الفصل الثالث ليشهدوا منافع لهم : استعادة روح الحج المفقودة
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثالث
"ليشهدوا منافع لهم": استعادة روح الحج المفقودة
حين صدع إبراهيم الخليل عليه السلام بالنداء الإلهي الخالد، ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ...﴾، لم يكن يؤذن لمجرد رحلة فردية يؤدي فيها المرء طقوسًا ثم يعود. لقد كان نداءً لتأسيس أعظم حدث كوني في تاريخ البشرية، ومؤتمر عالمي سنوي تتداعى إليه الأمة من كل فج عميق، لا لغاية غامضة، بل لهدف واضح جليٍّ حددته الآية التي تلتها مباشرةً، الهدف الذي هو روح الحج وجوهره المفقود: ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...﴾.
إن اللام في "لِيشهدوا" هي لام الغاية والتعليل. إنها تجيب عن السؤال "لماذا؟". لماذا كل هذا العناء؟ لماذا هذا السفر العظيم من أقاصي الأرض؟ لماذا هذا التجمع المهيب؟ الجواب: ليشهدوا، ويحضروا، ويشاركوا، ويجنوا "منافع" لهم. وكلمة "منافع" هنا هي مفتاح الكنز المفقود؛ لقد جاءت بصيغة الجمع لتشمل كل نفع، ونكرة لتفيد عموم كل نفع يمكن أن يتصوره العقل: نفع روحي، نفع اقتصادي، نفع علمي، نفع اجتماعي، نفع سياسي.
لكن المأساة الكبرى التي أصابت الأمة، هي أنها تمسكت بالوسيلة وضيّعت الغاية. ظلّت الأجيال تُلبي نداء الرحلة، لكنها نسيت لماذا كانت الرحلة أصلًا. أصبح الحج مجرد أداء للمناسك، وانفصل تمامًا عن شهود المنافع. لقد أصبح جسدًا ضخمًا بلا روح، ورحلة شاقة بلا وجهة حقيقية.
في هذا الفصل، سنقوم بمحاولة جريئة لاستعادة هذه الروح المسلوبة. سنقرأ المخطط الإلهي الأصلي للحج، لا كما رسمه فقه الأحبار الذي اختزله في طقوس فردية، بل كما خطه رب العالمين في كتابه، ليكون حدثًا حضاريًا متكاملًا يعيد للأمة قوتها وعزتها ومكانتها التي أرادها الله لها.
الحج: المؤتمر العالمي للعلم والاقتصاد والقوة
إن أولى "المنافع" التي قصدها الله للأمة من هذا التجمع هي منافع القوة والازدهار والتقدم. لقد كان الحج هو المنصة الإلهية التي لا مثيل لها، والتي لو فقهها المسلمون لكانوا سادة العالم.
- المؤتمر الاقتصادي الأكبر: لم يحرم الله على ضيوفه أن يبتغوا فضله ورزقه، بل جعل ذلك جزءًا من رحلتهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ...﴾. تخيل المشهد: مكة تتحول في موسم الحج إلى أكبر معرض تجاري وصناعي وزراعي في العالم. كل وفد من كل أمة مسلمة يأتي بأفضل ما عنده: هؤلاء بمنتجاتهم الزراعية، وأولئك بتقنياتهم الصناعية، وآخرون بابتكاراتهم الرقمية. يتم تبادل الخبرات، وتُعقد الصفقات، وتُبنى الشراكات، فينشأ سوق إسلامي مشترك قوي ومستقل، يغني الأمة عن التبعية لأعدائها، ويحقق الاكتفاء الذاتي الذي هو أساس كل قوة.
- المؤتمر العلمي والتقني: في رحاب البيت العتيق، تُنصب أروقة العلم والمعرفة. يجتمع الأطباء والمهندسون والفيزيائيون والمبرمجون من كل حدب وصوب. هذا يعلن عن اكتشاف دواء جديد، وذاك عن تطوير تقنية للطاقة النظيفة، وآخر عن نموذج ذكاء اصطناعي لخدمة علوم القرآن. يتحول الحج إلى أكبر مؤتمر علمي عالمي، يتم فيه تلاقح العقول، ونشر المعرفة، وتوحيد الجهود لمواجهة تحديات العصر، تحقيقًا لأمر الله بالتفكر في خلقه.
- مؤتمر القوة والوحدة: إن اجتماع ملايين المسلمين في صعيد واحد، بقلب واحد وهدف واحد، ليس مجرد مشهد روحي، بل هو أعظم استعراض للقوة والوحدة يمكن أن تشهده البشرية. قوة لا تقوم على السلاح، بل على الإيمان والنظام والهدف المشترك. مشهد يملأ قلوب المؤمنين عزة وثقة، ويلقي في قلوب أعدائهم الرهبة، ويُذكّر العالم بأن لهذه الأمة قلبًا واحدًا ينبض بالتوحيد.
