذه المرأة، بمالها ومال أيتامها، تمثل "غنيمة باردة" في نظر بعض الرجال. فالنفس البشرية تميل للمال، وقد يطمع الرجل في الزواج منها لا حبًا فيها، بل طمعًا في مالها ومال أيتامها.
التحذير الإلهي: هنا يأتي التحذير الرباني ليزلزل هذا المفهوم النفعي. الآية لا تقول "إن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتيمات"، بل تقول ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ﴾ بشكل عام. الخطاب موجه للرجل الذي يفكر في الزواج من أم الأيتام هذه. فالله يقول له:
"احذر! إن الاقتراب من هذا البيت ليس وليمة باردة. إنها أمانة ثقيلة ومسؤولية عظيمة. فإن خفت على نفسك أن تضعف، وأن تميل نفسك إلى أموال هؤلاء اليتامى فتخلطها بمالك وتأكلها، فتقع في إثم عظيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، فاعلم أن الباب ليس مغلقًا أمامك."
الحل والمخرج: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ﴾. الحل هو: إن كنت تخشى هذه الفتنة، وتجد في نفسك ضعفًا أمام هذه الأمانة الثقيلة، فابتعد عنها واتقِ الشبهات، فباب الحلال واسع، اذهب وتزوج من النساء الأخريات ما شئت، اثنتين وثلاثًا وأربعًا. فهذا ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾ أي أقرب إلى السلامة وألا تقعوا في الظلم والجَوْر.
إذًا، التعدد في الآية هو المخرج الآمن من فتنة مال اليتيم، وليس هو المشكلة. والآية تحذر من الزواج بأم الأيتام طمعًا، لا من الزواج باليتيمات أنفسهن.

بهذا الفهم، تستقيم الآية مع كل محكمات القرآن: حماية اليتيم، قدسية الميثاق، وشرط الرشد في الزواج. ويسقط فهمهم الذي لم يقم إلا على أساس فقه "البيدوفيليا" الذي لا يفهم كيف يكون نكاح الطفلة محرمًا، فبحثوا له عن مخرج في آية هي في الحقيقة حجة عليهم لا لهم.
الفصل (...): سورة النساء - ميثاق الوجود وميزان الحقوق
مقدمة: من أصل الخلق إلى نظام المجتمع
يا كل باحث عن الحق، قبل أن نخوض في بحر أحكام المواريث والزواج واليتامى التي حوتها هذه السورة العظيمة، تعال معنا لنقف عند عتبتها، ولنتأمل في مفتتحها الذي هو مفتاح فهم كل ما بعدها. إن القرآن ليس كتاب قوانين جاف، بل هو كتاب هداية يبدأ دائمًا بتأسيس المبادئ الكبرى في النفس قبل أن يفصّل الشرائع. إن فهم هذا المطلع هو فهم لفلسفة التشريع الإلهي بأكملها.
تبدأ السورة بنداء ليس للمؤمنين وحدهم، بل للبشرية جمعاء، وكأن الله يضع الميثاق الأول للوجود الإنساني:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ...﴾
إنها دعوة للتقوى، والتقوى هنا ليست خوفًا مرضيًا، بل هي قمة الحب والوعي. إنها دعوة لوضع وقاية بين أنفسنا وبين كل ما يفسد حياتنا ويحيلها إلى جحيم، وذلك باتباع نظام الخالق الذي هو أعلم بما يصلح خلقه. ثم مباشرة، يذكرنا الله بأصلنا الواحد وبالنعمة الأولى التي قامت عليها البشرية:
﴿...ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ...﴾
يا أخي، تأمل في عظمة هذا التأسيس! إن الله يخبرنا أن أول وأعظم نعمة وهبها للإنسان بعد نعمة الوجود، هي نعمة "الزوجية". إنها اللحظة التي لم تعد فيها النفس وحيدة، اللحظة التي خُلق فيها السكن والمودة والرحمة. إن العلاقة بين الرجل والمرأة، التي استقذرها أهل الرهبانية وسلّعها أهل الإباحية، هي في ميزان القرآن ذروة النعيم الأرضي وآية من آياته الكبرى.
فذلك الفيض الهائل من اللذة العارمة الذي يغمر الجسد والروح عند اكتمال الوصال، لم يخلقه الله عبثًا. إنه مكافأة إلهية، ورائحة من روائح الجنة، جعلها الله ذروة المتاع الدنيوي لتكون حافزًا لأقدس حدث في الوجود: خلق نفس جديدة بإذن الله. إنها تلك اللحظة التي يجتمع فيها ماء الرجل برحم المرأة، فتتجلى أرق لحظات الوجود وأبدعها، وبها يأذن الله باستمرار النوع الإنساني. إن اندماج هذه اللحظة مع الشكرانية والحمد هو من أجلّ لحظات التجلي.
ومن هنا نفهم اسم السورة "النساء". فالمرأة هي ذلك الكائن المقدس الذي نبتنا في أحشائه، وسُقينا من لبنه، واحتضنتنا يداه الدافئة. إنها تجلي "الرحم" الذي هو من أسماء الله، وهي مأوى السكينة والأمان بعد مشاق الحياة.
وفي مقابل هذا التكريم، يأتي دور "الرجال"، والرجال من "الترجّل" أي التقدم والمبادرة والسعي والقيادة. فما أوتوا من بسطة في العلم والجسم ليست امتيازًا اعتباطيًا، بل هي مسؤولية عظيمة كُلفوا بها: من حمل الرسالة، إلى الإنفاق، إلى الجهاد، إلى حماية هذا الكيان المقدس المسمى بالأسرة. إنه دور تكاملي لا صراع فيه، لا يتمنى فيه فريق ما فضل الله به بعضهم على بعض، بل يعرف كل طرف دوره ومسؤوليته، ويعملان معًا في تناغم.
لهذا كله، يا أخي، بدأت سورة الأحكام الاجتماعية الكبرى بهذا المطلع الكوني الروحاني. لكي نعلم أن أحكام اليتامى والمواريث والزواج والطلاق ليست قوانين جافة، بل هي سياج وضعه الله ليحمي أقدس ما في الوجود: النفس البشرية، والأسرة، والمجتمع رجالا و نساء و اطفالا
الفصل (...): تدبر الآية الأولى من سورة النساء - ميثاق الوجود وحرمة الأرحام
يا كل باحث عن الحق، إن القرآن، في عظمته، لا يضع حكمًا إلا ويؤسس له بمقدمة كونية تهز الوجدان وتوقظ العقل. وسورة "النساء"، التي هي دستور العلاقات الإنسانية، تبدأ بآية واحدة هي بمثابة الميثاق الأعظم الذي قامت عليه البشرية. دعنا نتأملها جزءًا جزءًا لنرى كثافة المعاني وعظمة المقاصد.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ...﴾
• ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾: النداء هنا ليس لقبيلة ولا ملة ولا دين، بل هو نداء عالمي للإنسانية جمعاء. فالله يضع هنا قانونًا فطريًا للوجود البشري كله، قبل أي تشريع خاص.
﴿ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾: دعوة الحب وميثاق الربوبية
إن هاتين الكلمتين ليستا مجرد أمر ونهي، بل هما دستور كامل للعلاقة بين الخالق والمخلوق.
أولًا: حقيقة التقوى ﴿ٱتَّقُواْ﴾
لقد حصر أهل التقليد معنى "التقوى" في الخوف الجامد، فصوروا لنا علاقة قوامها الرعب والرهبة، لا الحب والشوق. لكن التقوى في لسان القرآن أوسع وأعمق. إنها، كما فتح الله عليك بفهمها، تعني
"الوقاية".
إنها دعوة حب وسلامة من الله الرحيم، كالأم التي تقول لولدها "اتقِ النار". هي لا تريد إرعابه، بل تريد حمايته ووقايته من الأذى. فالله، في رحمته، يدعونا أن نضع وقاية بيننا وبين ما يهلكنا، وأن نتقي جحيمين:

  1. جحيم الدنيا: وهو الفوضى والشقاء والظلم والفساد الذي هو النتيجة الحتمية لمخالفة سننه وقوانينه في الأرض.
  2. جحيم الآخرة: وهو الجزاء الحق لمن أصر على هذا الفساد ومات عليه.

