عودة المسلمين لميقات رب العالمين

وهم الجبهتين: قراءة في سنن الاجتماع من السبي البابلي إلى مذبحة غزة Grok

بسم الله الرحمن الرحيم
وهم الجبهتين: قراءة في سنن الاجتماع من السبي البابلي إلى مذبحة غزة
مقدمة: بين ضباب الإعلام وواقع السجن الكبير
تُقدّم وسائل الإعلام العالمية والمحلية يوميًا مشهدًا دراميًا مُفتعلًا: "حماس تُكبّد إسرائيل خسائر جسيمة"، "الجيش الإسرائيلي يفشل في تحقيق أهدافه"، "مفاوضات هدنة بين طرفين متكافئين". هذه اللغة ليست مجرد تغطية إخبارية، بل هي صناعة وعي جمعي زائف يرسم صورة لـ"حرب طاحنة" بين جبهتين، بينما الحقيقة المجردة على الأرض تناقض هذا تمامًا: غزة اليوم ليست جبهة قتال، بل هي أكبر سجن مفتوح في التاريخ الحديث، وسكانها ليسوا "مقاتلين"، بل مدنيون محاصرون يُقتلون ويُشردون تحت نظر العالم أجمع.
السؤال الجوهري الذي يجب أن نواجهه: كيف وصلنا إلى هذا الوهم؟ ولماذا يُقدّم العالم "حماس" ككيان ندٍّ لدولة إسرائيل، بينما هي في الواقع جزءٌ من الآلية التي تُديم المذبحة؟ للإجابة، لن نكتفِ بتحليل الوضع الحالي، بل سنغوص في سنن الله الثابتة في قيام الأمم وسقوطها، مستلهمين دروسًا من كتاب الله كـ"قوانين اجتماعية وفيزيائية" لا تتبدّل، بدءًا من السبي البابلي قبل 2600 عام، وصولًا إلى مأساة غزة اليوم.
يهدف هذا البحث إلى تقديم تحليل معمق وجذري للوضع في قطاع غزة، متجاوزًا السرديات الإعلامية السائدة التي غالبًا ما تبسّط الصراع وتصوره كحرب متكافئة بين طرفين متنازعين. إن الفهم الحقيقي للمأساة الإنسانية والسياسية في غزة يتطلب تفكيك هذه الروايات المضللة والعودة إلى الحقائق التاريخية والاستراتيجية التي شكّلت هذا الواقع المعقد. تعتمد وسائل الإعلام الغربية الكبرى، مثل BBC وCNN، غالبًا على تأطير الصراع ضمن لغة "الحياد" الظاهري، مستخدمة مصطلحات مثل "اشتباكات" و"صراع"، مما يطمس حقيقة الاحتلال واختلال القوة الهائل بين الطرفين. هذا التضليل المنهجي، الذي وصفته صحيفة "نيويورك تايمز" بأنه "طوفان من الدعاية والمعلومات المضللة"، يمنع تكوين فهم دقيق لطبيعة الهيمنة الإسرائيلية الكاملة المستمرة منذ عقود.
تكمن الإشكالية المركزية التي يعالجها هذا البحث في كيفية فهم الواقع المأساوي في غزة ليس فقط كصراع سياسي، بل كنموذج تاريخي متكرر لعواقب القرارات الاستراتيجية الخاطئة التي تتخذ في مراحل الاستضعاف. سيعتمد هذا التحليل على منهجية مركبة تجمع بين التاريخ، والعلوم السياسية، والدراسات الاستراتيجية، مع تأصيلها في إطار ما يمكن تسميته بـ "سنن الاجتماع الإلهية" كما وردت في القرآن الكريم. سيتم تفكيك مفهوم "السيادة" و"المقاومة" في سياق الاحتلال الممتد، وإعادة تقييمهما في ضوء النصوص الدينية والدروس التاريخية. إن الهدف ليس مجرد نقد الواقع، بل تقديم إطار منهجي لفهم جذور المأساة واستشراف مسار مختلف للخروج من حلقة الدمار المفرغة، وهو مسار يستلهم الحكمة من التاريخ والنصوص المقدسة بدلاً من الانجرار وراء الشعارات العاطفية التي أثبتت فشلها مرارًا وتكرارًا.

