عودة المسلمين لميقات رب العالمين

كل داعية مجدد إنما جاء وكل الناس لقد جئت بما لا نعرفه عن الأوليين

إن كلمة ( ماسمعنا بهذا في الملة الأخرة إن هذا إلا اختلاق ) كلمة متكررة ليس مع الرسل فقط بل نجدها سنة في حال كل المصلحيين المجددين الذين تغير بجهودهم وجه التاريخ
فهذا مارتن لوثر الداعية المجدد الشهير الاب المؤسس للطائفة اللبروتساتنية المسيحة ..هذا الرجل كان أول من نادى بإلغاء وصاية الطبقة الكهنوتية و طالب الناس لفهم الانجيل بأنفسهم و التقرب من الله دون وسائط و فهم أوامره دون وصيات
لقد كان ما جاء به في عصر نوع من الثورة على الاجماع المطبق من مئات السنين فاتهم بالهرطقة و التجديف و الكفر و الألحاد ورغم عن ان ما جاء من افكار كانت تعد في عصره شيء غريب و مستهجن و مخالف للاجماع المطبق
إلا ان ثورته واربت الباب للعقل الأوربي للبدأ بإعمال عقله رويدا رويدا فنستطيع أن نقول أن اللوثرية و الانجيلية مهدت الطريق لحقبة التنوير الأوربية و كانت أو معول فتح السدود أم روافده
فثورته ضد الظلامية التراثية و ضد احتكار طبقة الأحبار و الرهبان و الكهنة بفهم الدين أدت إلى تغير جذري في وعي الأمة الأروبية فعلى الرغم لندرة النصوص الناجية عن المسيح عليه السلام واحاطتها بحشو و توجيهات لا حصر لها إلا أن مرحلة كسر احتكار الفهم و الوصاية و الأجماع في حد ذاتها كانت مرحلة ايجابية و صحية أدت لتحول تدريجي نحو النور
اننا لو نظرنا لابراهيم عليه السلام و محمد صلى الله عليه وسلم و المسيح كلهم جائوا بما ينقض إجماع قومهم و نجد ذلك كله في دعوات الرسل بلا استثناء من لدن نوح حتى خاتمهم محمد مرورا بهود وصالح و يونس و موسى و عيسى عليهم السلام
إن الأمر لم يقتصر عليهم بل هذا سقراط الذي مات مسموما لان العامة لم يطيقوا أن يوجد من يخالف اجماع جهلتهم و كبرائهم و سفهائهم ..
رغم أن سقراط كان الأب الروحي للنهضة اليونانية الأولي فما أفلاطون ثم أرسطوا ثم ظاهرة الأسكندر الأكبر التي امتلأ بها العالم إلا نتاج افكار ذلك الرجل سقراط التي جاءه الهام النور وهو في غايب السجون و الاضطهاد مخالفا لأجماع كل من سبقه
وستجد أن كل الحركات التجديدية داخل الاسلام نفسي كانت مسبوقة بمعارضة شديدة من ادعياء الاجماع و محتكري الفهم

