النتيجة الحتمية من نسيان الذكر إلى نار العداوة
بعد أن كشفنا كيف أن نقض الميثاق العملي يؤدي إلى اللعنة وقسوة القلب، وكيف أن القلب القاسي يلجأ إلى تحريف كلام الله، يأتي القرآن ليكمل لنا الصورة، ويكشف عن العاقبة الاجتماعية الكارثية لهذا التحريف في الآية التي تليها مباشرة، والتي تحكي قصة النصارى الذين سلكوا نفس الطريق:
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 14].
هنا تتجلى سنة الله في أوضح صورها. إنها سلسلة من السقوط لا تتخلف:
- السبب (نسيان الذكر): ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾. إن نتيجة التحريف الحتمية هي "النسيان". وهذا ليس نسيان الذاكرة، بل هو نسيان المنهج وضياع البصيرة. حين يُهجر الأصل الإلهي الصافي (القرآن)، ويُستبدل به خليط من أقوال الرجال ورواياتهم المتناقضة وتأويلاتهم التي تخدم أهواءهم، فإن الأمة تفقد "حظها" من الذكر الحكيم، وتضيع منها بوصلة الحق.
- الفوضى (حكم الأهواء): وماذا يحدث حين يغيب المرجع الواحد المحفوظ؟ لا يبقى إلا أهواء الناس ومشاربهم ووجهات نظرهم التي لا تنتهي اختلافاتُها. يتحول الدين من الاستسلام لله وحده، إلى الاستسلام لـ"فلان" و"علان"، وإلى تقديس المذاهب والأحزاب والطوائف. يصبح لكل فرقة "صنمها" الفكري الذي تعكف عليه، وتظن أنه الحق المطلق.
- النتيجة (العداوة والبغضاء): وهنا تأتي العقوبة الاجتماعية الحتمية التي هي من صنع أيديهم، ولكنها سنة من سنن الله في خلقه: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾. إن الاختلاف والتفرق والشقاق ليس مجرد نتيجة طبيعية، بل هو عقوبة إلهية يسلطها الله على من تركوا حبله المتين وتفرقوا في أودية الأهواء.
وهذا يا صديقي ليس مجرد قصة عن النصارى، بل هو تشخيص دقيق لحال أمتنا. إنه واقع كل أهل المذاهب البشرية المختلفة، لو كنتم تعلمون. كل فرقة تظن أنها تحتكر الحق، وتضلل الأخرى، وتكفرها، فاشتعلت بينهم نيران العداوة والبغضاء التي لم تنطفئ إلى يومنا هذا، ولن تنطفئ ما داموا على هذا المنهج.
أرأيت يا أخي كيف أن البداية كانت مجرد "نقض ميثاق عملي" يسفّهون منه ويقولون "الإيمان في القلب"، فانتهت بهم السلسلة إلى اللعنة، ثم قسوة القلب، ثم تحريف الكلم، ثم نسيان الذكر، ثم حكم الهوى، ثم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة؟
إنه الفساد المتكامل، وخراب الدنيا قبل خراب الآخرة، وما كان كل ذلك إلا لأنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهريا.
الفصل (...): أصحاب السبت والإصرار على المخالفة
مقدمة: حين تُهدم الأعذار
في رحلتنا لكشف طبقات التحريف التي رانت على دين الله، نصل إلى قصة قرآنية تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها في عمقها معول هدم لأكبر مغالطتين قام عليهما فقه التراث: الأولى هي عذرهم الواهي بأن المعصية لا تخرج من الملة ما لم يصاحبها "استحلال قلبي"، والثانية هي جرأتهم على إصدار أحكام التكفير واللعن على من خالفهم.
إن قصة "أصحاب السبت" هي دراسة الحالة التي يقدمها القرآن بنفسه، ليعلمنا درساً مزدوجاً: خطورة الإصرار على الفعل المحرم، وفي نفس الوقت، قدسية حق الله الخالص في الحكم على عباده.
- الجريمة: "الاعتداء" لا "الاستحلال"
حين نتدبر الآيات التي حكت قصة هؤلاء القوم، نجد أن القرآن دقيق وحاسم في تحديد طبيعة جريمتهم. يقول الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: 65].
﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ...﴾ [الأعراف: 163].
إن الكلمة المفتاح هنا هي "الاعتداء". لم يقل القرآن "الذين استحلوا السبت"، بل قال "الذين اعتدوا". إن جريمتهم لم تكن تغييراً في العقيدة أو جحوداً للحكم، بل كانت تحايلاً على الحكم وإصراراً على انتهاكه بالفعل. لقد كانوا يعلمون أن الصيد محرم، ولكنهم نصبوا شباكهم يوم الجمعة ليحتالوا على أمر الله، فكانت جريمتهم هي فعل المعصية مع الإصرار والتحايل.