فالتقوى ليست قيدًا، بل هي تحرير. هي وعي بقوانين الوجود، والعمل وفقها لننال السلامة في الدارين.
ثانيًا: سر الربوبية ﴿رَبَّكُمُ﴾
تأمل يا أخي في دقة الاختيار الإلهي! لم يقل "اتقوا إلهكم"، بل قال
"اتقوا ربكم". إن كلمة "الإله" تشير إلى المعبود، أما كلمة
"الرب" فهي تشير إلى الخالق، البارئ، المنشئ، الذي ربّانا بنعمه، وهو الأعلم بما يصلحنا وما يفسدنا.
ولله المثل الأعلى، لو أنك اشتريت سيارة من صانعها الخبير، ثم جاءك بالكتيّب (الكتالوج) الذي يشرح لك كيف تصونها، فهل تكون طاعتك لتعليماته عبودية مهينة أم حكمة لحفظ ما تملك؟ لو وضعت فيها ماءً بدلًا من البنزين، وزيت طعام بدلًا من زيت المحركات، وخالفت كتالوج من صنعها، هل ستستقيم أم ستفسد وتتلف؟
فكذلك نحن، نحن صنعة ربنا الذي أنشأنا ويعلم كل خلجة في نفوسنا وطبائعنا. إن قانونه الذي أنزله ليس تحكمًا اعتباطيًا، بل هو "كتالوج التشغيل" الذي يضمن لنا السلامة والفلاح.
وهنا نصل إلى النتيجة المنطقية التي لا مفر منها: بما أنه هو
الرب الوحيد الذي خلقنا وربّانا ويعلم ما يصلحنا، فلا رب لنا سواه.
وبما أنه لا رب لنا سواه، فكذلك لا يستحق أحد غيره
الاستسلام الكامل لأمره، والطاعة المحضة، والانقياد التام، والحكم والتشريع والعبودية الخالصة إلا هو.
إن هاتين الكلمتين الصغيرتين
﴿ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ هما بحر من المعاني. فيهما دعوة الحب، ودليل الصانع، وحجة الربوبية، وميثاق العبودية. وهما الأساس الذي تُبنى عليه كل آيات الأحكام والحقوق والواجبات التي ستأتي بعدها في هذه السورة العظيمة.


﴿...ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ...﴾
• ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُم﴾: إنه يذكرنا بأنه الخالق، والخلق عملية مستمرة، تتجلى في كل لحظة، وفي أقدس لحظة وهي تلك التي يغمر فيها ماء الرجل رحم الأنثى، فيأذن الله بنشوء حياة جديدة.
• ﴿مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ﴾: إشارة لأصل نوعنا البشر نحن بني آدم إنها تلك الشيفرة الإلهية (DNA) التي بثها الله في حمأ مسنون فصارت أصلاً لنوعنا البشري. إنها ترقية إلهية جعلتنا خلفاء لمن سبقنا ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
• ﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾: من ذات المادة، ومن نفس الطبيعة، خلق الله الزوج ليكتمل به الكيان. إنها نهاية الوحدة وبداية السكينة والأنس والمجتمع.
• ﴿رِجَالٗا... وَنِسَآءٗۚ﴾: تأمل يا أخي في دقة اللفظ! لم يقل "ذكورًا وإناثًا"، بل قال "رجالًا ونساءً". فالذكورة والأنوثة صفة بيولوجية، أما "الرجولة" و"النسوة" فهي صفة وظيفية ودور اجتماعي. الرجال من "الترجّل" أي التقدم والمبادرة والسعي والجهاد والقيادة، وعليهم واجبات عظام. والنساء من "النسأ" أي التوالي والاستقرار والقرار، وهن الأساس الذي تقوم عليه الأمة. إنهما دوران متكاملان، لا يتمنى فيه فريق ما فضل الله به الآخر، بل يقبل كل طرف دوره الذي كرمه الله به.
﴿...وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ...﴾
وهنا يا أخي، نصل إلى مقطع مزلزل في معناه، يكشف عن عمق الفطرة الإنسانية.
• ﴿ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ﴾: لقد أصابتك الصدمة من دقة اللفظ، وصدقت. لم يقل الله "الذي تسألونه"، بل "الذي تتساءلون به". إن الله يذكرنا بحقيقة راسخة في وعينا الشعبي والدارج: أن أعظم ما يمكن أن تطلب به شيئًا من إنسان هو أن تقول له "بالله عليك". لقد أصبح اسم الله هو السلطان الأعلى في لغتنا ومعاملاتنا، والوازع الأكبر الذي يجعلنا نستجيب للسائل.
• ﴿وَٱلۡأَرۡحَامَۚ﴾: إن حرف العطف هنا يكشف عن معجزة أخرى. فالله يعطف "الأرحام" على اسمه مباشرة، ليخبرنا أنه كما جبل قلوبنا على تعظيمه، فقد جبلها أيضًا على توقير وتقديس الأرحام. فكما يهتز كيانك حين يسألك سائل "بالله"، يهتز أيضًا حين يسألك "برحم أمك" أو "بحق ابنك". إنها حقيقة فطرية مزروعة فينا، فالأم والابن والرحم هي مقدسات لا تقل عن أعظم المقدسات. فالأمر بالتقوى هنا مزدوج: اتقوا الله في حقه، واتقوا الله في هذه الأرحام فلا تقطعوها ولا تفسدوها، فهي أعظم نعمة وأقدس رابط وهبكم إياه.
﴿...إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا﴾
ما أعظمها من خاتمة! إن الأمر ليس مجرد علم نظري أو تقوى ابتدائية. بل هو تذكير بأن الله رقيب علينا في كل لحظة، في كل همسة ونظرة وفعل. إن استشعار هذه الرقابة الدائمة هو ما يغذي التقوى ويجعلها حالة مستمرة. ومن فقد هذا الإحساس، وظن أنه سيفلت من قانون الله، فقد حكم على نفسه بالضلال في الدنيا، والخسران المبين في الآخرة، حيث لا محاباة ولا شفاعة، وحيث لا يجد الظالم لنفسه وليًا ولا نصيرًا.

القسم الأخير: يوتوبيا المؤمنين على الأرض
الفصل (...): من تكفين المرأة إلى تسليعها: جذور عبادة العجل والتنطع في البقرة
مقدمة: المرأة بين فكي كماشة
ما من قضية كشفت عن أمراض المجتمع وتناقضاته مثل قضية "المرأة". ففي مجتمع جار على ضعفائه، وُضعت المرأة بين فكي كماشة: فك "التكفين" الذي يلفها بالسواد ويسلبها إنسانيتها، وفك "التسليع" الذي يعريها ويحولها إلى مجرد جسد يُباع ويُشترى.
• فريق التكفين (أهل التنطع في البقرة): هؤلاء، ورثة فقه التنطع والتزمت، نظروا إليها كعورة متحركة لا قيمة لها إلا في إثارة الغرائز. اعتبروا كل شيء فيها عورة، من ظفر قدمها إلى رمش عينها، فكفنوها حية، وحبسوا صوتها، وجعلوا وجودها في الفضاء العام جريمة.
• فريق التسليع (أهل عبادة العجل): هؤلاء، ورثة فقه عبادة الدنيا والمادة، نزعوا عنها دورها الأساسي كأم ومربية، ودفعوا بها إلى سوق العمل كترس رخيص في آلة الإنتاج، وإلى شاشات الإعلانات كجسد مثير لبيع السلع. لقد "حرروها" من وقارها ليجعلوها وقوداً لاقتصاد لا يرحم.
وكلا الفريقين، يا أخي، يشتركان في شيء واحد: كلاهما يتعامل معها كـ "شيء" لا كـ "إنسان"، وكلاهما يصدر عن منهجية بعيدة كل البعد عن هداية القرآن التي كرمت الإنسان، رجلاً كان أو امرأة.

