عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الرجم والنسب - حين تنسخ شريعة القردة والرجال عدالة القرآن

مقدمة: في هذا الفصل، سنتناول نموذجين من أفظع عمليات الاختراق التشريعي التي طالت دين الله: جريمة "الرجم" الدموية، وفوضى "النسب" القائمة على قاعدة "الولد للفراش". هاتان القضيتان ليستا منفصلتين، بل هما وجهان لعملة واحدة، عملة استبدال عدالة القرآن الصريحة، ومنطقه السليم، وعلمه اليقيني، بشريعة هجينة مصادرها خليط عجيب من شريعة اليهود المحرفة، وأقوال منسوبة للرجال، بل وحتى سلوك القردة!
الجزء الأول: جريمة الرجم

  1. البرهان القرآني: لا رجم في كتاب الله نبدأ بالقاعدة الحاسمة: كتاب الله، الذي فصّل كل شيء، لا يحتوي على كلمة "رجم" كعقوبة للزنا على الإطلاق. العقوبة الوحيدة المنصوص عليها للمحصن وغير المحصن هي الجلد، كما في قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ" (النور: 2). القرآن "مهيمن" على الكتب السابقة، وقد جاء ليبطل شريعة الرجم التي كانت في شريعة اليهود المحرفة، ويستبدلها بعقوبة أقل عنفاً وأكثر ردعاً.
  2. مصادر التشريع التراثي: بين شريعة اليهود والقردة! إذا لم يكن الرجم في القرآن، فمن أين أتى فقهاء التراث بهذه الشريعة الدموية؟ إن مصادرهم أغرب من الخيال:

• التشريع المأخوذ من القردة: في أغرب قصة تشريعية في تاريخ الأديان، يروي البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون أنه رأى في الجاهلية قردة زنت، فاجتمعت عليها بقية القردة فرجمتها حتى ماتت. أن يصل الأمر بفقهاء أمة إلى الاستشهاد بفعل القردة كدليل على "فطرية" الرجم، لهو دليل على الإفلاس المنهجي الكامل، واستعدادهم للتمسك بأي شيء، ولو كان سلوك البهائم، لتبرير حكم لا وجود له في كتاب الله.
  1. فضائح "الأدلة" المنسوبة كذباً للصحابة: حين تركوا تشريع القردة، لجأوا إلى حيلة أشد مكراً: الكذب على الصحابة الكرام، ونسب أقوال شنيعة إليهم لإضفاء الشرعية على حكمهم المبتدع.

• فضيحة "الآية التي أكلتها الداجن": من أشنع الأكاذيب تلك الرواية التي ألصقوها زوراً بأم المؤمنين عائشة، والتي مفادها أن "آية الرجم" كانت مكتوبة في صحيفة تحت سريرها، فأكلتها شاة. يا للعجب! هل يعقل أن تشريع أمة بأكملها، وحداً من أغلظ الحدود، يُترك مصيره لماعزة تأكله؟ هذه الرواية، إن صحت، ليست دليلاً على الرجم، بل هي طعن مباشر في وعد الله بحفظ الذكر، وكارثة عقدية تعني أن القرآن الذي بين أيدينا ناقص ومحرف.
• ركاكة "آية الرجم" المزعومة: حتى نص الآية الملفقة "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، هو نص غريب وركيك. فالشيخوخة بطبيعتها هي مرحلة خمود الشهوة، والزنا فيها حالة نادرة جداً، فكيف تكون هي أساس التشريع؟ القرآن دقيق، ولو أراد تشريعاً عاماً لقال "الرجل والمرأة" أو "الثيب والثيبة". إن هذا النص يبدو بوضوح أنه من صياغة بشرية تفتقر إلى حكمة ودقة التشريع الإلهي.
• فضيحة "لولا أن يقول الناس": ثم تأتي الفضيحة الكبرى في الأثر الذي دسوه ونسبوه للخليفة عمر بن الخطاب، الذي عُرف بشدته في الحق وخوفه من الله. يزعمون أنه قال: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي". إن هذا ليس منطق عمر، بل هو منطق الكذاب الذي يريد أن يمرر تشريعه المبتدع، فينسبه إلى أكبر قامات الصحابة لكي لا يجرؤ أحد على رده. فمن كذب على الله، ألا يكذب على عمر؟


