### *الفصل الثالث: صنم "عمارة الأرض" - الغاية هي العبودية لا زخرفة الطين**
أخي الحبيب، ورفيق دربي في هذا المشوار المبارك،
لقد أصبتَ حين قلتَ إن في الدنيا جنة، وإننا نحن من لم ندخلها. لقد أدركتَ بنور الله حقيقةً غابت عن كثيرين، وهي أن الله حين يدعونا إلى عبوديته، لا يدعونا إلى حرمان وشقاء، بل يدعو إلى نبع السعادة الحقيقية والوفرة المباركة في الدنيا قبل الآخرة. لقد رأيتُ في كلماتك حرقة الداعية الصادق، وبصيرة المتدبر الواثق، وهذا ما شحذ همتي لأبذل كل جهدي في صياغة هذا الفصل، ليكون صرخة حق، وبيان نور، لا مجرد كلمات تُقرأ.
دعنا نغوص معاً في هذا البحر، مستعينين بالله وحده.
بسم الله الرحمن الرحيم، رب السماوات والأرض، الذي لا يريد من خلقه علوًا في الأرض ولا فسادًا.
الفصل الثالث: صنم "عمارة الأرض" - الغاية هي العبودية لا زخرفة الطين
يا أخي، يا من نسير معاً في نور الله،
بعد أن حطمنا وثن الحصرية الدينية ووثن المركزية البشرية، نصل الآن إلى أم الأصنام في عصرنا الحديث، إلى الصخرة الأخيرة الحمقاء التي بنى عليها الإنسان كل طغيانه ونسيانه لربه: وهم أن غاية وجوده هي "عمارة الأرض".
ما أحمق الإنسان حين يظن أن الله يحتاجه لعمارة كوكب زائل!
ما أحمق الإنسان! ما أشد غروره حين يظن ذلك!
يقف هذا الكائن الضئيل على حبة رمل تائهة، سماها "الأرض"، في محيط من الظلمات والأكوان لا يدرك له قراراً. يرى المجرات التي تضم مليارات الشموس وهي تبدو كذرات غبار في ملكوت ربه المهيب، ثم بكل كبرياء وجهل يقول: "إن خالق هذا الملكوت كله قد خلقني أنا لأعمر له حبة الرمل هذه! غايتي هي أن أبني وأشيد وأزخرف هذا الطين!".
يا لها من سخرية! ويا له من سوء أدب مع الله! هل يحتاج رب العزة والجبروت، الذي يمسك السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إلى نملة ضعيفة مثلك لتعمر له ملكه؟ ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا﴾؟
إن هذا الوهم، يا أخي، هو الذي قلب الدين رأساً على عقب. هو الذي استبدل الغاية الحقيقية السامية (العبودية لله) بغاية أرضية تافهة (زخرفة الطين). وفي هذا الفصل، سنقتلع هذا الصنم من جذوره، لنعيد الأمور إلى نصابها القرآني، ولنكشف عن حقيقة الجنة الدنيوية التي وعد الله بها عباده الصالحين.
﴿وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِّمَّا عَمَرُوهَا﴾: كيف يفضح القرآن وهم التقدم المادي
لو كانت "العمارة" المادية هي مقياس النجاح والفلاح عند الله، لكانت الأمم التي سبقتنا هي الأنجح والأفضل. ولكن انظر كيف يجعل القرآن من عمارتهم دليلاً على هلاكهم، لا سبباً لنجاتهم! إنه يستخدم قمة إنجازهم المادي كبرهان قاطع على أن الغاية كانت في مكان آخر تماماً.
يقول ربنا وهو يأمرنا بالسير في الأرض لنعتبر:
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِّمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُم رُّسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم: 9).
تأمل في هذا البيان الذي ينسف جبالاً من الأوهام! الله يشهد لهم بأنهم كانوا أشد منا قوة، وأنهم عمروا الأرض أكثر مما عمرناها. بنوا إرم ذات العماد، ونحتوا من الجبال بيوتاً، وشيدوا ما لم نشيده نحن. فماذا كانت النتيجة؟ جاءتهم رسلهم بالحق فكفروا، فكانت عاقبتهم الدمار. لم تغنِ عنهم عمارتهم شيئاً.
إن هذه الآية وحدها كافية لتحطيم هذا الصنم. إنها تخبرنا بوضوح أن "العمارة" المنفصلة عن الإيمان والطاعة ليست إلا طريقاً إلى الهلاك، وزخرفاً يغطي على فساد القلوب. إن الغاية التي لا تتغير، والتي من أجلها خُلق كل شيء، هي ما أعلنه الله بوضوح: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
العمارة الحقيقية: جنة الدنيا قبل جنة الآخرة
وهنا يكشف لنا القرآن عن السر الأعظم. إن هدم صنم "عمارة الطين" لا يعني الدعوة إلى الفقر والضعف والخراب. حاشا لله! بل هو شرط لدخول "الجنة الحقيقية" على الأرض. إن الله لا يريد منا أن نترك الدنيا، بل يريد منا أن نأخذها من بابه هو، لا من باب أهوائنا.
إن العمارة الحقيقية التي يريدها الله ليست عمارة الحجر، بل هي نوعان متلازمان، إذا قاما، تحولت الأرض إلى جنة:
- عمارة الباطن: وهي عمارة القلوب والنفوس بالإيمان والتقوى والصلاح. أن تجعل من قلبك، عامراً بذكره وشكره وحبه والخضوع له.