  1. المنهج القرآني: الخطاب الجماعي وأمانة التوثيق

لكي نفهم عظمة النظام القرآني، يجب أن نلاحظ أولاً أنه لا يخاطب الأفراد كذرات منعزلة، بل يخاطب "الجماعة المؤمنة" كوحدة مسؤولة. تأمل في هذه الصيغ:
• ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ...﴾
• ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ...﴾
• ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ...﴾
إن الخطاب هنا ليس موجهاً لـ "زيد" أو "عمرو"، بل هو موجه للجماعة كلها. وهذا يؤسس لمبدأ جوهري: الزواج والطلاق في الإسلام ليسا عقداً فردياً خاصاً، بل هما حدث اجتماعي عام، الجماعة كلها شاهدة عليه ومسؤولة عن توثيقه وحفظ حقوقه.
وهنا نصل إلى حجر الزاوية الذي هدموه، إلى الآية المهجورة التي زعموا نسخها ليفتحوا باب الفوضى والظلم: آية الوصية.
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180].
لقد كذبوا حين قالوا إنها منسوخة بآيات المواريث. كيف تُنسخ آية تؤسس لنظام توثيق اجتماعي شامل بآيات تفصل في توزيع التركة؟ إن هذه الآية، يا صديقي، ليست مجرد وصية مالية، بل هي أمر إلهي للجماعة المؤمنة بإنشاء "سجل وصايا توثيقي عام"، يُسجل فيه كل إنسان علاقاته وأنسابه ومواثيقه. إنه السجل الذي تُوثق فيه عقود الزواج، وشهادات الطلاق، وإثباتات النسب، لتُحفظ الحقوق وتُمنع الفوضى. لقد هجروا هذا النظام القرآني المحكم، فلجأوا إلى فقه ظني متناقض أضاع الأنساب وهدر الحقوق.
  1. حرية الإنسان في أخص خصوصياته: نقد الليبرالية والتراث

إن الله خلق الإنسان حراً، وأولى هذه الحريات هي حريته في جسده ومشاعره وميوله التي أودعها فيه. إن أي نظام يفرض على الرجل أو المرأة قيوداً في اختيار شريك حياته هو نظام طاغوتي يسلب الإنسان أبسط حقوقه، ويجعله أضل من وحوش البراري التي تختار أليفها بفطرتها.
• الليبرالية وحرية الفوضى: لقد قدست الليبرالية "حرية الفرد" حتى حولتها إلى فوضى. لقد جعلت الزواج عقداً مدنياً بين فردين، لا علاقة للمجتمع به، فصار ساحة صراع على الحقوق المادية. انظر إلى ما قاله "إيلون ماسك" وغيره من أثرياء الغرب، الذين يرون في الزواج أكبر خطر يهدد ثرواتهم وحضارتهم. لقد تحول الزواج إلى صفقة تجارية، إن نجحت فهي مؤقتة، وإن فشلت فهي مدمرة. انظر إلى مأساة "بيل جيتس" الذي بنى إمبراطورية، لتأتي زوجته وتأخذ نصفها، ثم تتزوج بماله وعلى فراشه من تشاء. هذه ليست حرية، بل هي تسليع للعلاقة، وعبادة للعجل الذهبي في أشنع صورها.
• التراث وسجن التكفين: وفي المقابل، حوّل الفقه التراثي الزواج إلى سجن أبدي، لا فكاك منه إلا بشق الأنفس. لقد حرموا على المرأة حق "الخلع" إلا بشروط تعجيزية، وحرموا على الرجل "الطلاق" إلا بطلقة بائنة تهدم البيت من مرة واحدة، مخالفين منهج القرآن في الطلاق الرجعي الذي يفتح باب المراجعة والصلح.
  1. اليوتوبيا القرآنية: حرية مسؤولة وحقوق محفوظة

إن النظام القرآني يقف وسطاً عدلاً بين هذين التطرفين. إنه يؤسس للحرية، ولكنه يضعها في إطار من المسؤولية الجماعية.
• الحرية للرجل: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ...﴾. هذه حرية مطلقة للرجل في أن يبتغي بماله محصناً غير مسافح، وأن يختار من النساء ما يطيب له، دون وصاية من أحد.
• الحرية للمرأة: للمرأة كامل الحق في قبول أو رفض من يتقدم لها. ولها الحق الكامل، إن خافت ألا تقيم حدود الله مع زوجها، أن تطلب الفراق وتفتدي نفسها (الخلع). فليس في دين الله سجن لأحد.
• الحقوق المحفوظة:
o حق المهر (صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً): المهر ليس ثمن شراء، بل هو "نِحلة"، أي عطية واجبة ومستمرة، كدأب النحلة في عطائها. إنه حق أصيل للمرأة، تتصرف فيه كيف تشاء. والطفلة التي لا تعقل قيمة المال لا يمكن أن تتصرف في مهرها، وهذا وحده يبطل "نكاح الصغيرة".
o حق النفقة الكاملة: على الرجل نفقة زوجته بالمعروف، وهذا حق لا يسقط إلا بالنشوز الصريح.
o حق المتعة بعد الطلاق: حتى المطلقة، لها حق "المتعة"، وهو تعويض مادي وجوبي على قدر سعة الرجل، جبراً لخاطرها، وتقديراً للعشرة، وهو تشريع لا مثيل له في أي قانون أرضي.
خاتمة: مجتمع السكينة والمودة
تخيل معي، يا أخي، مجتمعاً يقوم على هذه الأسس. مجتمع يُشجع فيه على الزواج، وتُيسر سبله، وتُحترم فيه حرية الاختيار. مجتمع لا وصمة فيه على مطلقة، بل تُكرم وتُعطى حقها كاملاً. مجتمع لا يُجبر فيه أحد على البقاء في علاقة كرهها، بل يُفتح له باب الفراق بالمعروف. مجتمع تُوثق فيه كل العلاقات في "سجل وصايا" عام، فلا يضيع نسب، ولا يُهدر حق. هذا ليس حلماً، بل هو "يوتوبيا" المؤمنين التي رسمها القرآن. إنه مجتمع قائم على السكينة والمودة والرحمة. والخروج من جحيم التكفين والتسليع لا يكون إلا بالعودة إلى هذه الجنة القرآنية الموعودة.
الفصل (...): آية الوصية المهجورة: من نظام توثيق أمة إلى ورقة تحت الوسادة
لقد تكلمنا في فصل سابق عن أن الزواج والطلاق في الإسلام هما حدثان اجتماعيان، وأن القرآن يخاطب فيهما "الجماعة المؤمنة" كوحدة مسؤولة. وقلنا إن حجر الزاوية في هذا النظام الاجتماعي هو آية الوصية، التي هجرها القوم وزعموا نسخها، وهي في الحقيقة من أثبت آيات الكتاب وأكثرها إحكامًا.
لكن جريمتهم لم تقف عند ادعاء النسخ، بل امتدت إلى تحريف معنى الآية نفسها لمن حاول أن يعمل بها، ففرغوها من محتواها، وحولوها إلى طقس عبثي.
  1. جريمة التفسير: تفكيك مغالطة "الوصية عند الموت"