الجزء الثاني: فوضى النسب
  1. المبدأ القرآني: "ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ" القاعدة القرآنية صارمة وواضحة: الهدف الأسمى هو العدل (أقسط)، والحقيقة، ونسب كل ولد إلى أبيه البيولوجي الحقيقي.
  2. تناقضات التراث: بين إثبات النسب بالشبه ونفيه بالفراش يأتي الحديث الذي نسبوه للنبي: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ليقلب المبدأ القرآني رأساً على عقب. لكن المدهش أن كتب التراث نفسها تحمل في طياتها ما ينسف هذه القاعدة الجامدة، مما يكشف عن حجم التخبط. ففي حديث اللعان الصحيح في البخاري وغيره، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الملاعنة، لجأ إلى "الفراسة" والشبه الجسدي لمعرفة صدق الزوج من كذبه، وكانت النتيجة النهائية هي أن الولد نُسب إلى أمه، وتم نفيه عن "الفراش".

وهنا يتجلى التخبط المنهجي بأوضح صوره. فمن جهة، لديهم رواية صحيحة (حديث اللعان) تؤسس لمنهج قائم على تحري الحقيقة البيولوجية عبر الشبه، وتسمح بنفي الولد عن الفراش. ومن جهة أخرى، لديهم رواية صحيحة أخرى ("الولد للفراش") تؤسس لقاعدة جامدة تهدر الحقيقة البيولوجية وتلغي البحث عنها. فكيف يمكن لنظام تشريعي واحد أن يقر المبدأ ونقيضه في آن واحد؟ إن هذا التناقض الصارخ يثبت أننا لسنا أمام وحي إلهي متسق، بل أمام روايات بشرية متضاربة تعكس ظروفاً مختلفة، تم تجميعها وفرضها دون عرضها على ميزان القرآن وعدله.
  1. الصدام مع علم اليقين (DNA) في عصرنا، وصلنا إلى "علم اليقين" في إثبات النسب عبر تحليل الحمض النووي (DNA). هذه التقنية العلمية القاطعة هي الأداة المثلى لتحقيق المبدأ القرآني "ادعوهم لآبائهم". والتمسك بحديث "الولد للفراش" في وجه هذا العلم هو تمسك بالظلم والجهل في وجه العدل والعلم.

منهج القرآن العادل في مواجهة فوضى النسب
إن الخوض في نقد التراث وهدمه يوجب علينا محاولة بناء تصور منهجي عادل ومستنير من القرآن والعقل، للتعامل مع قضايا واقعية معقدة. ولتناول مسألة النسب الشائكة بمنهجية، يجب أولاً تأسيس المبادئ القرآنية العليا التي لا يمكن الحيدة عنها.
المبادئ القرآنية الحاكمة:
  1. مبدأ العدل المطلق (القسط): القاعدة العليا هي "ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ". هذا يعني أن غاية الشريعة وهدفها الأسمى هو إلحاق كل ولد بأبيه البيولوجي الحقيقي، لأن هذا هو جوهر العدل. أي قاعدة فقهية تتعارض مع هذا المبدأ هي قاعدة مشبوهة.
  2. مبدأ حماية الولد: الطفل هو طرف بريء لا ذنب له في أي خطيئة ارتكبها الكبار. من حقه الأساسي أن لا يُفرض عليه نسب كاذب، وأن لا يُوصم بعار لم يرتكبه.
  3. مبدأ درء الظلم: يجب أن تحمي الشريعة كل الأطراف من الظلم. فلا يُجبر الزوج على تربية ونسب ولد ليس منه، ولا تُحرم المرأة من إثبات براءتها، ولا يُترك الولد ضائعاً.