وهذا يهدم من أساسه فكرة "الاستحلال القلبي" التي ابتدعها فقهاء الإرجاء. فها هم أصحاب السبت، لم يستحلوا شيئاً، بل كل جريمتهم هي "الاعتداء" العملي، فكانت العقوبة الإلهية مباشرة وقاسية:
﴿...فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: 65].
﴿...أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [النساء: 47].
إن الله لم ينتظر منهم أن يعلنوا أن الصيد حلال، بل عاقبهم ولعنهم ومسخهم جزاءً وفاقاً على مجرد فعل الاعتداء والإصرار عليه. وهذا يثبت أن السيئة التي تحيط بصاحبها، والفعل الذي يصر عليه العاصي، هو بحد ذاته موجب للعقوبة الشديدة في منطق القرآن، دون الحاجة إلى البحث والتنقيب في قلبه عن "نيّة الاستحلال".
- الحكم: الحق الإلهي باقٍ رغم اللعنة
وهنا نصل إلى النقطة الأعمق والأكثر إعجازاً في هذه القصة، والتي تكشف عن قدسية حق الله في الحكم.
بعد هذه الجريمة، وهذا الاعتداء الصريح، وبعد أن نزلت عليهم العقوبة الدنيوية المباشرة بالمسخ واللعن، قد نتوقع أن يكون هذا هو الحكم النهائي عليهم. لكن، انظر أيها المتدبر بعين قلبك إلى ما يقوله الله في موضع آخر وهو يذكر قصتهم:
﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: 124].
سبحان الله! يا للعظمة! يا للحكمة! حتى بعد أن لعنهم ومسخهم في الدنيا، وحتى بعد أن صارت قصتهم عبرة للأمم، يظل الله يؤكد أن الحكم النهائي والفصل الأخير بينهم سيكون يوم القيامة.
إن هذه الآية وحدها تنسف كل فقه التكفير الذي بناه المتأخرون. فإذا كان الله نفسه، صاحب الحق، الذي أنزل العقوبة واللعنة، لا يزال يكل الحكم النهائي في مصيرهم إلى يوم القيامة، فبأي حق، وبأي جرأة، وبأي سلطان، يتعدى فقهاء المذاهب على هذا الحق الإلهي، فيصدرون أحكام التكفير النهائية، ويوزعون صكوك الجنة والنار على من خالفهم في فرع أو أصل؟
إذا كان مصير "أصحاب السبت" الملعونين لا يزال موكولاً لحكم الله يوم القيامة، فكيف يتجرأون على الحكم على مصير مسلم شهد أن لا إله إلا الله لمجرد أنه ترك صلاة أو ارتكب معصية أو خالفهم في رأي؟
خاتمة: دروس من السبت
إن قصة أصحاب السبت ليست مجرد تاريخ، بل هي منهج كامل يُستخلص منه درسان عظيمان:
- خطورة الإصرار على المعصية: إن التحايل على أوامر الله، والإصرار على انتهاك حدوده، هو "اعتداء" وجريمة كبرى في ميزان القرآن، تستوجب العقوبة بغض النظر عن أي شروط "استحلال" قلبية اخترعها المرجئة لتبرير الفساد.
- قدسية حق الله في الحكم: إن الحكم على مصائر الفرق والأفراد هو حق إلهي خالص، لا يجوز لمخلوق أن ينازع الله فيه. حتى مع أشد الملعونين في القرآن، يظل الفصل النهائي لله وحده يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبهذا، نرى كيف أن العودة إلى القرآن تكشف لنا ديناً يقوم على ميزان دقيق: مسؤولية كاملة عن الفعل، وتواضع كامل أمام الحكم. وهو نقيض ما قدمه فقه التراث تماماً: تساهل في الفعل، وجرأة وقحة على الحكم.
نظرة عامة على الفرق من وجهة نظر دين الأنبياء
كيف نبدأ دعوتنا بالدعوة أم بالسياسة أم بالقتال
ان بداية الدعوة الي الله يجب أن تكون على منهج الانبياء و لذلك لو محصنا مسالك الفرق عرفنا اين نقطة الضعف و الفشل
محمد بن عبدالوهاب ركز على شرك الدعاء فاستغله ابن سعود الذي تحالف مع البرطانيين ضد بقايا العثمانين الصوفية و استطاع تحشيد اخوان من اطاع الله باسم التطهر من الشرك الذي حصر معناه في معاني الاستعانة و الدعاء والتوجه
وهذا لانه كان منتشر عند العثمانين وذريعة للحربهم لكن لم يتم التطرق لا لشرك الحكم ولا لشرك التشريع بالطبع