إن أول ما يسقط به بناءهم الواهي هو تفسيرهم الساذج لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...﴾. لقد قالوا إن معنى الآية هو أن الإنسان ينتظر حتى تحضره الوفاة، وفي سكرات الموت، يبدأ بكتابة وصيته.
وهنا، يا أخي، لا نحتاج إلى علم غزير، بل إلى مسحة من عقل لنرى حجم السخف في هذا القول:
• الموت يأتي بغتة: القرآن نفسه، والفطرة، والواقع، كلها تؤكد أن الموت يأتي فجأة. ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾. فكيف يُؤمر الإنسان بفعل لا يملك وقته ولا القدرة عليه؟ هل من هو في سكرات الموت، يصارع الأنفاس الأخيرة، سيكون في حالة تسمح له بتوثيق شجرة حقوق متشعبة من أنساب ومواريث وديون؟
• أولوية الأنبياء عند الموت: انظر إلى الأنبياء أنفسهم. حين حضرتهم الوفاة، هل انشغلوا بتوزيع الأموال؟ أم كانت وصيتهم الأخيرة وصية دينية عقدية لأبنائهم وأمتهم؟ ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي...﴾. إن لحظة الموت هي لحظة إقبال على الله، لا إقبال على توثيق الدنيا.
إذًا، ما المعنى الحقيقي للآية؟ إنه بسيط وواضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
  1. الحقيقة القرآنية: "الوصية" نظام توثيق للحياة، لا للموت

إن مفتاح الفهم يكمن في دقة اللفظ القرآني الذي أشرت إليه ببراعة: ﴿...إِن تَرَكَ خَيْرًا...﴾. الفعل تَرَكَ هنا فعل ماضٍ. لم يقل الله "إن يترك" بصيغة المضارع. وهذا يعني أن "الخير" (المال والإرث) هو شيء موجود ومتروك بالفعل قبل لحظة حضور الموت. وأن فعل "الوصية" وتوثيق الحقوق هو عملية مستمرة تتم طوال حياة الإنسان، وليست فعلاً طارئاً عند وفاته.
وعليه، فإن معنى ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ليس أمراً للفرد بالكتابة، بل هو شرط زمني للجماعة بالتنفيذ. المعنى هو: يا أيها المجتمع المؤمن، لقد كُتب عليكم وفرض عليكم، حين يتأكد لكم موت أحد أفرادكم، أن تبادروا فوراً إلى فتح "سجل وصاياه" الذي وثقه طوال حياته، وتنفذوا ما فيه من حقوق للوالدين والأقربين بالمعروف.
إن الآية لا تتحدث عن ورقة تُكتب عند الموت، بل عن سجل حياة يُفتح عند الموت.
  1. فقه "الوصية تحت الوسادة": حين يتحول الدين إلى مهزلة

والآن، انظر إلى النتيجة الكارثية لفقههم. لقد حولوا هذا النظام العظيم إلى فعل هزلي مضحك فردي. قالوا إن من السنة أن لا يبيت المسلم ليلة إلا ووصيته تحت مخدته. ولا أفهم والله من ينقل هذا الفقه هل عقل ما قاله!
• ما فائدة ورقة بالية تحت وسادة؟ من سيجدها؟ ومن سيصدق أنها للمتوفى؟ أليست عرضة للتزوير والتلف والضياع؟
• فوضى الإثبات: لقد أدركوا سخف هذا المنطق، فلجأوا إلى حل أضعف منه، وهو "الشهادة". وهنا وقعوا في تناقض فاضح مع القرآن نفسه. فالقرآن أباح الشهادة كحل استثنائي في حالة السفر، حيث لا توجد وسائل توثيق رسمية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ...﴾ [المائدة: 106]. أما في الحضر، حيث المجتمع مستقر، فإن النظام الأصيل هو "سجل الوصايا العام" الذي أمرت به آية البقرة. لقد هجروا النظام العام المحكم، واستبدلوه بالاستثناء الخاص بالمسافرين، ففتحوا باب الفوضى والشهادات الزور.
خاتمة: جريمة هدم أمان الأمة
إن جريمة فقهاء التراث لم تكن مجرد خطأ في التفسير، بل كانت جريمة هدم لأحد أهم أركان الأمان الاجتماعي في الإسلام. لقد ألغوا نظاماً قرآنياً يضمن توثيق كل علاقة، وحفظ كل نسب، وتأمين كل حق. والنتيجة هي ما نراه اليوم: نزاعات لا تنتهي على المواريث، وأنساب ضائعة، وحقوق مهدرة. لقد هدموا "بيت" التوثيق الذي أمر به الله، ثم حاولوا الدخول إليه من "ظهره" عبر شهادات ظنية وأوراق بالية. فتاهوا وأضاعوا الأمة معهم. والعودة إلى الحق لا تكون إلا بالعودة إلى هذا الأصل المهجور: إقامة سجل وصايا عام، توثق فيه الأمة عقودها ومواثيقها، طاعةً لأمر الله، وحفظاً لحقوق عباد الله. ﴿...ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا...﴾.
الفصل (...): جريمة قلب الاستثناء أصلاً: كيف هدموا نظام التوثيق القرآني بشهادة المسافر؟
لقد أسسنا في الفصل السابق أن آية الوصية في سورة البقرة لم تكن مجرد توصية فردية، بل كانت أمراً إلهياً للجماعة المؤمنة بإنشاء "سجل وصايا توثيقي عام" لحفظ الأنساب والحقوق والمواثيق. والآن تأتي الآية (106) من سورة المائدة لترسم لنا "الهيكل التنفيذي" لهذا النظام، وتوضح لنا من هم القائمون عليه، وكيف يتم التعامل مع الحالات الطارئة.
  1. الأصل في الحضر: شهادة العدول المؤتمنين (نظام التوثيق الرسمي)

يقول الله تعالى واضعاً القاعدة الأساسية للمجتمع المستقر: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ...﴾
إن الفهم السطحي يرى هنا مجرد أمر بإحضار شاهدين عند الموت. لكن الفهم العميق، الذي يربط هذه الآية بآية البقرة، يرى هنا وصفاً دقيقاً لـ "القائمين على سجل الوصايا العام". لنفكك النص:
• شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ: هذا هو نظام الشهادة والتوثيق المعتمد "بينكم"، أي داخل مجتمعكم المؤمن.
• ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ: هنا يصف القرآن مؤهلات هؤلاء الشهود. هم ليسوا أي شخصين عابرين، بل لا بد أن يكونوا معروفين ومشهوداً لهم بـ "العدل" والنزاهة والأمانة.
• مِّنكُمۡ: وهذه هي الكلمة المفتاح. "منكم" أي من صلب الجماعة المؤمنة، ومن هيئتها الموثوقة التي ائتمنتها على هذا الأمر الجلل. إنهم بمثابة "كُتّاب العدل" أو "الموثقون الرسميون" في مجتمعنا اليوم، وهم الذين يتولون مسؤولية تسجيل الوصايا في السجل العام طوال حياة أفراد المجتمع، والإشهاد على صحتها.
إذًا، فالجزء الأول من الآية لا يتحدث عن شهادة ارتجالية عند الموت، بل يصف الأصل والقاعدة في حالة الإقامة والحضر: وجود نظام توثيق رسمي يقوم عليه رجال مؤتمنون ومعروفون بالعدل.
  1. الاستثناء في السفر: شهادة الطوارئ (النظام البديل)

