عودة المسلمين لميقات رب العالمين

أتدعون بعلا و تذرون أحسن الخالقين

إن هناك لطيفةٍ قرآنية تهدم عروشًا من الفهم السطحي، وتكشف عن عمق الإعجاز في كتاب الله، ليس فقط في معناه، بل في مبناه وإيقاعه الصوتي.
إن وصف للبعل بأنه مجرد "سيد منعم" قاصر بينما ارتباط "البعولة" بمركب "البور" و"العلة" فهو الغوص الحقيقي الذي يكشف عن سر الكلمة وطبيعة الداء الذي تصفه. إنها لحقيقةٌ أن هذه الحضارات القمعية ليست مجرد "ذكورية"، بل هي حضارات "بعولية"؛ فالوصف أدق وأعمق وأشد إيلامًا.

دعنا يا أخي نأخذ هذا النور الذي وهبنا الله إيه في كتابه ، ليكون بنيانًا مرصوصا ، وحجةً تكشف زيف كل "بعل" يُعبد من دون الله.



المثال الثالث: "الزوج" و"البعل" - من ميثاق الحياة إلى عبادة "البور والعلة"

حين نصل إلى قول الله تعالى على لسان نبيه إلياس: ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾، يقف المفسر التقليدي عند حدود الجغرافيا، فيقول لك إن "بعل" اسم صنم، وتنتهي القصة. ولكنه حين يفعل ذلك، فإنه يقتل الآية ويحنطها في متحف التاريخ.

أما حين نعود إلى القرآن نفسه لنسأله عن معنى "البعل"، نكتشف تمييزًا دقيقًا بينه وبين "الزوج". "الزوج" هو الشريك في علاقة حية، مكتملة، قائمة على السكن والمودة والرحمة، وهدفها الإحصان والإنجاب. أما "البعل"، فلم يأتِ في القرآن إلا لوصف زوجٍ انقطعت عنه هذه الوظيفة الحيوية إما لكبر سن (﴿وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾) أو لطلاق معلق (﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾). إنه السيد بموجب العقد، لكنه سيدٌ فاقد للخصوبة والحياة.

وهنا يأتي الفتح الذي تفضلت به، والذي يكشف الإعجاز في جرس الكلمة نفسها. فكأن لفظ "بعولة" يفضح سره بنفسه، فهو مركب من:

"البُور" (Barrenness) + "العِلَّة" (Ailment) = بَعُولَة

  • البُور: هو الجدب والعقم، والأرض التي لا تُنبت.
  • العِلَّة: هي السقم والمرض، والعبء الذي يثقل القلب والنفس.

فالبعل، في حقيقته النفسية والوظيفية، هو "أرض بور" لا تثمر حياة ولا سكينة، وهو "علة على القلب" لا يجد فيه شريكه إلا العنت والمشقة. إنه سيدٌ يفرض سلطته ويطالب بحقوقه، لكنه عقيمٌ عن أداء مسؤولياته الحقيقية.

1. "البعل" في الأسرة: السيد العقيم

في نطاق الأسرة، "البعل" هو ذلك الرجل الذي يتمسك بميثاق الزوجية كسلطة، لا كمسؤولية. إنه لا يمارس النكاح الكامل الذي فيه السكن والمودة، بل هو معطل عن ذلك. هو لا يعف زوجته حقيقةً، ولا يحصنها واقعًا، بل هي تشتاق لزوجٍ يضمها ويرعاها، ولحبٍ يحتويها. إنه يعطيها نفقتها بالمنة وهو كاره، وتطيعه وهي لا تطيق النظر إليه. طاعته "علة" على قلبها، وعلاقته بها "بور" لا تثمر إلا الشقاق والنفور.

2. "البعل" في المجتمع: الدولة المتبعلة

وهنا يتسع المعنى ليصبح تشخيصًا مرعبًا لحال الأمم. إن الحضارات القمعية هي حضارات "بعولية". إنها "الدولة المتبعلة" التي تدّعي حقها الأزلي في السلطة والجباية، وتفرض قوانينها القاهرة على الناس، لكنها عقيمة عن أداء مسؤولياتها.

  • هي كالإقطاعي الغاشم الذي يجبي من الناس الضرائب الباهظة ويستعبدهم في أرضهم، ثم إذا استغاث به ملهوف لا يجيره، أو استنصره مظلوم لا ينصره.
  • هي الدولة التي تنفق أموال الأمة على "بعولتها الزائفة" من زخرف القصور، وبهرج المواكب، وأسلحة القمع، لكنها عقيمة وبور في أداء واجباتها الحقيقية تجاه رعيتها: فلا تعليم ينمي العقول، ولا صحة تحفظ الأبدان، ولا إنماء يبني الأوطان، ولا بحث علمي يضمن المستقبل.

3. الشرك الأعظم: عبادة "البعل" وترك "أحسن الخالقين"

الآن، تتجلى الآية في كامل قوتها. إن قوم إلياس، ومن تبعهم من الأمم البعولية، لم يكونوا يعبدون حجرًا، بل كانوا يعبدون هذا المبدأ: مبدأ "السلطة العقيمة". لقد قبلوا الخضوع لدساتير وأنظمة "بعولية" بور، هي "علة" على قلوبهم وحياتهم، وتركوها تفرض عليهم قوانينها وجباياتها.

لقد فعلوا ذلك، وتركوا عبادة ﴿أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾. تركوا الخالق الذي من صفاته الخلق، والإبداع، والرزق، والإنماء، والخصوبة، والحياة. تركوا من يرسل السماء مدرارًا، ويخرج الحب والنوى، وينبت الزرع والزيتون والنخيل.

إنها المفارقة الأزلية: أن تترك الأمة عبادة الإله الحي الخالق الرازق، لتخضع لعبادة نظام "بعلي" ميت، عقيم، لا يعطي إلا بالمنة، ولا يأخذ إلا بالقهر، وهو علة على وجودها كله. فسبحان من كشف لنا هذا الداء العميق في كلمة واحدة، وجعل في تدبر كتابه شفاءً لما في الصدور.

سجل المراجعات