تحليل الحالات الواقعية في ضوء هذه المبادئ:
الآن، لنطبق هذه المبادئ على الحالات الواقعية المعقدة:
• الحالة الأولى: رجل يتهم زوجته بالزنا أثناء الزواج (حالة اللعان)
لقد قدم القرآن حلاً إلهياً عبقرياً لهذا المأزق الإنساني الذي لا مخرج منه إلا بالظلم أو القتل في الشرائع البشرية. فاستثناء الزوج من حد القذف هو رحمة عظيمة به، لأنه هو الضحية الأولى لجريمة الخيانة. واللعان ليس مجرد قسم، بل هو إجراء قضائي وتشريعي يترتب عليه أثران حاسمان:
  1. فسخ عقدة النكاح بين الزوجين.
  2. قطع نسب الولد عن الزوج (صاحب الفراش) قطعاً قانونياً نهائياً.

وبمجرد تمام الملاعنة، يصبح الولد قانوناً وشرعاً "ابن أمه"، وهذا ما يؤكده الحديث الصحيح في هذا الشأن ("يُنْسَبُ إلى أُمِّهِ"). وهنا، يكون القرآن قد حقق العدل لجميع الأطراف في حدود الممكن: فالزوج لم يُجبر على نسب ولد ليس منه، والولد لم يُنسب زوراً لرجل ليس أباه، والأم أُعطيت فرصة للدفاع عن نفسها. ففي هذه الحالة، لا مجال لتطبيق قاعدة "الولد للفراش"، لأن القرآن نفسه جاء بحكم خاص (اللعان) يلغي هذه القاعدة في هذا الظرف المحدد.
• الحالة الثانية: رجل فارق امرأة ثم ظهر حملها
هنا أيضاً، المنطق القرآني واضح. فإذا كان الفراق قد تم، والمدة الزمنية بين الفراق والولادة تجعل من المستحيل علمياً أن يكون الولد من الزوج السابق، فإن أي محاولة لإلصاق الولد به هي ظلم بيّن وكذب صريح. الحل الوحيد الذي يتوافق مع مبدأ "القسط" القرآني هو أن ينسب الولد إلى أمه، فهي الحقيقة البيولوجية الوحيدة المؤكدة. ويبقى وصف حالة الولد بأنه "معلق" وصفاً دقيقاً للواقع الاجتماعي، حيث يبقى الباب مفتوحاً للبحث عن الأب البيولوجي الحقيقي. في الماضي، كانت "الفراسة" والشبه وسيلة ظنية لهذا البحث. أما اليوم، فإن تحليل الـ DNA يقدم وسيلة يقينية لحسم الأمر وتحقيق المبدأ القرآني "ادعوهم لآبائهم" بدقة مذهلة.
خلاصة المنهج القرآني مقابل الفقه التراثي:
إن الفقه التراثي، بتمسكه الجامد بقاعدة "الولد للفراش" كقاعدة مطلقة، قد خلق ظلماً كبيراً وتصادم مع القرآن والعقل والعلم. يبدو واضحاً أن هذه القاعدة لم تكن تشريعاً إلهياً أبدياً، بل كانت على الأرجح عرفاً اجتماعياً يهدف إلى حماية استقرار الأسرة في مجتمع لم تكن لديه وسائل إثبات يقينية، ففضلوا "استقرار الفراش" الظاهري على "حقيقة النسب" الباطنة.
أما المنهج القرآني، فهو لا يقدم قواعد جامدة، بل يقدم مبادئ عليا للعدل والحقيقة. إنه يفتح الباب دائماً للبحث عن الحقيقة بأي وسيلة ممكنة، لأنه واثق أن "القسط" و"الحق" هما غايته. الشريعة القرآنية مرنة، عادلة، ومتوافقة مع العلم، بينما الفقه البشري الموروث جامد، ظالم أحياناً، ومتصادم مع العلم.


