عودة المسلمين لميقات رب العالمين

كاشف النفاق القرآني بين الإفساد في الأرض والاستعلاء على المؤمنين

و أنا أتذاكر في مطلع سورة البقرة، فتح الله عليّ بفهمٍ لكاشف عظيم من كواشف النفاق، رأيتُ فيه مفتاحاً- اشاركم به- لكل ما استغلق علينا في فهم الفتنة الكبرى. لقد ذكر الله صفات المؤمنين، ثم صفات الكافرين، ثم أفاض في وصف المنافقين، ولم يبدأ في وصفهم بزلل عقيدتهم النظرية، بل بدأ بأثرهم العملي المشهود:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11-12].
إن المنافق حقيقةً، يُفسد في الأرض إفساداً يراه كل ذي عين، وهو يظن في نفسه أنه "مصلح". ومن ثمارهم تعرفونهم. فلنضع أعمال أقطاب الفتنة في هذا الميزان القرآني:
• قتلة عثمان: لقد استحلوا ترويع مدينة رسول الله، وحاصروا إمامها، ومنعوا عنه الماء، وسفكوا دمه، وفتنوا المؤمنين في دينهم في الشهر الحرام والأيام الحرام. ولو سألتهم عن هذا الإفساد الذي لا يُرتاب فيه، لقالوا بلسان واحد: "إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ". بلى، إنهم هم المفسدون، ولكنهم من شدة قسوة قلوبهم وتبلد مشاعرهم، لا يشعرون بعظيم جرمهم.
• علي بن أبي طالب: لو سألته عن ذبحه لأهل الجمل من البدريين وأفاضل أهل المدينة الراجعين من الحج، ليفتنهم على الإقرار بإمامته... لقال إنما أنا أصلح وأكف الفتنة. ولو سألته عن قتال أولياء الدم في صفين، أو عن إبادته لإخوانه من قراء النهروان، أو كيف يتمت بفعله نصف أهل الجزيرة وفتح بحوراً من الدماء بزعم حمايتهم من الفتنة، وهو من تحالف مع القتلة وفتن الناس لأجل إمامته الوهمية... لكان جوابه: "إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ".
• معاوية ويزيد والحجاج: لو سألتهم عن مذابحهم المهولة التي أقاموها لتثبيت ملكهم العضوض، وعن قتالهم لعبد الله بن الزبير المؤمن الآمن في الحرم... لقالوا إنما نحن نصلح ونوحد كلمة الأمة) يوحدوا الأمة على تبديل حكم الله في الشورى بالملك العضوضي)
إن أول كاشف للمنافق هو سوء عمله في الأرض، وعماه التام عن رؤية هذا الإفساد الذي يراه كل ذي لب.
ثم يأتي الكاشف الثاني، وهو أعظم وأدق، يكشف عن استعلائهم الفكري وكبرهم العقدي:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13].
فلو قيل لهؤلاء جميعاً: لماذا لا تؤمنون إيماناً بسيطاً صافياً بالقرآن وحده كما آمن "الناس" من صحابة الرسل؟ (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) إيماناً يقوم على الاستسلام الكامل لله وحده، دون فلسفات، ودون أقوال الآباء والأجداد، ودون تنطعات الأحبار والرهبان، ودون اتباع زخرف القول غروراً، ودون عبادة الهوى.
لقالوا في كبرياء: "أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ؟". أنؤمن كما آمن هؤلاء الجهلة الذين لا يعرفون إلا القرآن؟ نحن لدينا علوم التفسير والنسخ، والفقه والقياس، ولنا تراث ورواية ورجال عظام. لدينا "نهج البلاغة"، ولدينا أقوال "ترجمان القرآن" تلميذ كعب الأحبار... لدينا كلاميات وآراء وأمور عظيمة لا تفقهونها أنتم أيها السفهاء!
فسبحان من أرشدنا إلى حقيقتهم في كتابه قبل أن نراها في تاريخهم!
وهنا، يجب أن أضع قيداً منهجياً واضحاً. إنني حين أحلل هذه الشخصيات، لا أسقط عليهم حكماً نهائياً، فلا أقول إن فلاناً منافق في علم الله، وفلاناً مؤمن. إنما أتكلم عن صفات وأعمال وردت في التاريخ، وأعرضها على الميزان القرآني. أما مصائر الأعيان، فالله أعلم بهم، وهو من سيحكم بينهم يوم القيامة. وتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تُسألون عما كانوا يعملون.