الفصل الأول: جذور الهيمنة - السيطرة الإسرائيلية الكاملة منذ عام 1967
إن أي تحليل موضوعي للوضع الراهن في قطاع غزة يجب أن يبدأ من نقطة التأسيس التي شكّلت هذا الواقع، وهي حرب عام 1967. فهذه الحرب لم تكن مجرد مواجهة عسكرية انتهت بوقف إطلاق النار، بل كانت حدثًا مؤسسًا فرض هيمنة إسرائيلية كاملة ومستمرة على الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك قطاع غزة، وهي هيمنة لم تتغير في جوهرها حتى يومنا هذا، على الرغم من تغير أشكالها وأدواتها.
في يونيو 1967، أنهت حرب الأيام الستة أي وجود عسكري عربي فاعل في فلسطين التاريخية. منذ ذلك التاريخ، أصبحت إسرائيل الحاكم العسكري الفعلي والوحيد على الضفة الغربية وقطاع غزة، تمامًا كما كانت بابل حاكمًا عسكريًّا على مملكة يهوذا قبل 2600 عام. هذا الواقع يُلغي تمامًا فكرة "الدولتين" أو "الكيانين المتنافسين"، ويضع السؤال: كيف تتعامل دولة الاحتلال مع سكان الأراضي المحتلة؟
الخياران الاستراتيجيان للاحتلال: ضم أم عزل؟
واجهت إسرائيل خيارين بعد 1967، كلاهما مُرّ:

الضم والدمج الكامل: منح الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية، كما حدث مع عرب 48 بعد النكبة. لكن هذا الخيار كان كابوسًا ديموغرافيًّا، إذ سيُحوّل العرب إلى أغلبية في "الدولة اليهودية"، مما يهدد هويتها المزعومة.
العزل والإدارة غير المباشرة: وهو الخيار الذي اختارته إسرائيل، عبر إنشاء كيانات إدارية شكلية (كالسلطة الفلسطينية و"إدارة حماس" في غزة) تحت سيطرتها الكاملة.

كيف تُدير إسرائيل السجن؟

السيطرة المالية: 100% من المعاملات المالية للسلطة الفلسطينية تمر عبر النظام المصرفي الإسرائيلي. أموال "المقاصة" (الضرائب التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة) تُجمَّد أو تُقتطع متى شاءت، كما حدث في 2019 عندما احتجزت إسرائيل 500 مليون شيكل.
السيطرة الأمنية: لا يُبنى مسجد، ولا تُحفَر بئر، ولا يُسمح بدخول طبيب إلى غزة دون موافقة إسرائيلية. قوات الأمن الفلسطينية (في الضفة) و"الشرطة" التابعة لحماس (في غزة قبل 2023) كانت أسلحتها خفيفة ومُصرَّح بها من إسرائيل، ودورها الرئيسي هو منع أي مقاومة حقيقية، أي "التنسيق الأمني" الذي وصفه محمود عباس بأنه "استراتيجية وطنية".
السيطرة على الحياة: إسرائيل تتحكم في المعابر، والمجال الجوي، والمياه الإقليمية. حتى حملات التبرع لمرضى السرطان في غزة تُوقَّف بقرار عسكري إسرائيلي.

هذا النظام جعل غزة طوال 18 عامًا (2005–2023) سجنًا مفتوحًا، وحماس تلعب دور "شرطة السجن الداخلية" التي تحافظ على النظام الداخلي مقابل امتيازات إدارية محدودة، تمامًا كما كان الحاكم الإداري لليهود في بابل (مثل صدقيا) يحافظ على النظام تحت الحكم البابلي.
من النكسة إلى الحكم العسكري المباشر (1967-1993): كانت حرب الأيام الستة في يونيو 1967 نقطة تحول استراتيجية، حيث انتهت بهزيمة حاسمة للجيوش العربية وأدت إلى احتلال إسرائيل لقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان. فور انتهاء العمليات العسكرية، فرض جيش الاحتلال الإسرائيلي سيطرته الكاملة على قطاع غزة، وأسس "الإدارة العسكرية الإسرائيلية" التي تحكمت في كل تفاصيل حياة الفلسطينيين. هذا النموذج من الحكم كان امتدادًا وتطبيقًا لسياسة الحكم العسكري التي فرضتها إسرائيل على الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم بعد عام 1948.
لم تكن السيطرة مجرد إجراء أمني مؤقت، بل كانت جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي. تكشف محاضر جلسات مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي في ديسمبر 1967 عن نوايا مبكرة لترحيل السكان الفلسطينيين، حيث اقترح رئيس الوزراء آنذاك، ليفي أشكول، إجراءات مثل تقليص وصول سكان غزة للمياه كوسيلة لدفعهم إلى المغادرة. وقد أدت هذه السياسات إلى تهجير نحو 300 ألف فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وهم الانسحاب: إعادة تعريف السيطرة بعد 2005: يُقدَّم الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة عام 2005 على أنه إنهاء للاحتلال. لكن التحليل الاستراتيجي يكشف أن هذا الانسحاب كان إعادة تموضع ذكية تهدف إلى تقليل تكاليف الاحتلال مع الحفاظ على كامل الهيمنة. لقد تخلت إسرائيل عن إدارة السكان بشكل مباشر، لكنها احتفظت بالسيطرة المطلقة على كل مقومات الحياة في القطاع، من خلال:

السيطرة على المعابر: تتحكم إسرائيل بشكل شبه كامل في 7 من أصل 8 معابر حدودية لقطاع غزة، مما يسمح لها بفرض حصار خانق متى شاءت.
السيطرة على الأجواء والمياه: تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الكاملة على المجال الجوي لقطاع غزة ومياهه الإقليمية، مما يجعل أي حديث عن سيادة فلسطينية مجرد وهم.