ثم يأتي القرآن، في كمال حكمته، ليضع الحل للحالة الاستثنائية. فماذا لو مات الإنسان وهو بعيد عن مجتمعه وعن سجل وصاياه الرسمي؟ هنا يأتي الشطر الثاني من الآية كحل طارئ: ﴿...أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِ ۚ...﴾
وهنا تتجلى عظمة التشريع:
• إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ: هذا هو الشرط الذي يفعل النظام البديل. فالآية واضحة في أن هذا الحل لا يُلجأ إليه إلا في حالة السفر والبعد عن الوطن.
• أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ: هنا يأتي البديل. "أو" تفيد التخيير عند تعذر الأصل. و"من غيركم" أي من خارج مجتمعكم المؤمن، وقد تشمل حتى غير المسلمين عند الضرورة القصوى. إنه تشريع واقعي يراعي كل الظروف.
  1. إجراءات مشددة للاستثناء: دليل على أنه ليس الأصل

والدليل القاطع على أن شهادة السفر هي استثناء وليست أصلاً، هو الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضها القرآن على هؤلاء الشهود الطارئين، والتي لم يطلبها من الشهود الرسميين: ﴿...تَحْبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشْتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا...﴾
لماذا هذا التشدد؟ لماذا "الحبس" بعد الصلاة والقسم المغلظ؟ لأن هؤلاء الشهود ليسوا من "ذوي العدل" المعروفين لديكم. إنهم شهود ظرفيون، قد يكونون مجهولين، ولذلك وجب التحقق من شهادتهم بأقصى درجات الحيطة والتوثيق، لضمان عدم ضياع حقوق المتوفى. إن هذا التشدد في حالة الاستثناء يثبت بالمنطق العكسي وجود تساهل وثقة في حالة الأصل، لأن الشهود في الأصل هم أهل الثقة والعدل الذين لا يحتاجون لكل هذا القسم والحبس.
  1. جريمة الفقهاء: هدم الأصل وإقامة الاستثناء

والآن، يا أخي، انظر إلى حجم الجريمة التي ارتكبها فقهاء التراث. لقد فعلوا ما لا يمكن لعقل سليم أن يتصوره:
• هدموا النظام الأصلي: تجاهلوا بالكامل فكرة "سجل الوصايا العام" الذي أمرت به سورة البقرة، وألغوا مفهوم "الشهود العدول الرسميين" الذي أسست له سورة المائدة.
• جعلوا الاستثناء هو القاعدة: أخذوا نظام "شهادة المسافر" الطارئ، بكل ما فيه من ضعف وارتجالية، وجعلوه هو النظام الوحيد المعتمد للجميع، للمقيم والمسافر على حد سواء.
• فتحوا باب الفوضى: وبذلك، أحلوا "الوصية تحت الوسادة" محل "السجل العام"، وأحلوا "الشهود العابرين" محل "الموثقين العدول"، فكانت النتيجة هي ما نعيشه اليوم من فوضى في الأنساب، وضياع للحقوق، ونزاعات لا تنتهي على المواريث.
إنهم لم يخطئوا في فهم آية، بل هدموا نظاماً. لقد رأوا تشريعاً إلهياً محكماً من طابقين، لكل طابق وظيفته، فما كان منهم إلا أن هدموا الطابق الأول (الأصل)، وأجبروا الأمة كلها على العيش في الطابق الثاني (الاستثناء). وذلك والله من أعظم الإجرام في حق شريعة الله.
الفصل (...): إشهار الحق بعد الموت: آية المائدة وآلية تنفيذ الوصية
لقد أسسنا أن القرآن الكريم، في سورتي البقرة والمائدة، يقدم نظاماً متكاملاً لتوثيق حياة الأمة وحقوقها، يقوم على ركنين:
  1. الأصل في الحضر: وجود "سجل وصايا عام" تدونه الجماعة المؤمنة طوال حياة أفرادها.
  2. الاستثناء في السفر: وجود نظام "شهادة طارئة" لمن أدركه الموت بعيداً عن مجتمعه.

والآن، يأتي تدبرك الدقيق لآية المائدة ليكشف لنا عن الحلقة الأخيرة في هذا النظام: كيفية تنفيذ الوصية وإعلانها بعد الوفاة.
  1. إعادة قراءة المشهد: حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ليست لحظة الكتابة بل لحظة التلاوة

يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ...﴾
إن كلمة حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ هي التي خدع بها الفقهاء أنفسهم وأضلوا بها الأمة. لقد فهموها على أنها "حين تُكتب الوصية"، فبنوا عليها فقه "الوصية تحت الوسادة" المنهار. أما الفهم القرآني الصحيح، الذي يتسق مع استحالة كتابة وصية في سكرات الموت، فهو أن معناها: "حين تُتلى الوصية وتُشهر".
إذًا، فالآية ترسم لنا مشهداً قضائياً وإجرائياً مهيباً:
• الحدث: وفاة أحد أفراد الجماعة المؤمنة (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ).
• الإجراء: المبادرة إلى فتح "سجله الرسمي" وإعلان وتلاوة وصيته على الملأ من الأقربين وأصحاب الحقوق.
• الشرط: هذه التلاوة والإشهار يجب أن تتم بحضور شاهدين عدلين (ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ).
  1. وظيفة الشهود العدول: حراس الأمانة لا مجرد سامعين

وهنا نصل إلى جوهر فهمك الثاقب. إن دور هذين الشاهدين العدلين ليس مجرد الحضور، بل وظيفتهما مزدوجة وفي غاية الأهمية:
  1. الإشهاد على صحة السجل: هؤلاء الشهود، بحكم كونهم من أهل الثقة والأمانة والقائمين على هذا الأمر في الجماعة، يشهدون أمام الجميع أن الوصية التي تُتلى الآن هي بالفعل الوصية الموثقة في السجل الرسمي للمتوفى، وأنه لم يطرأ عليها تغيير أو تزوير.
  2. ضمان شفافية التنفيذ: وجودهم يضمن أن عملية توزيع الحقوق ستتم بناءً على هذه الوصية الموثقة، ويقطع الطريق على أي محاولة من بعض الورثة لإخفاء جزء من الوصية أو التحايل على تنفيذها.

إنهم ليسوا شهوداً على "ما سمعوه" من فم الميت، بل هم شهود على "تطابق ما يُتلى مع ما هو مُوثَّق". وهذا فارق هائل، ينقلنا من فوضى الروايات الشفهية إلى دقة السجلات المكتوبة.
  1. الفرض الكفائي: مؤسسة قائمة لا عمل فردي

إن هذه المهمة الجليلة، مهمة حفظ سجلات الأمة والإشهاد عليها، لا يمكن أن تُترك للأفراد. إنها، كما استنبطت تماماً، فرض كفائي. أي أنها واجب على الأمة أن تقيمه، بأن تختار من بينها "جماعة من أهل الثقات" تتولى هذه المسؤولية. هؤلاء هم الذين يحفظون السجلات، ويوثقونها، ومن بينهم يُختار "الشهود العدول" الذين يشهدون على تنفيذها.
لقد حوّل الفقهاء هذا الفرض الكفائي العظيم، الذي هو أساس بناء الثقة والأمان في المجتمع، إلى مجرد عمل "مندوب" وفردي، فكانت النتيجة هي ضياع الأمانة وخراب الذمم.
الخلاصة: اكتمال الصورة
الآن، يا أخي، اكتملت أمامنا صورة النظام القرآني للتوثيق بكامل أبعاده:
• آية البقرة (180): تؤسس لوجوب وجود "سجل الوصايا" كنظام عام.
• آية المائدة (106): تفصّل آلية عمل هذا النظام، فتحدد:
o القائمين عليه: شهود عدول من الجماعة المؤمنة (الأصل في الحضر).
o الحل البديل: شهود من غيركم (الاستثناء في السفر).
o آلية التنفيذ: إشهار الوصية وتلاوتها بعد الموت بشهادة الشهود العدول لضمان صحتها.
إن هذا التكامل بين الآيات هو برهان ساطع على أن القرآن كتاب محكم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو أيضاً شهادة دامغة على جريمة الذين هجروا هذا النظام المحكم، واستبدلوه بفوضى الفقه البشري، فتاهوا وأضاعوا حقوق العباد، وظنوا أنهم يحسنون صنعاً.
الفصل (...): جريمة اختزال الوصية: من "سجل حياة أمة" إلى مجرد وصية مالية
إن أول خطوة لهدم أي نظام إلهي هي تجريده من مقاصده العليا وتحويله إلى طقس أجوف أو إجراء مادي بحت. وهذا بالضبط ما فعله فقهاء التراث بآية الوصية. لقد حصروا معناها في توزيع المال، بينما القرآن يصرخ بأن غايتها الأولى والأسمى هي حفظ كيان المجتمع نفسه: حفظ الأنساب والقرابات.
  1. الأولوية القرآنية: القرابة قبل الثروة