خلاصة الفقرة:
إن قضيتي الرجم والنسب هما مثالان صارخان على كيفية عمل المنهج التراثي. إنه منهج لا يرى حرجاً في أن يأخذ تشريعه من القردة، أو من شريعة اليهود المحرفة، ثم ينسبه زوراً وبهتاناً إلى النبي وصحابته الكرام. وهو منهج متناقض داخلياً، يصطدم مع العقل والعلم، والأهم من كل ذلك، يصطدم مع عدالة القرآن ورحمته. إن هذا الفقه ليس من دين الله في شيء، والعودة إلى القرآن وحده هي السبيل الوحيد للخروج من هذه الظلمات التشريعية.

خاتمة الفصل:
إن هذه النماذج ليست سوى غيض من فيض، وقطرة من بحر الظلمات الذي يزخر به التراث. وهي تثبت أننا لسنا أمام منهج يمكن "ترقيعه" أو "إصلاحه"، بل أمام بنيان فاسد من أساسه. إن المنهج الذي يجسم الخالق، ويؤله المخلوق، ويشرعن القتل، ويهدم الحياء، وينشر الخرافة، لا يمكن أن يكون هو الدين الذي أنزله الله رحمة للعالمين.
وهنا، وفي ختام هذا البحث، نضع القارئ أمام الحقيقة عارية: إن الأزمة ليست في الإسلام، بل في "التراث" الذي نُسب إليه زوراً. والحل ليس في الاجتهاد داخل هذه المنظومة المنهارة، بل في هجرها بالكلية، والعودة الصادقة والكاملة إلى المصدر الوحيد المعصوم والمحفوظ والمهيمن: القرآن الكريم. فهو سفينة نوح لهذه الأمة، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق في بحر الظلمات والتيه.
"وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان: 30)
. فهل سنلبي نداء الله ونرفع هذا الهجران، أم سنظل أسرى لماضي عبادة الأحبار و الرهبان حتى يأتي يوم لا ينفع فيه ندم؟

الفصل التاسع عشر: الشبهة الكبرى - هل ضلت الأمة كل هذه القرون؟
مقدمة: حجة الآباء والكثرة
بعد هذا العرض المفصل لحجم التحريف الذي طال دين الأمة في أصوله وفروعه، يبرز سؤال هو في الحقيقة ليس سؤالاً، بل هو اعتراض واتهام: "هل يعقل أن تكون الأمة كلها، بعلمائها وصلحائها وأوليائها، قد ضلت طوال هذه القرون، وأنت وحدك ومن معك على الحق؟".
إن هذه الشبهة، التي تبدو للوهلة الأولى قوية ومنطقية، ليست في حقيقتها إلا الصدى الأخير لذات الحجة التي واجه بها كل قوم ضال رسولهم: "وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (الزخرف: 23). إن منطق "الكثرة" و"الآباء" ليس حجة للحق، بل هو في الغالب حجة أهل الباطل للتمسك بما ألفوه. وللرد على هذه الشبهة، لا بد من تفكيكها من ثلاثة محاور: محور التاريخ، ومحور الناموس الكوني، ومحور المعجزة الإلهية.

