عودة المسلمين لميقات رب العالمين

وهم الجبهتين: قراءة في سنن الاجتماع من السبي البابلي إلى مذبحة غزة DeepSeek

بسم الله الرحمن الرحيم

وهم الجبهتين: قراءة في سنن الاجتماع من السبي البابلي إلى مذبحة غزة

مقدمة: ضباب الإعلام وحقيقة الميدان

تضج شاشات العالم بعناوين صاخبة: "حماس تكبد إسرائيل خسائر فادحة"، "الجيش الإسرائيلي يفشل في تحقيق أهدافه"، "مفاوضات بين حماس وإسرائيل لوقف إطلاق النار". هذه اللغة الإعلامية تخلق وعياً جمعياً زائفاً، وترسم في الأذهان صورة لحرب طاحنة بين جيشين متكافئين، أو على الأقل بين كيانين متناظرين. يُدعى ممثلون عن "حماس" إلى طاولات المفاوضات، ويُمنحون دور الند الذي يملي الشروط، بينما تُباد غزة ويُقتل ربع سكانها ويُصاب ويُشرد الباقون في أكبر مأساة إنسانية يشهدها القرن الحادي والعشرون.

الحقيقة المجردة، التي يجب أن نبدأ منها، هي أن ما نشهده ليس حرباً بين جبهتين، بل هو عملية عسكرية دموية يقوم بها حاكم عسكري مطلق ضد سكان محاصرين في سجن كبير. لفهم كيف وصلنا إلى هذه النقطة، وكيف يتم استخدام وهم "المقاومة" كغطاء لإدامة الإبادة، يجب علينا أن نرتدي معطف المؤرخ، ونعود بالزمن لنقرأ سنن الله الثابتة في قيام الدول وسقوطها، وهي السنن التي قصها علينا القرآن الكريم كقوانين اجتماعية لا تتبدل.

الفصل الأول: الحاكم العسكري الأوحد منذ عام 1967

منذ حرب الأيام الستة في يونيو 1967، أصبحت دولة إسرائيل هي الحاكم العسكري الفعلي والوحيد على كامل أرض فلسطين التاريخية. من ذلك التاريخ، أصبح كل شبر من الضفة الغربية وقطاع غزة خاضعاً لسلطة الحاكم العسكري الإسرائيلي بشكل مباشر وكامل.

أمام هذا الواقع، وُضِع الساسة الإسرائيليون أمام خيارين استراتيجيين:

  1. الضم والدمج الكامل: منح سكان الضفة وغزة الجنسية الإسرائيلية. كان هذا الخيار كابوساً ديموغرافياً للدولة "اليهودية".
  2. العزل والإدارة غير المباشرة: وهو الخيار الذي تم اعتماده، ويقضي بالحفاظ على السيطرة العسكرية والأمنية الكاملة، مع إنشاء كيانات إدارية محلية شكلية.

من رحم هذه الاستراتيجية، وُلدت "السلطة الفلسطينية" بموجب اتفاقيات أوسلو (1993)، ولاحقاً، تم السماح بوجود سلطة "حماس" في غزة بعد الانقسام عام 2007. لكن هذه الكيانات لم تكن يوماً دولاً أو كيانات ذات سيادة. الدلائل على ذلك:

  • السيطرة المالية: كل المعاملات المالية للسلطة الفلسطينية تتم عبر النظام المصرفي الإسرائيلي.
  • السيطرة الأمنية: قوات الأمن الفلسطينية كانت أسلحتها خفيفة ومحدودة، ومُصرح بها من قبل السلطات الإسرائيلية.
  • السيطرة على الحياة: تتحكم إسرائيل في كل المعابر، والمجال الجوي، والمياه الإقليمية.

في هذا السياق، كانت غزة طوال 18 عاماً من حكم حماس هي "أكبر سجن مفتوح في العالم"، وكانت حماس تلعب دور "شرطة السجن الداخلية".

الفصل الثاني: صناعة "العدو" المناسب والطبيعة الوهمية للمقاومة

أتقن الإسرائيليون استراتيجية "البيضة والحجر" لدفع السكان إلى الرحيل طوعاً أو لتبرير سحقهم. وفي هذا الإطار، كانت طبيعة "المقاومة" الفلسطينية هدية استراتيجية لهم.