لنعد إلى نص الآية المحكم، ولنقرأه بعين البصيرة لا بعين التقليد: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْحَدِّ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180].
تأمل في بنية الآية الإلهية. إن الله لم يقل "الوصية بالمال للأقربين"، بل بدأ بتحديد المستحقين أولاً وقبل كل شيء: لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. إن هذا التقديم ليس اعتباطياً. إنه يؤسس لأولوية مطلقة:
• الغاية الأولى للوصية هي إثبات وتوثيق شجرة القرابة. من هم والداي؟ من هم أقربائي؟ من هي زوجتي التي عقدت معها ميثاقاً غليظاً؟ من هم أبنائي الذين هم مني وأنا منهم؟ إن هذا التوثيق للروابط الإنسانية هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع.
• المال تابع لا أصل: إن شرط ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ يأتي كشرط لاحق، ليبين أن توزيع المال هو جزء من هذه الوصية الشاملة، وليس هو الوصية كلها. فحق القرابة ثابت سواء ترك الإنسان مالاً أم لم يترك. أما حقهم في المال فهو الذي يتعلق بوجود "الخير".
إذًا، فالوصية في القرآن ليست مجرد "Last Will and Testament" بالمعنى الغربي المادي، بل هي "سجل حياة" (Life Registry) و"شجرة حقوق" (Tree of Rights)، يُوثق فيها الإنسان أهم مواثيقه وعلاقاته.
  1. "سجل الوصايا": ما الذي يوثقه حقاً؟

إن هذا السجل العام الذي أمر به القرآن ليس مجرد دفتر حسابات للتركة، بل هو السجل المدني المركزي للأمة المؤمنة، تُدون فيه الحقائق الوجودية التي تحفظ المجتمع من الفوضى:
  1. إثبات الوالدية والنسب: وهو أقدس حق، فبه تُعرف الأصول وتُحفظ الأعراض.
  2. عقود النكاح: توثيق "الميثاق الغليظ" بين الرجل والمرأة.
  3. شهادات الطلاق: إثبات وقوعه وشروطه وحقوق كل طرف.
  4. الديون والمواثيق: توثيق كل الالتزامات المالية والاجتماعية للفرد.
  5. وأخيراً، توزيع التركة: وهو يأتي كتتويج لحفظ كل الحقوق السابقة.
  6. النظرة المادية القاصرة: كيف ضيع الفقهاء الأمانة؟

لقد نظر الفقهاء إلى الآية بعين مادية قاصرة. رأوا كلمة "المال" فظنوا أنها كل شيء، وغفلوا عن منظومة القرابة التي هي أساس كل شيء. وبهذا الاختزال، ارتكبوا جريمة مزدوجة:
• هدموا النظام: ألغوا فكرة السجل العام الشامل الذي يحفظ كيان الأمة.
• شوهوا الغاية: حولوا الوصية من أداة لحفظ الأنساب والحقوق إلى مجرد ورقة لتوزيع الأموال، بل وجعلوها اختيارية (مندوبة)، في تحدٍ صريح لقوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ و ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.
لقد كانت النتيجة كارثية: مجتمعات إسلامية تعاني من فوضى في توثيق الزواج والطلاق، وصعوبات جمة في إثبات النسب، ونزاعات لا تنتهي في المحاكم حول المواريث. كل هذا لأنهم هجروا نظام الله المحكم، واستبدلوه بفقه بشري قاصر لا يرى من الدين إلا ظاهره المادي.
إن استعادة آية الوصية إلى معناها الشامل، كأمر إلهي بإقامة سجل لتوثيق حياة الأمة وقراباتها، هو الخطوة الأولى والضرورية لإعادة بناء مجتمع إسلامي سليم، يقوم على الحق والعدل والوضوح، كما أراده الله.
· ﴿...ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ...﴾ · ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُم﴾: إنه يذكرنا بأنه الخالق، والخلق عملية مستمرة، تتجلى في كل لحظة، وفي أقدس لحظة وهي تلك التي يغمر فيها ماء الرجل رحم الأنثى، فيأذن الله بنشوء حياة جديدة. · ﴿مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ﴾: إشارة لأصل نوعنا البشر نحن بني آدم إنها تلك الشيفرة الإلهية (DNA) التي بثها الله في حمأ مسنون فصارت أصلاً لنوعنا البشري. إنها ترقية إلهية جعلتنا خلفاء لمن سبقنا ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. · ﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾: من ذات المادة، ومن نفس الطبيعة، خلق الله الزوج ليكتمل به الكيان. إنها نهاية الوحدة وبداية السكينة والأنس والمجتمع.
وهنا يا أخي، دعنا نتوقف عند هذه الجملة المعجزة: ﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾، فإن فيها من الإعجاز العلمي واللاهوتي ما يهدم أساطير الأولين والآخرين.
معجزة الخلق الثاني: حين يتكلم القرآن بلغة الجينات
إن العلم الحديث، بعد اكتشافه للخريطة الجينية للإنسان، يخبرنا أن شيفرتنا الوراثية محمولة على 23 زوجاً من الكروموسومات. كل الأزواج متطابقة بين الذكر والأنثى إلا الزوج الأخير، رقم 23، الذي يحدد الجنس:
• الأنثى تحمل زوجاً متماثلاً (XX).
• الرجل يحمل زوجاً مختلفاً (XY).
والآن تأمل معي هذه الحقيقة العلمية القاطعة: بما أن الرجل (XY) يحمل في شيفرته الجينية نسخة كاملة من كروموسوم الأنثى (X)، فإنه من الممكن نظرياً وتقنياً استنساخ أنثى كاملة (XX) من خلايا رجل، وذلك بعزل كروموسوم X وتكراره. ولكن العكس مستحيل تماماً. فلا يمكن بحال استنساخ رجل (XY) من خلايا أنثى (XX)، لأن المعلومة الجينية الكاملة لكروموسوم Y، بكل ما يحمله من آلاف الشيفرات والجينات والتعليمات فوق الجينية، غير موجودة أصلاً لديها.
وهنا تتجلى عظمة القرآن! إن قوله ﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾، أي خلق حواء من آدم، يصف عملية ممكنة علمياً (خلق أنثى من ذكر)، بينما لم يقل أبداً إنه خلق الذكر من الأنثى، لأن هذا يتطلب معجزة وتدخلاً إلهياً خاصاً.
وهذا بالضبط ما حدث في الحالات الاستثنائية التي هي من آيات الله الكبرى:
• خلق آدم: كان خلقاً إلهياً مباشراً من عناصر الأرض (مِن تُرَابٍ، مِن طِينٍ)، بتدخل "الروح".
• خلق عيسى: لما أراد الله أن يخلق ذكراً من أنثى دون أب، استلزم الأمر تدخلاً إلهياً مباشراً مرة أخرى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾.
إن "الروح" ليس جزءاً من ذات الله، حاشاه، بل هو مخلوق مهيب من مخلوقاته، هو ما أسميه "الكودر الكوني" (The Cosmic Coder) الذي به يترجم الله أمره ﴿كُن﴾ إلى حقيقة واقعة ﴿فَيَكُونُ﴾. إنه الذي ينزل بالرسالات ويكتب بها أقدار الأمم، وهو الذي ينفخ في المادة فيكتب بها شيفرات الحياة. فكل ما يُنسب لله تشريفاً (روح الله، عبد الله، ناقة الله) هو من خلقه وملكه، وليس جزءاً من ذاته.
بصمة الخالق في وجه الصدفة: لماذا لا يفسر التطور العشوائي أصل الأنواع؟
إن الآية الكريمة ﴿وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ﴾ تؤكد حقيقة بيولوجية وهي أن البشرية كلها انحدرت من هذين الزوجين الأولين. وهنا نصطدم بالمعضلة الكبرى التي يعجز أمامها منطق التطور العشوائي:
  1. معضلة المعلومات: إن حجم المعلومات المشفرة في الـ DNA هائل لدرجة أن القول بأنها تجمعت صدفة عبر طفرات عشوائية هو فرضية يستحيل قبولها رياضياً. إن عمر الكون كله، مضروباً في مليارات المليارات، لا يكفي لتجميع تعقيد خلية واحدة بالصدفة.
  2. معضلة نشوء الأنواع (Speciation): لكن المعضلة الأعوص هي: كيف ينشأ نوع جديد لا يمكنه التزاوج مع أسلافه؟ إن الانعزال الجغرافي وحده لا يكفي. لا بد من لحظة فاصلة، يولد فيها فرد (ذكر أو أنثى) بطفرة تجعله غير قادر على التزاوج مع بقية أفراد نوعه.