سُنّة المجددين - حين يُتهم النور بالبدعة
إن التاريخ البشري، في أصفى لحظاته وأكثرها إشراقاً، يحكي قصة واحدة متكررة: قصة الفرد أو القلة المؤمنة التي تقف في وجه إجماع راسخ، حاملةً مصباح فكرة جديدة، فتُقابل بالاتهام الأزلي الذي ردده كل قومٍ على رسلهم: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾.
إن "الإجماع" لم يكن يوماً حجة للحق، بل كان في أغلب الأحيان سيفاً مُصلتاً على رقاب المجددين، وسوراً عالياً بناه أهل التقليد ليحموا به قلاع جهلهم وامتيازاتهم. وهذه السُّنّة الكونية لا تقتصر على ميدان الدين فحسب، بل تجري في أروقة الفلسفة ومختبرات العلم على حد سواء، لتثبت أن نور الله غالب، وأن الحقيقة لا بد أن تشق طريقها مهما كانت طبقات الظلام متينة.
أولاً: التجديد في الدين - ثورة ضد الوسائط والوصاية
لم تكن دعوات الرسل، من لدن نوح حتى خاتمهم محمد عليهم السلام، إلا ثورة على إجماع أقوامهم المنحرف. لقد جاء كل نبي ليعيد الناس إلى التوحيد الخالص، وليكسر أصنام التقليد والآباء والكهنة.
وفي سياق تاريخي مختلف، نجد صدى هذه الدعوة يتردد في صرخة مارتن لوثر في أوروبا القرن السادس عشر. هذا الرجل، الذي يُعد الأب المؤسس للإصلاح البروتستانتي، لم يأتِ بدين جديد، بل دعا إلى ثورة على الإجماع الكنسي المطبق لمئات السنين. كان أول من نادى بإلغاء وصاية الطبقة الكهنوتية، وطالب بأن يقرأ كل إنسان الإنجيل بنفسه، وأن يتقرب إلى الله مباشرة دون وسائط أو صكوك غفران. لقد اتُّهم بالهرطقة والتجديف والكفر، واعتُبر ما جاء به خروجاً على "إجماع الآباء القديسين"، لكن ثورته فتحت الباب على مصراعيه للعقل الأوروبي ليبدأ بالتحرر، ومهدت الطريق لعصر التنوير الذي غير وجه العالم.
ثانياً: التجديد في الفكر - ثمن الحكمة في وجه إجماع العامة
لم تقتصر هذه السُّنّة على الأنبياء وحدهم، بل جرت على كل من حمل مصباح العقل ليضيء ظلمات الجهل والتقليد.
• سقراط في أثينا، لم يرتكب جرماً سوى أنه كان يمشي في الأسواق يسأل الناس: "ما هو العدل؟ ما هي الفضيلة؟"، محاولاً إيقاظ عقولهم من سبات المسلّمات. فماذا كان جزاؤه من أصحاب "الإجماع"؟ اتُّهم بإفساد الشباب وإنكار آلهة المدينة، وحكم عليه بتجرع السم. لكن تلك الأفكار التي مات من أجلها أصبحت هي الأساس الذي قامت عليه النهضة اليونانية بأكملها؛ فما أفلاطون، ثم أرسطو، ثم ظاهرة الإسكندر الأكبر التي غيرت خريطة العالم القديم، إلا نتاج ذلك الرجل الذي خالف إجماع جهلة قومه.
• ابن رشد في قرطبة، حين حاول التوفيق بين حكمة الفلسفة ونور الشريعة، وتنقية الدين من خرافات المتكلمين، اتُّهم بالزندقة والكفر، وأُحرقت كتبه ونُفي، لا لشيء إلا لأنه خالف إجماع الفقهاء الجامدين في عصره. لكن أفكاره هي التي انتقلت إلى أوروبا وأشعلت فتيل عصر النهضة هناك، بينما بقينا نحن نعيش في ظلام الفقه الذي حاربه.
ثالثاً: التجديد في العلم - معركة البرهان ضد إجماع الجهل
وحتى في ميدان العلم المادي المحسوس، حيث يُفترض أن يحكم البرهان لا التقليد، نجد ذات المعركة تتكرر بضراوة أشد.
• ففي أوروبا، حين خالف كوبرنيكوس الإجماع البشري القائم لآلاف السنين بأن الأرض مركز الكون، اعتُبرت فكرته مجرد هذيان. وحين جهر بها جوردانو برونو، أُحرق حياً. وحين أثبتها جاليليو جاليلي بمنظاره، أُجبر وهو شيخ كبير على أن يركع وينكر الحقيقة التي رآها بعينيه، وقضى بقية حياته سجيناً.
• وعندما جاء ألبرت أينشتاين بنظريته النسبية التي نسفت مفاهيم نيوتن المقدسة عن الزمان والمكان، قوبل في بداياته بالرفض والسخرية من كبار علماء الفيزياء التقليديين الذين اتهموه بالخيال الشاطح.
• بل إن العالم الذي نعيشه اليوم، المضاء بالكهرباء، مدين لعبقري اتُّهم بالجنون. كان نيكولا تسلا صاحب نظرية "التيار المتردد"، وفي عصره كان الإجماع العلمي مع "التيار المستمر" الذي تبناه إديسون. لقد حورب تسلا بضراوة، وصُوّرت أفكاره على أنها خرافة خطيرة. ولولا انتصار فكرته "المجنونة"، لكنا إلى اليوم نعيش في شبه ظلام، لأن التيار المستمر أضعف من أن ينير مدناً ويقيم حضارة.
• وعندما طرح العالم الألماني ألفريد فيغنر نظريته عن "الانجراف القاري"، مقترحاً أن قارات العالم كانت يوماً ما كتلة واحدة عملاقة (بانجيا) ثم بدأت تتزحزح مبتعدة عن بعضها، قوبلت فكرته بسخرية وازدراء من "الإجماع" الجيولوجي العالمي. لقد اتُهم بالهذيان والجهل، لا لشيء إلا لأنه لم يستطع تقديم الآلية التي تحرك هذه القارات الهائلة. ظل فيغنر منبوذاً علمياً، ومات متجمداً في رحلة استكشافية في جرينلاند وهو يحاول جمع المزيد من الأدلة على نظريته "المجنونة". لم يتم إثبات صحة فكرته الثورية إلا بعد وفاته بعقود، مع اكتشاف نظرية "الصفائح التكتونية" التي قدمت التفسير الذي كان ينقصه. لقد كان رجلاً واحداً على حق في مواجهة إجماع كامل من المتخصصين كان على باطل.
خاتمة: النور يغلب الظلام
من محراب الدين، إلى رواق الفلسفة، إلى مختبر العلم، تتكرر القصة ذاتها: يأتي النور فيبدو غريباً، وتُعرض الحقيقة فتبدو بدعة، ويُطرح التجديد فيُقابل بالاتهام بمخالفة إجماع الأولين.
فلا تجعل، يا أخي الباحث عن الحق، من غرابة فكرةٍ ما أو مخالفتها للمألوف حجةً عليها. فكثير من الحقائق التي نعيش ببركتها اليوم، كانت في زمنها هرطقات يُعاقب عليها بالقتل أو السجن أو النبذ. إن جهلنا بمن سبقنا إلى الفهم لا يعني أنه لم يسبقنا أحد، وتقاعسنا عن إدراك الحقيقة لا ينفي وجودها.
إنها سُنة الله في صراع الحق والباطل، صراع النور والظلام، وهي الحقيقة التي يصدح بها القرآن عالياً:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.

