الفصل السابع: عجل السامري وخوار الطاغوت - قراءة نقدية لشخصية علي بن أبي طالب التراثية
--
الكتاب الثاني: قراءة الفتنة الكبرى بنور القرآن
الفصل السابع (المُعمَّق): عجل السامري وخوار الطاغوت - تشريح الصنم الأكبر
مقدمة: الاقتراب من الصنم المحترق
إننا نقترب الآن من منطقة محرمة في دين التراث، منطقة ملغومة بالأساطير والتقديس، منطقة من يمسها يُتهم بالزندقة والضلال. إنها شخصية "علي بن أبي طالب" التي حولتها الأمة، بفرقها المتصارعة، إلى أعظم وثن بشري عُبد من دون الله أو مع الله.
قبل أن نبدأ، يجب أن نضع ميثاقنا واضحًا: نحن هنا لا نحاكم شخصًا تاريخيًا مات وأفضى إلى ما قدم، فالله وحده حسيبه وعالم بسريرته. بل نقوم بعملية "تشريح" للشخصية التي صورتها لنا "كتب التراث" نفسها، لنعرض أفعالها ومنهجها المروي على ميزان القرآن الصافي. إن ولاءنا ليس للرجال، مهما علت أسماؤهم وأنسابهم، بل ولاؤنا لله وحده ولكتابه. فبنور القرآن وحده سندخل هذا الحقل من الألغام، سائلين الله السلامة.
1. صناعة الأسطورة: وثنٌ من ذهب على خواء
لكي تتم عبادة صنم، لا بد أولاً من صناعته وتزيينه بالذهب. ولقد صُنع من شخصية علي التراثية بطل أسطوري، لا يُشق له غبار. ولكن عند تمحيص هذه الأساطير الذهبية، نجدها تتهاوى كبيت من ورق:
- أسطورة خيبر ونسب الفضل لغير الله: يروون حديث "لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله..." لينسبوا فضل فتح خيبر لشجاعة رجل واحد. وهذا بحد ذاته صدٌّ عن سبيل الله، لأنه ينسب الفضل لغير صاحبه الحقيقي. القرآن يخبرنا أن سر النصر في معارك بني النضير وخيبر كان إلهيًا بحتًا: ﴿...وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ (الأحزاب: 26). لقد كان الرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو سبب النصر، وهو فضل وإنعام على "المؤمنين" كجماعة، لا بطولة فردية لرجل واحد. إن اختلاق هذه الروايات هو محاولة شركية خفية لصرف الحمد والشكر من الله إلى المخلوق.
- أسطورة فارس الفرسان: يصورونه شابًا يافعًا في أوائل العشرينيات يصرع عتاولة فرسان الجاهلية كعمر بن ود. إنها قصص ذات حبكة هوليوودية، هدفها صنع أيقونة، لا نقل حقيقة.
- لغز تبوك وعقلية الجاهلية: إن سيرة الرجل التراثية مليئة بالمواقف التي تكشف عن غربته عن روح المشروع المحمدي.
- الغياب عن تبوك: إن تخلف قائد محوري مزعوم عن أخطر وأهم معركة في تاريخ النبي أمر لا يمكن تفسيره. واختلاق حديث "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" هو محاولة بائسة لتحويل هذا الغياب المحرج إلى وسام شرف، وذريعة للمطالبة بالإمامة فيما بعد.
- الزواج من ابنة أبي جهل: الأمر أعمق من مجرد طلب شخصي. الروايات تشير إلى أن قريشًا عرضت الأمر كجزء من "بروتوكول صلح" قبلي، وأن عليًا "شبّط" (تشبث وتعلق) بالفكرة. هذا يكشف عن عقلية لا تزال تفكر بمنطق "الجاهلية" وصراعات القبائل (بنو هاشم ضد بني مخزوم)، لا بمنطق "الإيمان والكفر". إن غضب النبي الشديد وصعوده للمنبر، كما تروي القصة، يثبت أن عليًا لم يقتنع بالإشارة أو التوجيه الشخصي، مما اضطر النبي لإعلان الأمر كحكم رسالي عام.
- زمن الفتوحات الكبرى: القعود في البساتين: ثم يأتي البرهان القاطع. في زمن أبي بكر وعمر، انطلقت جيوش المسلمين تغير وجه الأرض بقيادة خالد وأبي عبيدة وسعد وغيرهم. فأين كان "أسد الله الغالب"؟ لقد كان "قاعدًا" في المدينة يرعى بساتينه، غائبًا تمامًا عن كل المعارك المفصلية التي بنت صرح دولة الإسلام.