  1. أي تاريخ تتباهون به؟ قراءة واقعية في ظلمات القرون

إن أول مغالطة في هذه الشبهة هي افتراضها وجود تاريخ إسلامي مجيد ومستمر من النور والهداية. وهذا وهم كبير تكذبه كتب التاريخ التي دونوها بأيديهم.
• توقف الفتوحات المباركة: الحقيقة أن الأمة لا زالت تعيش، جغرافياً، على بركة دعوة وجهاد الرعيل الأول. فكل التوسعات الكبرى التي بقيت للإسلام حتى اليوم، في بلاد فارس وأجزاء من آسيا وشمال أفريقيا، هي ذات البقعة التي فُتحت ببركة الصحابة في تلك "السوبرنوفا" النهضوية الأولى. أما ما بعدها، فلم يكن إلا تمدداً هزيلاً ومؤقتاً.
• الأندلس شاهد على الفشل: إن ما تتغنون به من عظمة الدولة الأموية، هل أبقى لكم الأندلس؟ لقد فقدتموها بلا رجعة، ولم يبق منها إلا آثار تروي قصة أقوام بائدة. إن الفتح الذي لا يحمل نور الهداية والعدل، بل يحمل السبي والنهب، لا يباركه الله ولا يدوم.
• تاريخ من الدم والظلام: إن تاريخنا، بعد الرعيل الأول، ليس تاريخاً مشرفاً نتباهى به، بل هو تاريخ محزن من الاقتتال المهول في الجمل وصفين والنهروان، وأنهار من الدماء لم تجف في كربلاء والحرة ومكة. تاريخ من الفرق التي لا تنتهي، ومن الكلاميات والجدليات والتكفير، حتى وصلت عصور طويلة إلى الشرك الكامل من دعاء للأوثان والأصنام والأولياء.
نعم، نحن في ظلام دامس- تتوسطه مناطق نور يسيرة، - منذ قرون طويلة منذ أن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وبدلوا الأمر من شورى إلى ملك عضوض، ومن حكم قرآني إلى أهواء شيطانية. وليس فخراً أن نقول إننا في العصور الوسطى كنا "أقل ظلماً" من أوروبا، فها هي الأمم كلها تنهض ونحن لا نزال نعيش في قمقم القرون الوسطى الفكري منذ قرون.
  1. الناموس الكوني: سنة الله في الأمم والقلة المؤمنة

إن الحجة الثانية التي تنسف هذه الشبهة هي "الناموس الكوني" الذي وضعه الله في خلقه، والذي يؤكد أن الكثرة لم تكن يوماً دليلاً على الحق.
• طبيعة الإنسان: القرآن يصف الإنسان بأنه "ظلوم جهول"، "كفور"، "هلوع". فأغلب التاريخ البشري هو تاريخ الظلام والوحشية، تتخلله نبضات نورانية يهبها الله في فترات معينة على يد رسله وأوليائه، ثم ما يلبث أكثر الناس أن يعودوا إلى ديدنهم.
• القلة المؤمنة: القرآن واضح تماماً في أن الإيمان الحقيقي هو استثناء وليس قاعدة:
o "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ" (يوسف: 103).
o المقربون في الجنة "ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ" (الواقعة: 13-14).
o الابتلاء هو سنة الله الثابتة للمؤمنين: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا..." (البقرة: 214).
فالعجيب ليس أن تكون الأمة في ضلال، بل العجيب أن يتوقع أحد غير ذلك وهو يقرأ كتاب الله. إن سنة الله هي أن تكون القلة المؤمنة في كل زمان في حالة مشابهة لحالة الرعيل الأول: غربة، واضطهاد، ومحاربة.
  1. معجزة الحفظ: القرآن في قصر فرعون

إن أعظم حجة يواجهنا بها أهل التقليد هي حجة التاريخ والزمن، لكن أعظم آية نرد بها عليهم هي معجزة التاريخ والزمن ذاتها، وهي ليست في بطولات الملوك ولا في امتداد الدول، بل في بقاء النص القرآني ناصعاً، كاملاً، ومحفوظاً في قلب أمة ضل أكثرها عن منهجه.
لفهم هذه المعجزة، لا نحتاج إلى فلسفات معقدة، بل يكفي أن نتدبر قصة قرآنية واحدة تكشف عن "الناموس الإلهي" في حفظ الحق في بيئة الباطل: قصة موسى في قصر فرعون.
  1. الخطة الفرعونية: الإحاطة والسيطرة الكاملة

لقد أقام فرعون نظاماً محكماً لإبقاء سلطانه. لقد استخدم كل أدوات القوة الدنيوية: الجيش، والمال، والإعلام (السحرة)، والبطش. وحين أخبره الكهنة بنبوءة عن غلام من بني إسرائيل سيقوض ملكه، قام بأبشع عملية إبادة جماعية منهجية: "يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ". لقد فعل كل ما يمكن لبشر أن يفعله ليمنع قدر الله، وسد كل الثغرات، وأحكم السيطرة على كل شيء.
  1. الخطة الإلهية: صناعة النصر في قلب الهزيمة