لقد حولت إسرائيل غزة إلى كيان معزول ومسيطر عليه بالكامل، وحمّلت جهة فلسطينية (حركة حماس) مسؤولية الإدارة اليومية للسكان. هذا التكتيك سمح لإسرائيل بإعادة تأطير أي عملية عسكرية مستقبلية ليس كعمل قمع يمارسه محتل ضد شعب محتل، بل كـ "حرب" ضد "كيان معادٍ".
الجدول 1: التسلسل الزمني للسيطرة الإسرائيلية والإدارة الفلسطينية في غزة (1967-الحاضر)

الفترة الزمنية
الجهة المسيطرة عسكرياً
الجهة الإدارية الفلسطينية
طبيعة السيطرة الإسرائيلية

1967 - 1994
إسرائيل
لا يوجد (إدارة مدنية إسرائيلية)
حكم عسكري مباشر، سيطرة كاملة على الأرض والسكان، بدء الاستيطان.

1994 - 2005
إسرائيل
السلطة الفلسطينية (إدارة مدنية وأمنية محدودة)
سيطرة أمنية شاملة، تحكم في المعابر والحدود، توسع استيطاني.

2005 - 2007
إسرائيل
السلطة الفلسطينية (إدارة اسمية بعد الانسحاب)
سيطرة خارجية كاملة (معابر، أجواء، مياه)، حصار، عزل القطاع.

2007 - الحاضر
إسرائيل
حركة حماس (سلطة أمر واقع)
سيطرة خارجية كاملة، حصار مشدد، حروب متكررة، تحكم كامل في مقومات الحياة.

الفصل الثاني: وكلاء الإدارة تحت الاحتلال - نشأة السلطة الفلسطينية وحماس
في ظل واقع الهيمنة الإسرائيلية المطلقة، لم تكن الكيانات السياسية الفلسطينية التي نشأت هيئات ذات سيادة حقيقية، بل هيئات إدارية تعمل ضمن حدود ومحددات يفرضها الاحتلال، وتقوم بمهام إدارة السكان اليومية بينما تظل القرارات الاستراتيجية الكبرى في يد القوة المحتلة.
لم تكتفِ إسرائيل بالسيطرة العسكرية، بل صمّمت استراتيجية ذكية لتغذية الانقسام الفلسطيني وتحويل "المقاومة" إلى غطاء لمذبحتها.
المرحلة الأولى: استغلال اليسار (1960–1990)
في السبعينيات، تأثرت الحركة الفلسطينية بالخطاب اليساري والقومي، فظهرت شعارات مثل "نحن شعب الجبارين" (كما في خطاب ياسر عرفات 1974). هذا الخطاب، رغم صدقه العاطفي، سمح لإسرائيل بتصوير الفلسطينيين كـ"عصابات إرهابية" تابعة للشوفينية اليسارية، وهو ما وافق عليه الغرب في سياق الحرب الباردة. النتيجة: تبرير القمع تحت مسمى "مكافحة الإرهاب".
المرحلة الثانية: تغذية الإسلام السياسي (1980–الآن)
عندما بدأت الحركة اليسارية تُنضج سياسيًّا (كالانضمام إلى الأمم المتحدة 2012)، دعمت إسرائيل صعود التيارات الإسلامية النفعية، خصوصًا حماس، عبر:

السماح بتأسيسها عام 1987 (بموافقة إسرائيلية ضمنية لمواجهة منظمة التحرير).
توفير ممر آمن لقادة حماس بعد اغتيال أحمد ياسين (2004).
التركيز على مشاركتها في الانتخابات 2006، ثم دعم الانقسام مع فتح عام 2007.