  • المرحلة اليسارية: في السبعينيات والثمانينيات، سهّلت إسرائيل تصوير المقاومة كعصابات إرهابية يسارية.
  • المرحلة الإسلامية: عندما بدأت الحركة اليسارية تنضج سياسياً، ظهرت التيارات الإسلامية. قدمت حماس لإسرائيل "العدو المثالي" - حركة إسلامية مصنفة "إرهابية" دولياً.

التحليل الاستراتيجي للتسليح المحدود:
التسليح الذي يُسمى "مقاومة" هو في حقيقته تسليح وهمي:

  • الصواريخ بدائية، تعمل بتقنيات أقدم من القرن الثامن عشر، تشبه صواريخ الاحتفالات أكثر منها أسلحة استراتيجية.
  • لا تؤثر هذه الصواريخ في المستوطنات الإسرائيلية بشكل حقيقي، ولكنها تخدم كذريعة مثالية للقمع.
  • الأنفاق بُنيت أساساً لحماية القادة وليس المدنيين، مما يعكس استراتيجية "الضرب والهرب والاختباء بين المدنيين".

عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، بغض النظر عن دوافع منفذيها، كانت هدية لحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، coming في وقت كان فيه نتنياهو يواجه السجن والمجتمع الإسرائيلي منقسماً بشدة.

الفصل الثالث: قانون الله الذي لا يتبدل - من القدس إلى بابل

هذه المأساة ليست جديدة في تاريخ البشرية. إنها تطبيق صارم لسُنّة إلهية تكررت مراراً، وقد فصلها القرآن الكريم في قصة بني إسرائيل.

بعد انقسام مملكتهم، انحرفت عشرة أسباط من بني إسرائيل إلى عبادة العجل، فكان عقاب الله أن سُلِّط عليهم الآشوريون الذين أبادوهم. بقي سبطان لكن الفساد استشرى فيهم، فجاء العقاب على يد البابليين في "السبي البابلي الأول" عام 597 ق.م.

في تلك الفترة الحرجة، حذرهم نبي الله إرميا (ويحتمل أنه يوشع) من التهور والثورة الانتحارية ضد قوة بابل الساحقة. كانت رسالته واضحة: الحل ليس في عمل تشنجي، بل في العودة إلى الله وإصلاح المجتمع من الداخل. إنه الأمر الإلهي الخالد: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (النساء: 77).

لكن الحاكم الإداري صدقيا تمرد على الحاكم العسكري البابلي بتحريض من وعود مصرية فارغة. فكانت النتيجة أن تحققت نبوءة النبي، ووقعت الكارثة الكبرى عام 586 ق.م.: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ (الإسراء: 5). دُمّر الهيكل، وأُحرقت المدينة، وبدأ الشتات العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الرابع: من السبي إلى الخروج – الطريق الوحيد للخلاص

القرآن لا يروي القصص لتسلية الأذهان، بل ليبني منهجًا للعمل وفق سلسلة مرحلية محددة لا يمكن تجاوز أي حلقة فيها. فكيف نستفيد من هذه السنن دون أن نعطل سلسلة البناء الإلهي؟

1. أولاً: الدار قبل الإيمان – حقيقة لا يمكن تجاوزها

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)

إن بني اسرائيل لم يبدأ تكليفهم بالقتال إلا بعد سفر الخروج و الهجرة و استعداددهم كأمة حرة لاعداد العدة و اقامة الكيان المادي الحقيقي بعيدا عن المنظومة الدينوننية لغير الله ..و كذلك النبي و الصحابة رضي الله عنهم لم يكلفوا بقتال إلا بعد الهجرة و اقامة الدار و الايمان و رسوخ قدمهم و استنفاذهم لكل السبل السياسية و الدعوية و الوعظية الممكنة حتى قتلوا ظلما و اذن الله لهم بدفع القاتل المعتدي .