2. ليلة سقوط المدينة: تشريح لحظة الانقلاب
لكي نفهم الفتنة، يجب أن نعود إلى اللحظة التي سقطت فيها كل الحرمات، لحظة مقتل الخليفة عثمان. في تلك اللحظة، لم يُقتل رجل، بل قُتلت "الشرعية"، وهُدم "الميثاق"، وانفرط "عقد الأمة".
- كيمياء الخيانة (حين تلتقي رغبة القاتل بهوى الإمام): قد يتساءل العاقل: كيف يمكن تفسير المشهد السريالي الذي حدث؟ فئة من القتلة يسيطرون على المدينة، ثم فجأة، يبايعون رجلاً من كبار أهل البيت، فيقبل هو البيعة منهم! الحقيقة، التي لا يريدون لأحد أن يراها، أبسط وأكثر إيلامًا. لقد كانت لحظة التقاء رغبتين شيطانيتين:
- رغبة القتلة: ارتكبوا جريمة عظمى، ونهبوا بيت مال المسلمين. كانت حاجتهم ماسة إلى "غطاء شرعي"، إلى اسم كبير من أهل البيت يختبئون خلفه ويحولهم من "مجرمين" إلى "ثوار".
- رغبة علي الدفينة: وفي المقابل، كانت هناك "رغبة دفينة" في قلب علي، كتمها لسنين، وهي حلمه بالسلطة والبيعة، وما كان يراه "حقه" في الخلافة. لقد رأى في هذه الفوضى الفرصة الذهبية لتحقيق حلمه.
لقد "تلاقت الرغبتان". القتلة بحاجة إلى "شرعية" علي، وعلي بحاجة إلى "سيوف" القتلة. لقد كان حلفًا غير مقدس، وصفقة تمت على دم الخليفة الشهيد.
- أسطورة الشورى: يزعم الرواة أن البيعة تمت بـ "الشورى". وهذا من أفجر الكذب:
- أين أهل الشورى؟ كبار الصحابة كانوا في الحج. المدينة كانت تحت سيطرة القتلة.
- من بايع؟ من بقي من أهل المدينة، بايعوا تحت تهديد السيف. إنها "بيعة هارونية"، كبيعة بني إسرائيل لهارون حين استضعفوه وكادوا يقتلونه. ومن رفض منهم، كسعد بن أبي وقاص، اعتزل.
- كذبة عبد الرحمن بن عوف: يصل بهم الكذب إلى حد الزعم بأن عبد الرحمن بن عوف (مهندس شورى عثمان) قد بايع عليًا، وهو قد مات قبل هذه الأحداث بسنوات!
إن زعم "الشورى" ليس إلا محاولة بائسة لتغطية حقيقة ما جرى: لقد كان "انقلابًا عسكريًا" قامت به فئة باغية، ونصبت فيه رجلًا من أهل البيت واجهة لها.
3. عجل السامري وخوار الطاغوت
إن هذا الحلف المشؤوم لم يلبث أن كشر عن أنيابه. لقد كان أول قرار اتخذه هو الانقضاض بكل قوة على من يمثل الشرعية الحقيقية. لم يتجهوا إلى قتلة عثمان ليقتصوا منهم، بل اتجهوا بجيش قوامه هؤلاء القتلة، ليقاتلوا الحجيج وأهل مكة، وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير.
إن "حقه في البيعة" المزعوم، هذا الحلم الذي ظل يراوده، كان هو الصنم الأكبر الذي عبده من دون الله. إنه "حق جاهلي" قائم على العصبية والنسب، لا على الشورى. وحين جاءت الفرصة، قدم لهذا الصنم أكبر قربان: دماء الأمة ووحدتها.
لقد كان "السامري" (القتلة) بحاجة إلى "عجل" يجمعون الناس حوله. فوجدوا في "علي" ورغبته الدفينة أفضل مادة لصناعة هذا العجل. فصنعوه، وجعلوا له "خوارًا" من الشعارات، وقالوا هذا إلهكم، فمن لم يعبده قاتلناه.
خاتمة: التحرر من عبادة الرجال
إن هذه القراءة النقدية ليست دعوة لكره شخص، بل هي دعوة للتوحيد. دعوة لتحرير العقل من عبادة الأشخاص. حين نحطم هذا الصنم، نتحرر من الفرقة المقيتة بين "سنة" و "شيعة"، لأن كليهما قائم على تقديس هذا الرجل أو ذاك. ويعود ولاؤنا خالصًا لله وحده، ولمنهجه القويم: العدل، والشورى، وحرمة الدم.
1. بذرة الشك: بين ولاء العصبية وولاء الله
لكي نفهم أي شخصية، يجب أن نعود إلى جذورها. لقد رأينا في قصة بني هاشم كيف انقسموا في مكة إلى ثلاثة نماذج: نموذج "أبي لهب" الذي قدم كفره على عصبية الدم، ونموذج "أبي طالب" الذي قدم عصبية الدم على الإيمان بالله، ونموذج المؤمنين الصادقين الذين قدموا الله على كل شيء.