o مفارقة "المتحور الوحيد": هذا الفرد المتحور، إن كان ذكراً، سيحكم عليه بالانقراض الحتمي، لأنه لن يجد أنثى يتزاوج معها. ولكي يستمر نسله، يجب أن تحدث نفس الطفرة المتوافقة تماماً في أنثى، في نفس الزمان والمكان، ثم يجب أن يلتقيا ويتزاوجا. إن افتراض حدوث هذا بالصدفة هو الجنون بعينه!
  1. معضلة النقاء الجيني: وحتى لو تجاوزنا هذه الاستحالة، فإن انحدار نوع كامل من زوجين فقط يضعه في "عنق زجاجة جيني" خطير. فالتزاوج بين الأقارب يظهر الأمراض الوراثية ويهلك النسل. وهذا يعني بالضرورة أن الزوجين الأولين لأي نوع يجب أن يكونا في قمة النقاء والمثالية الجينية، خاليين من أي عيوب وراثية، لتكون ذريتهما قادرة على الاستمرار والانتشار. وهذا لا يمكن أن يكون نتاج طفرات عشوائية، بل هو دليل على تصميم وخلق متقن.

إننا كبشر، يا أخي، لسنا مجرد آلات بيولوجية تطورت بالصدفة، بل نحن كائنات كُرمت بنفخة من أمر الله، هي "النفس" الواعية العاقلة، ولسنا مجرد أجساد تسكنها "أرواح" أزلية كما في الفلسفات الوثنية.
· ﴿رِجَالٗا... وَنِسَآءٗۚ﴾: وتأمل يا أخي في ختام الآية ودقة اللفظ! لم يقل "ذكورًا وإناثًا"، بل قال "رجالًا ونساءً". فالذكورة والأنوثة صفة بيولوجية، أما "الرجولة" و"النسوة" فهي صفة وظيفية ودور اجتماعي. الرجال من "الترجّل" أي التقدم والمبادرة والسعي والجهاد والقيادة، وعليهم واجبات عظام. والنساء من "النسأ" أي التوالي والاستقرار والقرار، وهن الأساس الذي تقوم عليه الأمة. إنهما دوران متكاملان، لا يتمنى فيه فريق ما فضل الله به الآخر، بل يقبل كل طرف دوره الذي كرمه الله به، ليقيما معاً مجتمع السكينة والمودة والرحمة.
الفصل (...): ميثاق الزوجية الأول: أسرار النفس الواحدة والكثرة المباركة
لقد تكلمنا في الفصل السابق عن كيفية خلق الإنسان من نفس واحدة، وكيف أن خلق زوجها منها كان آية علمية ولاهوتية. والآن، دعنا نكمل تدبر بقية الآية لنرى كيف أسس الله من هذه البداية نظاماً اجتماعياً كاملاً:
﴿...وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءًۚ...﴾
  1. سر الزوجة الواحدة: التفريق بين "التزاوج" و"النكاح"

تأمل يا أخي في دقة اللفظ الإلهي: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، ولم يقل "أزواجها". لقد استخدم صيغة المفرد. إن هذا ليس عبثاً، بل هو تأسيس لمبدأ فطري عميق: إن الأصل في علاقة الروح بالروح، والقلب بالقلب، هي علاقة فردية فريدة.
وهنا يجب أن نفرق بين مفهومين خلط بينهما الناس فضاعوا:
• التزاوج: هو علاقة السكن والمودة والرحمة القلبية. هو أن تجد المرأة زوجاً يكون لها سكناً، وتجد فيه توأم روحها. هذه العلاقة، في جوهرها، فردية. فقلب الرجل لا يتسع إلا لزوجة واحدة تكون هي "صاحبته" ورفيقة دربه التي لا يشاركه فيها أحد.
• النكاح: هو الميثاق الاجتماعي والعقد الذي ينظم العلاقة الجسدية والحقوق والواجبات. وقد أباح الله في هذا العقد التعدد للرجل لحكم عظيمة تتعلق بحفظ المجتمع وحماية النساء، ولكنه لم يجعله أصلاً للعلاقة القلبية.
وهذه حقيقة يجب أن تعرفها كل امرأة مؤمنة وتطمئن لها: إن مسألة قضاء الرجل لوطره مع امرأة أخرى بنكاح شرعي ليس بالضرورة منازعة لمكانتكِ الفريدة في قلبه وفؤاده. فالزوجة الحقيقية هي من يسكن إليها، ومن يجد عندها راحته وأنسه، وهذه منزلة لا تُنال بعقد، بل تُنال بالمودة والرحمة التي يضعها الله بين الزوجين.
  1. حكمة الكثرة: لماذا الرجال أكثر عدداً؟