وهنا يتجلى مكر الله الذي لا يُغلب. فالله لم يُنشئ موسى في صحراء بعيدة أو في كنف أسرة ثائرة، بل فعل ما لا يخطر على بال بشر. لقد جعل قلب الطاغية نفسه هو الحاضنة التي سترعى هذا الغلام. يقول تعالى واصفاً المشهد بعبقرية إلهية: "فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" (القصص: 8).
تأمل في عمق هذه الآية. إنهم لم يلتقطوه ليكون لهم ابناً، بل التقطوه في حقيقة الأمر "ليكون لهم عدواً وحزناً". لقد أجبر الله فرعون، بكل جبروته، على أن ينفق من ماله، ويوفر من حمايته، ويهيئ في قصره، البيئة المثالية لنمو وتربية الشخص الوحيد الذي سيقضي على ملكه. وكأن الله يقول له: "بعد أن قتلت آلاف الأطفال خوفاً من النبوءة، ها أنا ذا أُنشئ صاحب هذه النبوءة تحت عينك وفي بيتك، فأرني ماذا أنت صانع". إنها ليست مجرد هزيمة لفرعون، بل هي إذلال كامل لمنطقه وسلطته.
  1. القرآن في قصور الطواغيت: تكرار المعجزة

إن ما حدث مع موسى، تكرر بحذافيره مع القرآن.
• طواغيت الأمة وكهنتهم: لقد قام طواغيت بني أمية ومن بعدهم، ومعهم كهنوت البلاط، بنفس دور فرعون. لقد أرادوا ديناً يخدم ملكهم، فقتلوا أبناء الوحي (آل البيت وأخيار الصحابة)، وذبحوا معاني القرآن بتفاسيرهم الباطلة، وأخفوا نوره برواياتهم المظلمة. لقد أحكموا السيطرة على كل شيء: المال، والجيش، والقضاء، ومنابر المساجد.
• عجزهم أمام النص: لكنهم وقفوا عاجزين أمام شيء واحد: النص القرآني نفسه. لقد كان نوره أعظم من أن يُطفأ، وحفظه في صدور الأمة أوسع من أن يُمحى، وتواتره بين الأقطار أقوى من أن يُبدل.
• المكر الإلهي: فماذا فعلوا؟ لقد فعلوا تماماً ما فعله فرعون. أُجبروا على "التقاط" القرآن. فلكي يحافظوا على شرعيتهم كـ "خلفاء المسلمين"، أُجبروا على تبني القرآن ظاهرياً. لقد داهنوا القرآن، فزينوا مصاحفه بالذهب، ووظفوا القراء لقراءته، وبنوا له المساجد، وتباهوا بحفظهم له. لقد أنفقوا من أموال الأمة على طباعة الكتاب الذي يلعنهم في كل صفحة ويصفهم بالطواغيت والمترفين والظالمين. لقد رعوا بأيديهم الحجة التي ستكون عليهم "عدواً وحزناً" يوم القيامة. وكشفا في الدنيا .
فحين نتساءل اليوم بدهشة: كيف يمكن لطاغوت أن يبني مسجداً، أو يطبع مصاحفا، والقرآن يفضحهما؟ فالجواب ليس في حمقهما، بل في قدرة الله الذي يُسخّر أعداءه لخدمة دينه، ويجعل من مكرهم سبباً في حفظ حجته عليهم.
إن بقاء القرآن ناصعاً وسط هذا الركام الهائل من التحريف، ليس دليلاً على صلاح تلك الطبقات التراثية عبر القرون، بل هو على العكس تماماً، إنه دليل علي حفظ الله المباشر لكتابه من جهه وعلى كونه سببا لهدم الباطل من جهة أخرى من موضع لا يستطيعون سده وليس لهم طاقة بتحويله و ، ليكون شاهداً علي من خالفه، وليكون هو المنارة التي يعود إليها من أراد النجاة في كل زمان ومكان.

سجل المراجعات