فأين تقع شخصية علي بن أبي طالب التراثية من هذا؟ لقد نشأ في حجر النبي، وكان أبوه هو الحامي الأول له حمية وعصبية. فلم يكن أمامه خيار آخر إلا الإسلام. ولكن السؤال الذي يطرحه العقل المتجرد: أي الروحين كانت غالبة عليه؟ هل هي روح محمد القائمة على التسليم لله وحده، أم روح أبيه أبي طالب القائمة على نصرة "ابن العم" حمية وعصبية؟
إن "العصبية"، أي الولاء للقبيلة والدم والنسب، هي وثن خفي. وإن تقديم هذا الولاء أو حتى إشراكه مع الولاء لله، هو البذرة التي يمكن أن ينمو منها أخطر أنواع النفاق، وهو ما حذر منه القرآن:
﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ... أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا...﴾ (التوبة: 24).
2. المحك العملي: تطبيق "الآية-الكاشفة" (البقرة 217)
لقد وضع الله لنا في كتابه ميزانًا دقيقًا، وآية كاشفة تفضح منهج المرتدين والمفسدين. هذه الآية تعدد قائمة بالجرائم العظمى: القتال في الشهر الحرام، والصد عن سبيل الله، والكفر بالله وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، والفتنة التي هي أكبر من القتل.
والآن، بكل تجرد، لنعرض أفعال "شخصية علي التراثية" بعد مقتل عثمان على هذا الميزان:
- هل تم انتهاك الحرمات؟ نعم، لقد قُتل الخليفة عثمان في بيته في المدينة في شهر حرام، ثم دارت رحى الحرب في معركة الجمل ضد أم المؤمنين وصحابة كرام كانوا حجيجًا في مكة.
- هل تم الصد عن سبيل الله؟ إن سبيل الله هو "الشورى" و"القصاص" للقاتل. فهل كانت الحرب ضد المطالبين بالقصاص إلا صدًا عن سبيل الله؟
- هل تم إخراج أهل الحرم منه؟ إن إجبار أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير على الخروج من حرم مكة لمواجهة جيش زاحف، أليس هذا "إخراجًا لأهله منه"؟
- هل كانت الفتنة أكبر من القتل؟ إن إشعال حرب أهلية أهلكت خيرة الأمة، وقتلت من أهل بدر والبيعة ما لم تقتله قريش في كل حروبها، لمجرد فرض "بيعة" لم تقم على شورى حقيقية... أليست هذه هي الفتنة التي هي أكبر من القتل؟
إننا لا نصدر حكمًا، بل نضع الأفعال المروية في ميزان القرآن، والتطابق بينها وبين ما حذرت منه الآية مرعب ودقيق.
3. الصورة النهائية: عجل السامري ذو الخوار
إن أصدق وصف لشخصية علي التراثية في تلك الفترة المظلمة هو ما وصفه القرآن في قصة السامري.
لقد كان قتلة عثمان هم "السامري" الجديد لهذه الأمة. لقد أخذوا "ذهب" قرابة علي من النبي وسابقته، وصنعوا منه "عجلاً جسدًا" ليكون إمامًا لهم.
﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ﴾ (طه: 88).
- جسدًا: له هيئة وشكل وتاريخ، ولكنه بلا روح ولا حكمة.
- له خوار: له صوت عالٍ، يردد الشعارات التي تلقنها له بطانته من القتلة والمنافقين. "قاتل الناكثين!" فيقاتل. "قاتل القاسطين!" فيقاتل. "اقبل بالتحكيم!" فيقبل. "ارفض التحكيم!" فيرفض.
لقد كان، كما يصوره تاريخهم، شخصية بلا إرادة حقيقية، يقودها "خوار" أتباعه، تمامًا كالعجل الذي ﴿أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾.
خاتمة: تحرير العقل من عبادة الرجال
إن هذه القراءة النقدية ليست دعوة لكره شخص، بل هي دعوة لتحرير العقل من عبادة الأشخاص. إنها دعوة للتوحيد.
حين نحطم هذا الصنم، نتحرر من الفرقة المقيتة بين "سنة" و "شيعة"، لأن كليهما قائم على تقديس هذا الرجل أو ذاك. وحينها، يعود ولاؤنا خالصًا لله وحده، ولمنهجه القويم: العدل، والشورى، وحرمة الدم.
نحن ندرس أفعال الماضي لنتعلم لمستقبلنا، ونترك حساب الأشخاص لرب العالمين.