القسم الرابع: المنهج القرآني للمعرفة - العودة إلى الأصل



الفصل التاسع: حكمة الصمت القرآني - لماذا لم يفصّل القرآن علم الفلك؟
إذا كان "الكبس" ضروريًا، فلماذا لم يذكره القرآن صراحة؟ إن صمت القرآن عن تفاصيل هذه العملية الحسابية هو عين الحكمة، ويتجلى ذلك في مبادئ:
  1. القرآن كتاب هداية لا موسوعة علمية: وظيفته وضع المبادئ الكبرى، لا التفاصيل التقنية التي ترهق العامة وتجعل الكتاب نخبويًا.
  2. المنهج القرآني: "وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا": وضع القرآن منهجًا خالدًا للمعرفة، وهو الإحالة إلى التخصص واحترام أصول العلوم، وربط هذا المنهج بالبر والتقوى والفلاح.
  3. طبيعة العلوم التجريبية: علوم ظاهر الحياة الدنيا، كالفلك، هي علوم استقرائية إجماعية بين كل علماء الأرض، وتحمل آلية التصحيح الذاتي، فلا يحتاج القرآن لإثبات ما هو ثابت بالبرهان الحسي.
  4. حكمة إبراهيم: التفريق بين العلم والإيمان: كان إبراهيم على علم بتقويم قومه الفلكي لكنه خالفهم في عبادة الأجرام. إن العلم بظواهر الدنيا متاح للجميع، لكن الفرق يكمن فيمن يشكر ومن يكفر.

إذًا، صمت القرآن عن تفاصيل الشهر الكبيس هو تكريم للعقل البشري، ودعوة للبحث العلمي، وثقة بأن حقائق الكون ستتوافق حتمًا مع مبادئ الكتاب.


الفصل العاشر: معنى "الأهلة" الحقيقي ومنهجية الحساب
يبقى السؤال: ما هو المنهج الأمثل الذي يرشدنا إليه القرآن والعلم معًا؟
  1. إعادة فهم "الأهلة": إن حصر معنى "الأهلة" في هلال القمر فقط هو فهم ضيق. الجذر اللغوي "هـ ل ل" يدل على البداية والظهور الأول للشيء. فالسؤال في الآية هو سؤال أعمق عن "كيف نحدد بدايات المواقيت؟"، والجواب يفتح الباب لاستخدام أدق الوسائل العلمية، سواء كانت قمرية أم شمسية.
  2. فلسفة الفارق بين الشمس والقمر: إن عدم تطابق 12 دورة قمرية مع الدورة الشمسية ليس خطأً، بل هو محفز إلهي للعقل البشري، و"لغز كوني" دفع الحضارات لتطوير علم الفلك والرياضيات لمعرفة "عدد السنين والحساب".
  3. تعدد الخيارات المنهجية في القرآن: القرآن في عظمته لم يفرض منهجًا واحدًا، بل أشار إلى منهجين معتمدين:

o المنهج الشمسي-القمري: (يونس: 5) حيث يشترك الجرمان في العملية.
o المنهج الشمسي الصرف: (الإسراء: 12) حيث يكفي تعاقب الليل والنهار للحساب.
هذا التعدد يعني أن لدينا حرية اختيار المنهج الأكثر دقة واستقرارًا الذي يتناسب مع تقدمنا العلمي، وكلا الخيارين له سند من كتاب الله. ومع دقة العلم الحديث، فإن التقويم الشمسي الصرف يقدم الحل الأكثر استقرارًا وبساطة.