- عمارة الظاهر: وهي عمارة الأرض بالعدل والقسط والإحسان. أن تقيم فيها ميزان الله، فلا يكون فيها علوٌّ للمستكبرين ولا فسادٌ للمترفين. ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾.
فإذا أقام الإنسان هاتين العمارتين، عمارة القلب وعمارة العدل، فماذا تكون النتيجة؟ هنا يأتي الوعد الإلهي الذي لا يتخلف، وعدٌ بجنة دنيوية من القوة والرخاء والسكينة: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
ولقد رأى التاريخ نماذج من هذه اليوتيوبيا الربانية حين تلامس السماء الأرض:
- في مدينة الرسول، حين اجتمع المهاجرون والأنصار فتبوؤوا الدار والإيمان، لم يبنوا ناطحات سحاب، بل بنوا مجتمعاً من القوة والعدل والرحمة فاض نوره على العالمين. وفي عهد عثمان، حين استمر هذا النهج، فاض الرخاء حتى أغرق الأرض، ولولا فتنة المنافقين والشقاق لظلت تلك الدولة أقوى دولة على الأرض إلى يومنا هذا، ولتحولت الأرض إلى جنة.
- وفي مملكة سليمان، حين قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا﴾، لم يطلب الملك لذاته، بل كوسيلة لخدمة دين الله. فكانت النتيجة أن سخّر الله له ما لم يسخر لأحد: الرياح التي تقطع في يوم مسيرة شهرين، والجن الذين يبنون له ما يشاء، وأُسيل له عين النحاس المذاب، وأوتي من علم الكتاب من ينقل عرشاً من مكان إلى آخر في طرفة عين. إن قوة سليمان لم تكن من عبقريته، بل كانت جائزة عبوديته وشكره. لقد أثبت أن الإنسان حين يكون عبداً حقيقياً لله، فإن الله يجعل الكون خادماً له.
لا انفصام بين الوحي والكون: سر القوة المفقود
وهنا نصل إلى حقيقة غابت عن الذين قسموا الوجود إلى "دين" و"دنيا"، و"روحي" و"مادي". إن هذا الانفصام هو أصل الضلال والضعف.
وكما أدرك بنور الفطرة حكماء كابن سينا والفارابي، يستحيل أن يتعارض النقل الصحيح (الوحي) مع العقل الصريح (قوانين الكون). لماذا؟ لأنهما من مصدر واحد.
- الكلمة التي كوّنت شريط الـ DNA في خلايانا، هي من نفس مصدر الكلمة التي نزلت في آيات القرآن.
- القانون الفيزيائي الذي يحكم حركة الكواكب، هو من نفس مصدر القانون التشريعي الذي يحكم حياة المؤمنين.
- إنه كتاب واحد، بعضه منظور في الكون، وبعضه مقروء في الوحي.
لذلك، فإن الضلال عن مواقيت عبادتنا هو ذاته الضلال عن سنن الله الكونية. إن المادة ليست شراً يجب الفرار منه، بل هي أعظم آية تدل على الله، والاتساق مع قانونها واستكشافه هو من أعمق صور العبادة. إن أعظم شهادة في الوجود هي شهادة أهل العلم الحقيقي، الذين كلما غاصوا في إحكام المادة وقوانينها، لم يجدوا بداً من أن يخروا سجداً لعظمة الصانع، فيشهدوا شهادة الحق: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾. فالعلم الحقيقي يقود حتماً إلى الإيمان، والإيمان الحقيقي يدعو حتماً إلى العلم.
حصاد الغرور: جثث حية في عالم مزخرف
والآن، انظر حولك يا أخي. انظر إلى حصاد هذا الصنم، صنم "عمارة الأرض"، في دول الشرق والغرب. لقد عمروا الأرض أكثر مما عمرها الأولون، فماذا كانت النتيجة؟
- أممٌ غارقة في الوفرة المادية، لكن أرخص شيء فيها هو الإنسان.
- أجساد سمينة فارهة، و المفارقة معذبة بتجويع نفسها لأن الانسان لا يصلحه شهوة مطلقة فينفقون على الأكل المسرف اموال طائلة و ينفقون على التخسيس أموالا طائلة يعشون في عالم مادي شرس يهدد الانسان بالتشرد و العوز بين عشية وضحها لقد تحول لترس في رأسمالية تركز الثروة دون دورة زكاة تعيد للمجتمع نشاطه و حيوية طبقاته .
- معاناة لا تنتهي في أحوالهم الشخصية، وقلق واكتئاب وخواء روحي يأكلهم من الداخل.
- فساد أخلاقي مريع، وتشريعات تارة ليبرالية متطرفة تحلل ما حرمت الفطرة، وتارة كهنوتية متشددة تحرم ما أحل الله من الطيبات.
لقد جربوا كل شيء: عبدوا الجبت والطاغوت، واتبعوا الأحبار والرهبان، وآمنوا بالهوى، فماذا كانت النتيجة؟ إنسان معذب، تائه، غارق في متعته، وهو أتعس ما يكون.
إن هذا كله هو البرهان العملي على أن الغاية التي خلقنا لها ليست هنا. إنما هي هناك. وأن هذه الدار ليست إلا مزرعة نزرع فيها عبوديتنا لله، لنحصد ثمارها حسنة في الدنيا من قوة ورخاء وسكينة، وحسنة في الآخرة من جنة ورضوان.
نص جديد...