الآية الكريمة تبدأ بـ"أُخْرِجَتْ" قبل "تُؤْمِنُونَ"، فالأمة لا تُبنى بالإيمان فحسب، بل بالإخراج إلى دار تسمح لهذا الإيمان بالنمو والتمكين. النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة التي كانت "دار استضعاف" إلى المدينة التي أصبحت "دار تمكين"، فاختار مكانًا قادرًا على استيعاب الإيمان وتمكينه.

القوة المادية للجماعة المؤمنة لن تبني في سجن مفتوح، لكن يبني ما هو أهم البذرة الصامدة التي تبتلى حتى تخرج الشجرة الكبرى ان وضعت في تربة الدار بعد الخروج ..إنها مرحلة الفرز و التمحيص و تنقية الذهب .... فالصلاة في مرحلة الاستضعاف هنا ليست مجرد طقس، بل هي نظام نواة نورانية صلبة، كما قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (يونس: 87). فالصلاة تبدأ ببناء بيوت تتحول إلى قبلة، وليس بمواجهة السيف بالسيف.

2. ثانياً: البذرة المبتلاة – من المِحنة إلى النور

القرآن يصف المؤمنين كـ"زيت كاد يُضيء" لكنه لا يضيء فعلاً إلا في "مِشْكَاةٍ" بعد أن "يَحْتَرِق" في تجربة الابتلاء:

﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مصباح المصباح فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ...﴾ (النور: 35)

، الشجرة المباركة هي فسيلة للجماعة المؤمنة الاولى و الزيت هنا هو نور القرأن و الوحي الذي يتفاعل معها ثم يشتعل بالإبتلاء الذي يحول الزيت إلى نور حقيقي، والمِشْكَاة هي الدار التي تحمي هذا الاشتعال . فلا يمكن للإيمان أن يضيء كـ"كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" إلا بعد أن يمر بسلسلة من الابتلاءات في دار تحميه.

غزة اليوم ليست "مِشْكَاة" تحمي الزيت، بل هي سجن مفتوح صادر فيه كل مظهر من مظاهر الاستقلال التي تسمح للإيمان بالنمو. فكيف نتوقع أن يتحول هذا الزيت إلى نور يضيء العالمين؟

3. ثالثاً: الترتيب الرباني – من التبذر إلى البناء

المنهج الرباني يمر بثلاث مراحل حاسمة لا يمكن تجاوزها:

أ. مرحلة التبذر والابتلاء (مثل مكة)

المرحلة التي يكون فيها المؤمنون قلة، مضطهدين، ممنوعين من إقامة دينهم بشكل كامل. المطلوب هنا:
  • كف الأيدي: ليس استسلامًا، بل تجنب الأعمال الارتجالية التي تعيد إنتاج المذبحة.
  • بناء الإنسان المؤمن: عبر تدبر القرآن كقانون اجتماعي وفيزيائي، لا كنصوص معزولة.
  • التماسك الداخلي: عبر تحويل البيوت إلى قلاع روحية وفكرية.

ب. مرحلة الهجرة والتمايز (مثل الهجرة إلى المدينة)

المرحلة التي تبحث عن دار جديدة تسمح بإقامة الدين. المطلوب هنا:
  • الهجرة: إلى مكان قادر على استيعاب الإيمان وتمكينه.
  • البناء المجتمعي: عبر الزكاة كنظام اقتصادي عادل، والشورى كنظام حكم.
  • التمايز الواضح: بين منهج الله ومنهج البشر.

ج. مرحلة التمكين والإعداد (مثل المدينة المنورة بعد الهجرة)

المرحلة التي تسمح فيها الدار الجديدة ببناء القوة الشاملة. المطلوب هنا:
  • الإعداد العسكري: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60) - بعد أن تتوفر الدار الحرة.
  • القوة الاقتصادية: استخراج الموارد وبناء الصناعات.
  • القوة العلمية: دراسة الفيزياء والكيمياء كسنن إلهية في الكون.

خاتمة: لا قوة قبل الدار

المأساة الحقيقية ليست في ضعف القوة العسكرية، بل في محاولة بناء القوة دون وجود دار تسمح بهذا البناء. فالقوة بدون دار هي قوة وهمية تُستخدم كذريعة للمزيد من القتل، كما حدث في 7 أكتوبر عندما قدمت أعمال تمرد متهورة الذريعة المثالية لزيادة التهجير والإبادة.