القسم الرابع : البناء بعد الهدم !

مقدمة: لقد هدمنا كل شيء، فماذا نبني؟
إن الفصول التي مضت كانت بمثابة رحلة تشخيصية مؤلمة. نظرنا فيها إلى واقع أمتنا فوجدناه جسدًا مريضًا، هزيلًا، وضعيفًا. ثم تعمقنا في البحث عن موضع الخلل، فشخصنا المرض في أعمق جزء من وعي أي أمة: مصدر تشريعها وإلهامها. لقد تعلمنا كيف نهدم الباطل، لكن السؤال الأعظم يطرح نفسه الآن بإلحاح: كيف نبني عالمنا على الحق؟
لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد أن ندرك موقعنا على خريطة الأمم. فالتاريخ يقدم لنا ثلاثة نماذج لا رابع لها:

  1. أمم ربحت الدنيا وخسرت الآخرة: هي تلك التي جعلت العقل في أمورها العاجلة هو المرجع، وأقصت الإلهيات إلى الشأن الخاص، وأخلصت عالمها لمصالحها المادية وفق ما تراه الأغلبية. فإن رشدت تلك الأغلبية، رشدوا، وإن ضلت، ضلوا. هؤلاء هم الذين قال فيهم الله:

﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾. قد يعلو شأنهم في الدنيا، لكن إنسانهم يظل في كبد وهلع، ونفوسهم خراب، وأموالهم وأولادهم عذاب عليهم.
  1. أمم ربحت الدنيا والآخرة: هي فئات مؤمنة مخلصة، اجتمع لديها العقل الصحيح والقلب السليم، فنالوا حسنة الدنيا وحسن ثواب الآخرة. إنهم أمثلة متكررة في التاريخ، من لدن نوح ومن معه الذين استخلفهم الله في الأرض، مرورًا بمملكة داود وسليمان، وصولًا إلى محمد رسول الله والذين معه، الذين أقاموا أربعين سنة من الرشد والعدل والقسط. إنها تلك اللحظة الكبرى التي يتلاقى فيها العلم الرباني مع الروح الإلهي، فينتج أعظم مخلوقات الله: نفوس مطمئنة، مؤمنة، ومستسلمة.
  2. أمم خسرت الدنيا والآخرة: هي تلك التي لم تحكّم العقل في دنياها، ولا الدين الحق في آخرتها. فعاشت في عالم موازٍ، غارقة في أوهام قرون مضت، فلا هي كسبت حسنة الدنيا، ولا هي مهّدت لحسنة الآخرة. وذلك هو الخسران المبين.

إن حال أمتنا اليوم، للأسف، يضعنا في الفئة الثالثة. فالشقاق والضعف والمكوث في الضلال لأحقاب طويلة ليس ابتلاء تمحيص يسبق النصر، بل هو نوع من العذاب المستمر الذي يجلبه ابتعادنا عن سنن الله. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس هناك فئة رابعة؛ فالجنة لها ريح وروح تغمر أهلها في الدنيا قبل الآخرة، والنار لها فحيح يلفح أهلها في عاجلتهم قبل آجلتهم. لذلك صدق من قال: "في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". إنها جنة الاستسلام الكامل لله.

سجل المراجعات