الخاتمة الكبرى: الفلاح المعقود على إتيان البيوت من أبوابها( استراتيجية تأصيل البحث العلمي وربطها بالتقوى)
بعد أن فككنا بالدليل اللغوي والمنطقي والتاريخي أسطورة "النسيء"، وبعد أن أثبتنا أن القرآن كرّم العقل البشري بإحالته إلى العلوم المختصة، وبعد أن كشفنا عن المعنى الكوني الواسع لمواقيت "الأهلة"؛ نصل الآن إلى خلاصة هي ليست مجرد نتيجة بحث، بل هي ميثاق منهجي للحضارة، مسطور في آية واحدة تهز الوجدان.
لقد كانت مشكلة التقويم مجرد عرض لمرض أعمق، وتيه الأمة في حساب زمانها لم يكن إلا انعكاسًا لتيهها في منهج المعرفة. وعندما سُئل النبي عن الأهلة والمواقيت، لم يأت الجواب تبسيطًا فلكيًا، بل جاء قانونًا حضاريًا خالدًا:
"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (البقرة: 189)
هنا، يقوم القرآن برفع مستوى النقاش من الفلك إلى الفلسفة، ومن الحساب إلى الأخلاق. إن "بيوت" المعرفة العظيمة التي شيدها الله في كونه - كعلم الفيزياء، والبيولوجيا، والفلك - لها "أبواب" لا يمكن الدخول إليها إلا بها. هذه الأبواب هي المنهج العلمي الاستقرائي، وأصوله الرياضية، وقواعده التجريبية، واحترام التخصص الذي يملكه "أهل العلم".
أما "إتيان البيوت من ظهورها"، فهو منهج القفز فوق الأسوار، وتجاهل الأصول، وهو تمامًا ما فعله "فقهاء البلاط" ومن تكلم في غير فنه، حين تجاهلوا علم الفلك وقفزوا إلى استنتاجات خاطئة أدت إلى الفشل والارتباك.
والأمر المذهل حقًا، هو ربط القرآن هذا المنهج القويم بالجوهر الأخلاقي للإيمان: "وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ". فجأة، لم يعد البحث العلمي الدقيق خيارًا دنيويًا، بل أصبح من صميم البر والتقوى. إن احترام التخصص، والأمانة في النقل، واتباع المنهج الصحيح، هو بحد ذاته تقوى تحمي صاحبها من السقوط في وحل الجهل والضلال. إنها تقوى من غضب الله الذي لا يرضى أن يُتَكلم في عظيم خلقه بغير علم.
ثم يأتي الوعد الإلهي الذي يكلل هذا المنهج بالغاية الأسمى: "...لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". يا له من وعد! إن "الفلاح" ليس مجرد النجاة في الآخرة، بل هو النجاح والازدهار والنمو والتمكين في الدنيا. إنه القانون الإلهي الذي لا يتبدل: من يسلك طريق المعرفة من أبوابها الصحيحة، متسلحًا بتقوى الأمانة العلمية، فمصيره الحتمي هو الفلاح. وعلى النقيض، من يأتي البيوت من ظهورها، فمصيره الحتمي هو عكس الفلاح: الفشل، والارتكاس، والجهل، والشقاق.
إذًا، فالخروج من النفق المظلم الذي دخلته الأمة منذ قرون لا يكمن في البحث عن نصوص جديدة، بل في العودة إلى هذا المنهج القرآني الأصيل. إن مفتاح نهضتنا يكمن في هذه الآية: أن نُعيد الاعتبار للعلم وأهله، وأن نجعل من الدقة والبحث والتحقيق عبادة نتقرب بها إلى الله، وأن نُقبل على "بيوت" المعرفة من "أبوابها" التي شرعها الله في كونه، واثقين تمام الثقة بأن هذا هو الطريق الوحيد الموصل إلى الفلاح الموعود.

سجل المراجعات