الطريق الوحيد للخلاص هو اتباع الترتيب الرباني:

  1. الاعتراف بالواقع: نحن في مرحلة الاستضعاف، وليست مرحلة التمكين.
  2. البدء بالدار: بناء الجماعة المؤمنة في مكان يسمح بإقامة الدين.
  3. الصبر على الابتلاء: حتى تتماسك البذرة وتصبح نبتة قوية.
  4. الهجرة عند الإمكان: إلى دار تسمح بتمكين الإيمان.
  5. البناء الشامل: اقتصاديًا وعسكريًا وعلميًا - بعد توفر الدار الحرة.

فلا يمكن أن نفكر في "استخراج الحديد" قبل أن نكون في دار تسمح لنا باستخراجه، ولا يمكن أن نبني "صناعات عسكرية" بينما نحن تحت حكم عسكري لغير الله. النصر لا يأتي بالقفز على المراحل، بل بالسير وفق السنن الإلهية التي وضعها الله في كتابه وفي الكون.

الفصل الخامس: المقاييس الربانية للقيادة والأمة

في قصة طالوت في القرآن تتبدى المقاييس الربانية للحكم والقيادة. عندما طلب بنو إسرائيل ملكاً يقاتلون تحت رايته، اعترضوا على اختيار طالوت لأنه لم يكن من سلالة ملوكية ولم يكن ثرياً. فجاء الرد الإلهي: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: 247).

هذه الآية تنسف المفاهيم الأرضية للقيادة:

  • الاصطفاء الإلهي يهدم فكرة الحق الوراثي.
  • البسطة في العلم تعني المعرفة الاستراتيجية وفقه الواقع.
  • البسطة في الجسم تعني القدرة على التحمل والهيبة.

المُلك في المفهوم القرآني ليس سلعة تُورّث، بل أمانة ومسؤولية يختار الله لها الأكفأ.

الخاتمة: طريق الخروج - من وهم المواجهة إلى حقيقة الإعداد

حال أهل غزة اليوم ليس بأفضل من حال بني إسرائيل تحت الحكم البابلي، بل هو أسوأ، لأن قوة عدوهم تفوق قوة بابل بآلاف المرات. أول خطوة لوقف الجريمة هي الاعتراف أنه لا توجد "جبهة قتال" متكافئة، وأن مسميات "فتح" و"حماس" ما هي إلا أوهام يستغلها العدو.

الطريق للخروج ليس في البحث عن فصيل جديد، بل في العودة إلى القانون الإلهي الذي لا يتخلف. الطريق يبدأ بتطبيق المنهج الرباني لمرحلة الاستضعاف:

  1. كف الأيدي: التوقف عن الأعمال الانتحارية التي تقدم للعدو مبرراً للقتل.
  2. إقامة الصلاة: إعادة بناء الإنسان المؤمن الواعي بسنن ربه.
  3. إيتاء الزكاة: إعادة بناء المجتمع المتكافل القوي اقتصاديًا.

4.الخروج و الهجرة: قصدا للدار و الإيمان.
5.إعداد العدة العلمية و المادية: تقوية الدار و الإيمان داخليا و خارجيا .
6.إقامة العدل و عدم التعدي :عبر استراتيجية سياسية حكيمة لا تبدأ بالقتال وتعتمد الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال بالتي هي احسن وقول للناس الحسن واقامة العدل على القريب و البعيد و الحبيب و الغريم.
7.القتال ردا على المعتدي:أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا و ان الله على نصرهم لقدير.

القوة الحقيقية التي أمرنا الله بإعدادها ليست فقط قوة السلاح، بل هي قوة العلم والاقتصاد والصناعة والوحدة والأخلاق والإيمان.

الطريق إلى تحرير أي أرض يبدأ من تحرير الإنسان الذي يعيش عليها من الجهل والفرقة والفقر والوهم. إنها دعوة للعودة إلى الله، بفهم سننه وقوانينه في الكون وكتابه، والعمل بها. فهذا هو الطريق الوحيد الذي وعد الله أهله بالنصر والتمكين.

"وكان وعداً مفعولا"

سجل المراجعات