لقد تم تغييب كل هذا، وتحول المؤتمر العالمي إلى مجرد سوق استهلاكي لشراء الهدايا والسبح، فضاعت المنافع، وضاعت معها القوة.
ميقات رب العالمين: العودة إلى التقويم الكوني المتناغم مع سنن الله
إن الله الذي أنزل القرآن هو نفسه الذي خلق الأكوان، وجعل الشمس والقمر بحسبان. ومن المستحيل أن تكون شريعته في كتابه منفصلة عن سننه في كونه. لقد قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...﴾. إن الأهلة والمواقيت التي وضعها الله متناغمة مع حركة الحياة.
لكن "فقه الأحبار" أصر على اعتماد تقويم قمري بحت، منفصل عن دورة الشمس والفصول. فكانت النتيجة كارثية: أصبح الحج طائفًا غريبًا يدور على فصول السنة، فيأتي مرة في صيف حارق، ومرة في شتاء قارس، مطلقًا نفسه تمامًا من أي حكمة زراعية أو رعوية أو مناخية. وهذا طلاق بين النص والواقع، وبين الشريعة والحكمة.
إن العودة إلى "ميقات رب العالمين" تقتضي العودة إلى التقويم الكوني المتناغم مع سنن الله. إن توقيت الحج، كما تشير إليه كل الدلائل الكونية والتاريخية، يجب أن يكون ثابتًا في أوانه الطبيعي: في نهاية الصيف وبداية الخريف (قرابة شهر سبتمبر)، وهو وقت الحصاد ووفرة الخيرات. وهذا التوقيت الثابت يحقق "المنافع" بأبهى صورها:
- وفرة "البُدْن": تكون الأنعام في ذروة سمنتها وخصوبتها بعد موسم كامل من الرعي الصيفي، فتكون الشعيرة أعظم، واللحم أطيب وأوفر، تحقيقًا لمعنى الشكر على النعمة.
- وفرة الثمار: يكون وقت الحصاد، فتأتي القوافل محملة بخيرات الأرض، فيزدهر سوق الحج وتتحقق المنافع الاقتصادية.
- اعتدال المناخ: يكون الطقس قد بدأ بالاعتدال بعد حر الصيف، فيكون أيسر على الحجيج وأعون لهم على أداء مناسكهم.
إن الانفصال عن ميقات الله الكوني هو أحد أكبر أسباب ضياع منافع الحج. ولكي نشهد المنافع، يجب أن نعود أولًا إلى الميقات الذي حدده الله لهذه المنافع.
"كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ": الحج كالتقرير السنوي لإنجازات الأمة
بعد أن يقضي الحجيج مناسكهم، يأتي أمر إلهي عجيب يكشف عن بعد حضاري مذهل تم قتله بالكامل:
﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا...﴾ (البقرة: 200)
لقد فسرها الفقهاء على أنها مجرد ذكر باللسان وترديد لكلمات. لكن الله لم يقل "كذكركم الله"، بل أعطانا مقياسًا: "كذكركم آباءكم". وكيف كان العرب يذكرون آباءهم في مجامعهم الكبرى؟ كانوا يقفون في أسواقهم ومحافلهم، فيذكر كل واحد مفاخر قبيلته، وأمجاد أجداده، وقوتهم، وشجاعتهم، وكرمهم، وإنجازاتهم. كان ذكرًا للفخر والعزة والقوة.
وهنا يأتي التوجيه الإلهي: حوّلوا هذا الفخر البشري إلى فخر بالله. اذكروا الله ذكرًا أشد من ذلك. كيف؟ بأن تقف وفود الأمم الإسلامية، لا لتذكر أمجاد الآباء البالية، بل لتذكر نعم الله عليها وإنجازاتها التي تحققت بفضل الله خلال العام المنصرم.
- يقف وفد ويقول: "نشكر الله ونذكره أن وهبنا هذا العام علماء اكتشفوا علاجًا لمرض كذا!"
- ويقف آخر: "نذكر الله ونحمده أن أعان مهندسينا على بناء أكبر سد لتوفير الماء!"
- ويقف ثالث: "نحمد الله أن وفقنا لتطوير تقنية زراعية ضاعفت محصولنا ووفرت الطعام للفقراء!"
بهذا، يتحول "ذكر الله" من ترديد فردي паθητικός، إلى "تقرير سنوي" حيوي لإنجازات الأمة، يملأ القلوب فخرًا بنعمة الله، ويشعل روح التنافس في الخير، ويقدم للعالم صورة أمة حية، منتجة، وقوية بفضل ربها.
لقد قُتلت كل هذه المنافع، واستُبدل المؤتمر العالمي بخطبة جامدة، والتقويم الكوني بتقويم تائه، والتقرير السنوي للأمة بتمتمات فردية. وإن استعادة روح الحج تبدأ من هنا: من العودة إلى مقاصد القرآن العظمى، لنشهد المنافع التي وعدنا الله بها.