عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الحكم على الناس أعيانًا وفرقًا حق خالص لله

لقد هزتني آية في القرآن لم أكن أفهمها حتى راجعت كل معتقدي الذي ورثته، وهو قول الله تعالى في سورة البقرة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).
ما هذا؟ أليس الله من ذم اليهود في أكثر من موضع وقال إنهم أشد الناس عداوة؟ كيف هنا من قال إنهم ليسوا على شيء لا يعلم ولا يفهم؟ ولماذا؟ والله اختص الحكم عليهم لذاته، وما اختص به لنفسه ما جاز أن ينازعه أحد من خلقه.
والعجيب أن الآيات قبلها تتكلم عن ضلال اليهود والنصارى بقولهم نحن أبناء الله وأحبائه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق. هنا الحقيقة التي يجب أن نتنبه لها، إن كل الفرق، كل الفرق من أهل الكتاب لهم جزء من الحق يحاولون اتباعه، وكثير من البسطاء والعوام، بل وبعض الزهاد والعباد تقوم في قلوبهم وحدانية الله خالصة وليسوا من صفوة الكهنوت وأهل التبديل، وربما لا يفهمون كثيرًا من طلاسمهم. وهذا واقع، فلو سألت عاميًا سنيًا ماذا تعرف عن قضية خلق القرآن، لن يفهم كثيراً من تأصيلات متكلمة المذاهب، لكنه في النهاية معظمٌ للقرآن. وأنا أقول إن كل فرقة كتابية ستجد فيها مزيجاً من شيء من حق. بل كفرة أهل الكتاب أنفسهم قال الله عليهم: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ)، فهم ليس لهم إلا حبل من الله، وحبل الله هو بقايا الرسالة والمعروف الذي يتمسكون به، فحتى هذه البقية من الرسالة والكتاب جعلها الله لهم حبلاً لبقائهم رغم ذلتهم ومسكنتهم، وحبل من الناس كما رحمهم بعض الناس فيما استضعفوا به، كما حدث مع اليهود في قضايا معاداة السامية وغيرها. فالله أنصف حتى كفرة أهل الكتاب في دنياهم، وقبل من آمن منهم به واليوم الآخر وعمل صالحًا وأدخلهم الجنة حسب نسبية علمه في زمانه ومكانه والحجة التي بلغته، وهي نسبية تمامًا. فربما من كان أعجميًا وأهل الإسلام المتغلبون والمتسمون بالإسلام ظاهريًا خير مثال على التخلف والشرك، فهو لم يعمل إلا وفق ما جاءته من حجة مثل كانط وغيره آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا.
وهنا يجب أن أقول كلمة حق، إن توكيل الحكم لله على الأعيان والفرق والجماعات ليس مسألة تنفلية، بل هو من أصل الإسلام والإيمان، والتجرؤ عليه هو تجرؤ على حق الله الذي اختص به نفسه مرارًا في القرآن.
وهذه بعض الآيات الدالة يقينًا على اختصاص الحكم على الناس به وحده حتى في أشد الدرجات كفرًا:
• قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
• وقوله تعالى: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
• وقوله تعالى: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
• وقوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)
• وقوله تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)
• وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)
واختصاص الله جل وحده بالفصل:
• وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
• وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
• وقوله تعالى: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

سجل المراجعات