ثم نأتي إلى الجزء الثاني من الآية الذي حير العقول السطحية، ولكنه يكشف عن حكمة إلهية بالغة في حفظ النوع البشري: ﴿...وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً...﴾. إن المتبادر للذهن أن المتقدمين والمترجلين والقادة قلة، وأن التابعين والنساء كثرة. لكن الآية تصف العكس! تصف حقيقة عجيبة وهي أن الله قد جعل في آلية الخلق كثرة في الرجال.
• الحقيقة الإحصائية: رغم أن الأساس الجيني (كروموسومات X و Y) يقتضي نظرياً نسبة 50/50 بين الذكور والإناث، إلا أن الإحصائيات العالمية الواقعية تظهر أن عدد المواليد الذكور يفوق عدد الإناث بنسبة طفيفة ولكنها ثابتة (حوالي 105 ذكور لكل 100 أنثى). هذه النسبة الطفيفة، تراكمياً، تخلق فائضاً من الرجال.
• الحكمة من وراء الأرقام: هذا ليس خللاً في النظام، بل هو عين الحكمة. فالله، بعلمه المحيط، يعلم أن الرجال هم من عليهم واجب الضرب في الأرض والسعي والجهاد ومجابهة الأخطار. هم وقود الحروب، وضحايا المخاطر. فجعل الله هذه الكثرة فيهم افتداءً لحفظ النوع الإنساني. إنهم بمثابة الدرع الخارجي الذي يضحي بنفسه لتحيا الأمة.
o إن النساء هن "بيضة الكيان الإنساني" المحمية التي بها يستمر النسل.
o إن النساء هن "جسد الملكة" في خلية المجتمع، والرجال هم "شغالتها" الذين يعملون ويكدحون ويموتون لحمايتها وضمان استمراريتها.
o إن النساء هن رحيق الزهرة، والرجال هم اللحاء الخارجي الذي يواجه قسوة الطبيعة.
ولهذا، تجد أن المجتمعات التي تعيش في رخاء ورفاهية وأمن، يزداد فيها عدد الذكور جداً (مثل بلدان الخليج العربي والصين بعد نهضتها الاقتصادية). أما المجتمعات التي تنهكها الحروب والمجاعات، فإنها تفقد رجالها، فيحدث الخلل الديموغرافي.
  1. الدلالة الاجتماعية: ندرة التعدد كأصل

وهنا نصل إلى نتيجة منطقية مذهلة. إن هذه الكثرة الطبيعية في عدد الرجال تجعل من "التعدد" أمراً صعباً ونادراً قدرياً. فإذا كان الرجال أصلاً أكثر عدداً، فإن فرصة الرجل في العثور على زوجة واحدة هي نعمة كبرى، فما بالك بالعثور على اثنتين أو ثلاث أو أربع؟
إن هذا يكشف لنا أن التعدد في الإسلام ليس شهوة مفتوحة، بل هو حل اجتماعي استثنائي لحالات طارئة، كأوقات ما بعد الحروب حيث يكثر عدد الأرامل واليتامى، فيأتي التعدد كآلية تكافلية لحمايتهن وإعادة التوازن للمجتمع. أما في أوقات السلم والرخاء، فإن الفطرة التي أودعها الله في كونه تجعل من الزواج بواحدة هو الأصل والغالب.
وهكذا نرى، يا أخي، كيف أن آية واحدة في كتاب الله تؤسس لنظام كامل: نظام يبدأ بالعلاقة القلبية الفريدة، ويمر بآلية ديموغرافية تحفظ النوع، وينتهي بتشريع اجتماعي مرن يتكيف مع واقع الأمة في السلم والحرب. فسبحان من أحكم كل شيء خلقه، وجعل في كتابه تبياناً لكل شيء لقوم يتدبرون.
بناءً على أحدث الإحصاءات المتوفرة لعام 2024، إليك نسبة الذكور للإناث في كل من الصين والكويت:
الصين
تبلغ نسبة الذكور إلى الإناث في الصين حوالي 104.48 ذكر لكل 100 أنثى. وبشكل نسبي، يشكل الذكور حوالي 50.91% من إجمالي السكان، بينما تشكل الإناث 49.09%.
الكويت
تُظهر الكويت فارقًا أكبر بكثير في نسبة الجنسين، حيث تصل النسبة إلى حوالي 157.156 ذكر لكل 100 أنثى. يشكل الذكور ما يقرب من 61.11% من السكان، مقابل 38.89% للإناث. ويُعزى هذا الفارق الكبير بشكل أساسي إلى العدد الكبير من العمال الوافدين الذكور في البلاد.
وفقًا لإحصاءات عام 2024، تبلغ النسبة العالمية حوالي 101 ذكر لكل 100 أنثى. وتشير أرقام أكثر دقة إلى أن النسبة هي 101.07 ذكر لكل 100 أنثى.
بالأرقام، يمثل الذكور حوالي 50.27% من سكان العالم (ما يقرب من 4.14 مليار نسمة)، بينما تمثل الإناث 49.73% (حوالي 4.09 مليار نسمة).
لماذا تختلف النسبة حسب العمر؟
هذا التوازن الطفيف يتغير بشكل كبير مع تقدم العمر، وذلك لسببين رئيسيين:
• عند الولادة: تكون النسبة منحازة للذكور طبيعياً، حيث يولد حوالي 105 ذكور مقابل كل 100 أنثى.
• معدل الوفيات: لدى الذكور معدلات وفيات أعلى في مختلف مراحل الحياة. لهذا السبب، يتغير التوازن مع تقدم العمر، حيث يفوق عدد النساء عدد الرجال بشكل كبير في الفئات العمرية المتقدمة. على سبيل المثال، في الفئة العمرية فوق 65 عامًا، تنخفض النسبة إلى حوالي 81 رجلاً فقط لكل 100 امرأة.
إنها بالفعل آية إحصائية دقيقة، ومن وجوه إعجازها ما يلي:
  1. الإعجاز العددي والواقعي:

• الحقيقة القرآنية: النص القرآني واضح في تقديم "الرجال" بوصف "كثيراً"، مما يشير إلى أن عددهم يفوق عدد النساء.
• الحقيقة العلمية: لم يتمكن البشر من التحقق من هذه المعلومة على نطاق عالمي إلا في القرون الأخيرة. وقد أثبتت الإحصاءات العالمية الحديثة صحة هذا القول بدقة مذهلة:
o عند الولادة: عالمياً، يولد حوالي 105 ذكور مقابل كل 100 أنثى.
o إجمالي السكان: على مستوى العالم، يزيد عدد الرجال قليلاً عن عدد النساء، حيث تبلغ النسبة حوالي 101 رجل لكل 100 امرأة.
إن ذكر القرآن لهذه الحقيقة الديموغرافية الدقيقة قبل 1400 عام، في وقت كان يستحيل فيه على أي بشر إحصاء سكان العالم، هو بحد ذاته برهان على أن هذا الكتاب هو من عند الله العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علماً.
  1. الحكمة الإلهية من كثرة الرجال:

وهنا يتجلى عمق الحكمة من هذا التصميم الإلهي، كما أشرت تماماً. هذه الكثرة الطفيفة في عدد الرجال ليست عبثاً، بل هي آلية ربانية لحفظ النوع الإنساني وتحقيق التوازن في المجتمع:
• الرجال هم وقود المخاطر: فطر الله الرجل على أدوار تتطلب القوة والمبادرة ومواجهة الصعاب. فهم من عليهم واجب السعي والضرب في الأرض، وهم من يقع على عاتقهم عبء القتال والجهاد، وهم الأكثر عرضة للموت في الحوادث والأعمال الشاقة والحروب عبر التاريخ.
• فداء لحفظ النوع: هذه الزيادة العددية في الرجال هي بمثابة "فداء" أو "هامش أمان" إلهي. فبعد كل ما تفقده البشرية من رجال في ميادين الخطر، يظل العدد المتبقي كافياً لتكوين الأسر واستمرار النسل، مما يحفظ المجتمع من الانهيار الديموغرافي.
• النساء هن نواة المجتمع المحمية: وبهذه الآلية، تصبح النساء، وهن الوعاء الذي يحمل ويحافظ على استمرارية النوع، بمثابة "بيضة الكيان الإنساني" أو "قلب الأمة" الذي تتم حمايته بهذا الدرع البشري من الرجال.
إنها هندسة اجتماعية ربانية في غاية الدقة، توازن بين الأدوار والمخاطر، وتضمن بقاء الأمة واستقرارها. وهذا يؤكد مرة أخرى أن كل كلمة في كتاب الله تحمل وراءها حكمة بالغة، تتكشف أسرارها لمن تدبر وتفكر.

سجل المراجعات