قصة الذهب المغشوش والشاب المسكين
ولكي يبسط لي فكرته، ضرب لي هذا الشيخ مثلاً لا يزال يتردد في رأسي، فقد كان أهل التبليغ يحبون القصص لتوضيح المعاني. قال لي:
"تخيل أنك تاجر ذهب صالح، وجاءك شاب مسكين وأمه، وعلى وجهيهما آثار الإرهاق، ومعهما حلية ذهبية تخص الأم العجوز، يريدان بيعها لسد حاجتهما. فنظرت أنت في الحلية، فوجدتها ذهباً مغشوشاً. ماذا أنت صانع؟"
"هل تخبرهما مباشرة أن ذهبهما مغشوش؟ ربما ماتت المرأة كمداً إن علمت أن حُليّها الذي عاشت به كل هذا الدهر مزيف، فتسقط مغشياً عليها."
"قال: إن أمثل طريقة لمساعدة هذا الشاب وأمه هي أن تقول له: ما الذي دفعك لبيع الحلية؟ فيجيب: الحاجة. فتقول له: يا بني، أمسك عليك حلي والدتك، وسأجعلك تعمل أجيراً عندي، أعلمك المهنة فتكتسب بها وتنفع نفسك. فتفرح الأم، وما يلبث الشاب أن يعمل معك ويكتسب الخبرة في معرفة الذهب الحقيقي من المغشوش."
"عندها، يمكنك أن تقول له: ألا تنظر اليوم في حلي والدتك وتختبره؟ فوقتها، حين ينظر الشاب بنفسه، سيتأكد من حقيقة كانت ستصدمه، وربما لم يكن ليقبلها منك في المرة الأولى، وكان سيمضي من تاجر إلى آخر لا يصدق ما حل به. أما الآن، فالشاب قادر على تقبل الحقيقة، أولاً لأنه اكتشفها بنفسه، وثانياً لأنه أصبح قادراً على تحمل عواقبها، فهو اليوم أجير يرزق ويستقوي على سماع بلاء الحقيقة."
ثم ختم الشيخ قصته قائلاً: "فإن أفضل من أن تخبر الناس أن ما معهم ذهب مغشوش، هو أن تعلمهم كيف يكتسبون، ثم تعلمهم كيف يعرفون هم بأنفسهم أن هذا الذهب مغشوش".
لقد رأيتُ في هذه القصة منهجاً عظيماً. فالله سبحانه، وهو رب الكون، أنزل كتاباً ضخماً من آلاف الآيات ومئات السور على مدى سنوات، يشرح لنا فيه لماذا حكم الطاغوت خطير، ولماذا حكم الشيطان ضرر، ولماذا حرم الخمر والربا، وأمر بالصلاة والزكاة. كان يمكن له أن يقول "افعل ولا تفعل" وانتهى الأمر. لكن هذه الملحمة التعليمية العقلية من الحجج والتكرار والتصوير والتفهيم، لم تكن عبثاً، بل كانت لتدريبنا على تعقل الحجج وتزكية القلوب وتعلم الطريق. فالإيمان فرع عن العلم، ولا إيمان إلا بعلم، ولذلك كانت شهادة الذين أوتوا العلم بوحدانيته مقرونة بشهادة الملائكة: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ...﴾.
وكذلك فعل الخليل إبراهيم، لم يكتفِ بأن يقول لقومه إن أصنامكم باطلة، بل أقام عليهم الحجة من داخل منطقهم، حتى رأوا هم بأعينهم أن آلهتهم باطلة: ﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
مشكلة المحتوى لا الأداة
لكن مشكلة أهل الدعوة لم تكن في الأداة، فقد كانوا بارعين فيها، بل في أن دعوتهم لا ترتكز على الأصل الذي جاء به كل الأنبياء، وهو التوحيد الخالص لله في كل شيء: في التشريع والحكم والربوبية والعبودية.
لقد كان غيرهم ينتقدهم بأنهم دعاة "فضائل فرعية" كالصلاة والصيام وحسن الخلق، ولا يبدأون بأصل الدين. وفي الحقيقة، هذه ليست فرعيات، لكنها أيضاً جزء من منظومة الدين الكامل. فدعوة الأنبياء كانت شاملة، تنبذ شرك الدعاء وشرك التشريع وشرك الطاعة، وفي نفس الوقت تأمر بالمعروف وتنهى عن الفواحش وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، في منظومة متكاملة لخصها قول الله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
إن تقسيم الدين إلى "أصول" و"فروع"، بحيث تعظم كل فرقة شطراً من الدين وتغلو فيه وتترك الباقي، هو أصل المشكلة. فكل الدين مهم، وكل مخالفة لله خطيرة. والله نفسه قد سبق التزكية قبل تعليم العلم: ﴿...يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...﴾، لأن العلم إن دخل على قلب مريض وعقل ملوث، تسمم ولم ينفع.
ولأن جماعة التبليغ ترتكز في دعوتها على مصادر تراثية مليئة بالخرافات، مثل كتاب "رياض الصالحين"، فقد تحولت دعوتهم إلى نوع من "الدروشة" الاتكالية، تؤمن بالمهدي والدجال والجساسة، وتنتظر في آخر الزمان من يجمع الأمة، بينما وظيفتهم اليوم هي مجرد الوعظ. ولو خالطتهم، لن تجد لديهم أي تصور متكامل عن بناء المجتمع المؤمن بشرائعه وأحكامه ونظرته الاقتصادية والفلسفية. ولهذا السبب، لا يستمر معهم الشباب طويلاً.