الفصل الخامس أُذِنَ للذين يُقاتَلون: فلسفة القتال لحماية الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الخامس
"أُذِنَ للذين يُقاتَلون": فلسفة القتال لحماية الدين
قد يتساءل القارئ الذي تتبع معنا رحلة إحياء المناسك والشعائر القرآنية: ما علاقة القتال بالحج؟ ولماذا يضع الله آيات الإذن بالقتال في قلب السورة التي تحمل اسم أعظم شعيرة سلمية في دينه؟ هل هو تناقض أم أن هناك حكمة خفية تربط بين قدسية البيت وحرمة الدم؟
إن الجواب يكمن في أن الله، بعلمه المحيط، كان يعلم أن دين الحق لن يُترك وشأنه. كان يعلم أن نقاء التوحيد، ويسر الشريعة، وعظمة المنافع التي أودعها في دينه، ستثير حقد قوى الظلام والطغيان التي تستفيد من جهل الناس وتستعبدُهم بالطقوس الباطله. إن وجود آيات القتال في سورة الحج ليس مصادفة، بل هو إعلان إلهي بأن الشعائر الحقة ستحتاج دومًا إلى قوة تحميها، وأن المنسك الطاهر سيواجه دومًا من يريد تدنيسه، وأن دين الله سيخوض معركة أبدية ضد دين الطاغوت.
هذا الفصل ليس دعوة للحرب، بل هو دعوة لفهم فلسفة القوة في القرآن. القوة التي لا تُشرع للاعتداء أو الإكراه، بل تُشرع كآخر حصن لحماية أقدس ما في الوجود: حرية الإنسان في أن يعبد ربه كما أمره ربه، ونقاء الدين من أن يُحرّف ويُمسخ.
معركة الحج: الصراع بين دين الله ودين الطاغوت
إن الشرارة الأولى التي أُذن للمؤمنين بسببها أن يرفعوا السلاح لم تكن نزاعًا على أرض أو مال، بل كانت صراعًا على العقيدة. يقول تعالى محددًا سبب الإذن:
*﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...﴾** (الحج: 39-40)
الجريمة التي استحقت الحرب هي أن يقول المؤمن "ربي الله". الظلم هو أن تُطرد جماعة من أرضها وتُسلب حقوقها لمجرد أنها اختارت أن تخلص العبودية لربها. من هنا نفهم أن "معركة الحج" ليست معركة تاريخية انتهت، بل هي صراع مستمر، قد لا يكون اليوم بالسيوف، ولكنه أشد ضراوة في ساحات الوعي والفكر.
إن "الطاغوت" الذي يحارب دين الله اليوم ليس بالضرورة صنمًا أو حاكمًا كافرًا، بل هو كل منظومة فكرية أو سلطة معرفية نصّبت نفسها ندًا لله، وحاربت شريعته النقية. إن "الفقه الحبري" الذي تحدثنا عنه، حين يتحول إلى سلطة مقدسة تملك حق التحليل والتحريم، ويفرض على الناس مناسك ما أنزل الله بها من سلطان، هو التجسيد المعاصر لهذا الطاغوت.
إنها معركة حقيقية على روح الحج:
- دين الله يريد الحج مؤتمرًا للمنافع والقوة والوحدة، في ميقات كوني ثابت.
- دين الطاغوت يريده طقسًا فرديًا تائهًا في الزمان، خاليًا من أي منفعة حقيقية للأمة.
- دين الله يأمر بشعيرة "البُدْن" كوليمة عالمية تطعم الفقراء وتغني الأمة.
- دين الطاغوت يقتلها ويستبدلها بطقوس وثنية كـ"رجم الجمرات" التي تقتل الحجيج وتخدم الخرافة.
- دين الله غايته "ذكر الله وذكر الناس" بإنجازاتهم ونعم ربهم.
- دين الطاغوت غايته "التسبيح بحمد الحاكم" في خطب عصماء، وإلهاء الناس بتفاصيل شكلية لا روح فيها.
إن الصراع المذكور في سورة الحج هو صراع لتحرير "المناسك" من قبضة هذا "الطاغوت"، وإعادتها خالصة لله وللناس.
"والفتنة أشد من القتل": القتال لحماية حرية العبادة، لا لفرضها
وهنا نصل إلى جوهر الفلسفة القرآنية للقوة. إن الغاية من القتال ليست إكراه الناس على الدخول في الدين، فالقرآن نفسه يقرر القاعدة الخالدة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾. بل الغاية هي ضمان ألا يُكره أحد على الخروج من دينه. إنها معركة لحماية حرية الاختيار، لا لفرض خيار واحد.
لقد عرّف القرآن الجريمة العظمى التي تستدعي القتال بأنها "الفتنة". والفتنة ليست مجرد خلاف أو نزاع، بل هي الاضطهاد الديني المنظم، هي محاولة قوة ما أن تصد الناس عن دينهم بالقوة، وأن تجبرهم على الكفر. هذه الجريمة، في ميزان الله، أفحش وأعظم من جريمة القتل نفسها:
﴿...وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ...﴾ (البقرة: 191)
لماذا؟ لأن القتل يسلب الإنسان حياته الدنيوية، أما الفتنة فهي تسلب منه سبب وجوده، وتقتل حريته في تحقيق الصلة بين روحه وخالقها. إنها جريمة قتل للروح. ولهذا، فإن غاية القتال هي إزالة هذا الاضطهاد: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ...﴾. أي حتى تزول كل قوة تفرض على الناس دينًا أو تمنعهم من دين، ويصبح أمر الدين والعقيدة علاقة حرة ومباشرة بين العبد وربه، دون قهر أو إكراه.
والآية الخالدة في سورة الحج تضع التاج على هذا المفهوم، وتكشف أن الإسلام لا يدافع عن مساجده فقط، بل عن حرية العبادة لكل البشر:
﴿...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا...﴾ (الحج: 40)
فالقوة في الإسلام ليست أداة طغيان، بل هي أداة لردع الطغيان، وصمام أمان لحماية دور العبادة كلها، وضمان أن يبقى حق الإنسان في مناجاة ربه مقدسًا ومصونًا.
خاتمة الكتاب.. ودعوة لاستكمال الرحلة
لقد بدأت رحلتنا في هذا الكتاب بتدبر شعيرة واحدة، شعيرة "البُدْن"، فانتهت بنا إلى فهم منظومة الدين بأكملها. لقد رأينا كيف أن العودة إلى الله تقتضي مشروعًا متكاملًا:
- تطهيرًا فكريًا: بالعودة إلى القرآن وحده كمنهج ومصدر.
- إحياءً تعبديًا: بإقامة المناسك والشعائر القرآنية الحية والنافعة.
- ترقيًا روحيًا: باستعادة "الشعور" و"الصِّلة" في عبادتنا.
- امتلاكًا للقوة: بالاستعداد الدائم لدفع "الفتنة" وحماية هذا الدين النقي من كل من يريد تحريفه أو قمعه.
إن الطريق ليس سهلًا، والمعركة على وعي الأمة شرسة. والخيار أمام كل منا واضح: إما الركون إلى الدين الموروث، بطقوسه الميتة وفقهه المختلف، وإما الانضمام إلى قافلة العائدين إلى الله، المناضلين من أجل إحياء دينه الحق كما أنزله في كتابه. إنها دعوة للتحرر من عبادة الأوثان، والعودة إلى عبادة الرحمن. فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.