عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفصل الخامس: ميزان الحق - كيف نكون رحماء في الحكم، أشداء في المبدأ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
أخي في الله، يا كل من يبحث عن الحق ويرجو رحمة ربه،

لقد وصلنا الآن إلى قلب منهجنا، وإلى الميزان الدقيق الذي يقيم عليه كتاب الله كل شيء. بعد أن هدمنا صنم "الفرقة الناجية"، ورأينا سعة رحمة الله التي نرجوها للسواد الأعظم، قد يظن ظانٌ أن هذا المنهج هو دعوة للتمييع والمداهنة، وأنه يطمس الفوارق بين الحق والباطل.

وهنا، يا أخي، نضع القاعدة المنهجية التي توازن بين سعة الرحمة وصلابة الحق، فتجعلنا نبرأ من الباطل وأهله دون أن نقع في جريمة التكفير والحكم على مصائر العباد. إنه الفصل الذي يجيب على السؤال الأصعب: كيف نكون رحماء في الحكم، أشداء في المبدأ؟



الفصل الخامس: ميزان الحق - كيف نكون رحماء في الحكم، أشداء في المبدأ؟

مقدمة: شاهدٌ لا قاضٍ

إن أول أصل يجب أن نرسخه في عقولنا وقلوبنا هو تحديد "دورنا" الذي كلفنا الله به. فهل كلفنا الله أن نكون قضاة على خلقه، نحاسبهم على ضمائرهم ونوزعهم بين الجنة والنار؟ أم كلفنا أن نكون شهداء بالحق، ندعو إليه ونبينه للناس؟

إن القرآن يحسم هذه القضية بشكل قاطع. إن الله لم يقل لنا "كونوا قضاة على الناس"، بل قال:

[cite_start]﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ...﴾ [cite: 4-135]

إن دورنا هو "الشهادة بالقسط". والشاهد يصف ما يرى ويشهد بالحق، لكنه لا يُصدر الحكم النهائي. [cite_start]أما القاضي فهو الله وحده: ﴿...فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [cite: 2-113].

متى فهمنا هذا الفرق الجوهري بين "مقام الشهادة" و"مقام القضاء"، اتزن الميزان كله. فعلى هذا الأساس، تنقسم مسؤوليتنا إلى كفتين متوازنتين: كفة الشدة في المبدأ (واجب الشاهد)، وكفة الرحمة في الحكم (أدب الشاهد).

الكفة الأولى: صلابة المبدأ (واجبات الشاهد)

أن تكون شاهدًا لله بالقسط يعني أن تكون صلبًا في الحق، لا تميل ولا تجامل. وهذه الصلابة تتجلى في ثلاثة أمور:

  1. تسمية الأشياء بأسمائها القرآنية: لا ميوعة في المصطلحات. نحن نسمي الشرك شركًا، والكفر كفرًا، والظلم ظلمًا، والربا ربا. نحن نصف "الفعل" أو "المعتقد" بحكمه القرآني الصريح. فلا نقول عن الحكم بغير ما أنزل الله "وجهة نظر"، بل نصفه بما وصفه الله: كفر وظلم وفسق. هذه هي أمانة الشهادة.
  2. البراءة من الباطل وأهله: الولاء والبراء أصل من أصول الإيمان. ولاؤنا لله ولكتابه وللمؤمنين. وبراؤنا من الطاغوت وكل منهج يعبد من دون الله. نحن نعلن براءتنا من أنظمة الشرك والظلم، ومن كل فكر يناقض توحيد الله. وهذا لا يعني الحكم على كل فرد في هذه الأنظمة بالهلاك، بل يعني المفاصلة الفكرية والشعورية مع الباطل نفسه، كما فعل إبراهيم حين قال لقومه: ﴿...إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ...﴾ (الممتحنة: 4).
  3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الشاهد الإيجابي لا يكتفي بالمشاهدة، بل يسعى للتغيير. واجبنا هو الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذه هي شدة الحق: أن لا نسكت عن منكر نراه، وأن لا نداهن في معروف نؤمن به. [cite_start]﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...﴾ [cite: 3-104].

الكفة الثانية: الرحمة في الحكم (آداب الشاهد)

بينما نحن أشداء في المبادئ السابقة، فإننا مأمورون بالرحمة المطلقة في الحكم على الأشخاص. وهذه الرحمة تتجلى في ثلاثة أمور:

  1. إيكال السرائر إلى الله: نحن نشهد على الظاهر، والله يتولى السرائر. قد نرى فعل الكفر من شخص، لكننا لا نعلم ما في قلبه من جهل أو تأويل أو إكراه أو غفلة. الحكم على الظاهر واجبنا كشهود، أما الحكم على ما في القلوب فهو تعدٍّ على حق الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
  2. ترك المآل إلى الحَكَم العدل: نحن نشهد بأن القرآن يقول إن "جزاء" فعل معين هو النار. لكننا نتوقف هنا. لا نتجاوز دورنا لنلعب دور القاضي فنقول: "إذًا فلان بن فلان سيدخل النار". نحن نكل أمره إلى الله، فهو أعلم بحاله، وأعلم بما يستحقه من عدل أو رحمة. قد يغفر الله له لعمل صالح خفي، أو لجهل، أو لابتلاء. الحكم النهائي ليس لنا.
  3. إبقاء باب التوبة مفتوحًا: حين نحكم على شخص بالهلاك الأبدي، فإننا نغلق في وجوههم باب الأمل والعودة إلى الله. ولكن دورنا كدعاة هو عكس ذلك تمامًا. دورنا هو أن نبقي باب التوبة مفتوحًا حتى لفرعون، فالله قد أمر موسى وهارون أن يقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى. إن الرحمة في الحكم هي التي تجعل دعوتنا مسموعة، وتفتح القلوب للدخول في دين الله.

الخلاصة: الميزان القسط

يا أخي في الله، إن المنهج القرآني ليس تطرفًا ولا تمييعًا. إنه ميزان القسط.

  • نحن أشداء كالجبال في وصف الحق ووصف الباطل.
  • ونحن رحماء كالوالد في التعامل مع الخلق، نرجو لهم الهداية والرحمة.

مهمتنا أن نصف المرض (الشرك، الكفر) بدقة متناهية، ونحذر من عواقبه المميتة، ونقدم الدواء (القرآن)، لكننا لسنا من يوقع شهادة الوفاة ويقرر المصير. ذلك لله وحده، رب العالمين.

سجل المراجعات