الهدف: خلق "العدو المثالي" الذي يرفض الاعتراف بإسرائيل، ويستخدم خطابًا دينيًّا متشددًا، مما يحوّل الصراع من "احتلال vs تحرر" إلى "ديمقراطية vs إرهاب".
سلطة أوسلو (1993): إدارة ذاتية أم إدارة للاحتلال؟ لم تكن اتفاقيات أوسلو اتفاقية سلام تهدف إلى إنهاء الاحتلال، بل "إعلان مبادئ" لإنشاء "سلطة حكم ذاتي انتقالي". كرست هذه الاتفاقيات السيادة الإسرائيلية العليا من خلال تقسيم الأراضي إلى مناطق (أ، ب، ج)، حيث احتفظت إسرائيل بالسيطرة الكاملة على المنطقة "ج" (أكثر من 60% من الضفة الغربية). أُنشئت السلطة الفلسطينية لتؤدي دوراً وظيفياً محدداً: إدارة الشؤون المدنية والأمن الداخلي للفلسطينيين نيابة عن الاحتلال، ويتجلى ذلك بوضوح في "التنسيق الأمني".
صعود حماس (1987-2007): من المعارضة إلى سلطة الأمر الواقع: نشأت حركة حماس عام 1987 كانبثاق عن جماعة الإخوان المسلمين. بعد فوزها في انتخابات 2006، قوبلت برفض دولي وحصار اقتصادي، مما أدى إلى صراع دموي مع حركة فتح انتهى بسيطرة حماس الكاملة على قطاع غزة في يونيو 2007. ومنذ ذلك الحين، تحولت حماس من حركة مقاومة إلى سلطة أمر واقع، مسؤولة عن إدارة الحياة اليومية لأكثر من مليوني فلسطيني تحت حصار شامل.
سياسة "فرّق تسُد": كيف خدمت حماس الاستراتيجية الإسرائيلية؟ إن وجود سلطتين فلسطينيتين متنازعتين لم يكن مجرد نتيجة للانقسام الداخلي، بل كان هدفاً استراتيجياً عملت إسرائيل على دعمه. ففي حين كانت تحارب حماس عسكرياً، كانت تسمح بتدفق الأموال القطرية إليها. الهدف الاستراتيجي الحقيقي كشف عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 2019: "كل من يريد إحباط إقامة دولة فلسطينية عليه أن يدعم تقوية حماس وتحويل الأموال إلى حماس... هذا جزء من استراتيجيتنا - لعزل الفلسطينيين في غزة عن الفلسطينيين في الضفة الغربية".

الفصل الثالث: الطبيعة الوهمية للمقاومة المسلحة
التحليل الاستراتيجي الموضوعي يكشف أن "المقاومة المسلحة"، في شكلها الحالي، هي إلى حد كبير وهمية في تأثيرها العسكري، بل وأصبحت أداة تخدم الأهداف الإسرائيلية من خلال توفير الذرائع اللازمة لتبرير التدمير الممنهج للقطاع.
الوهم العسكري: صواريخ لا تُصيب والأنفاق لا تحمي

الصواريخ "الاستراتيجية": 90% من صواريخ حماس تستخدم تكنولوجيا ما قبل القرن الـ18 (كالبارود اليدوي)، وبدون أنظمة توجيه، فتضرب عشوائيًّا ولا تُصيب المستوطنات الرئيسية (مثل تل أبيب)، بل تُستخدم كذريعة لضرب المدنيين. وفق تقرير معهد "الحرب الحديثة" (2023)، لم تُقتل أي صاروخ فلسطيني جنديًّا إسرائيليًّا في 2021، بينما قتلت الصواريخ 12 مدنيًّا في غزة.
الأنفاق "الاستراتيجية": لم تُبنى لحماية المدنيين، بل لاختباء القادة. وثائق حماس المسربة (2022) تكشف أن 70% من الأنفاق تركز حول مقرات القيادة، بينما 30% فقط تصل إلى الحدود. هذا الأسلوب نذالة تاريخية، تذكّر بفعلة اليهود في السبي البابلي الثاني (586 ق.م)، حين قتلوا الحامية البابلية وتمترسوا بالمدنيين، فدُمّر الهيكل وشُتّت الشعب.

الصواريخ البدائية: سلاح نفسي أم ذريعة استراتيجية؟ تطورت القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية، لكنها تظل في مجملها بدائية الصنع وتفتقر إلى أنظمة توجيه دقيقة. تأثيرها الاستراتيجي ليس عسكرياً بقدر ما هو نفسي. هذه الصواريخ، رغم محدودية تأثيرها العسكري، تُستخدم كذريعة مثالية من قبل إسرائيل لتبرير شن عمليات عسكرية واسعة النطاق، فتتحول في الخطاب الإسرائيلي إلى "هجوم إرهابي" يستدعي "رداً قاسياً". هذه المعادلة تخلق حلقة مفرغة كارثية على الفلسطينيين.
أنفاق القيادة: استراتيجية حماية أم تمترس بالمدنيين؟ تمثل شبكة الأنفاق الواسعة ("مترو غزة") إنجازاً هندسياً وعسكرياً، لكنها مصممة لأغراض عسكرية بحتة: إخفاء الأسلحة، وتأمين تحركات المقاتلين، وحماية القيادات السياسية والعسكرية للحركة. لكن هذه الاستراتيجية تكشف عن حقيقة مرة: لقد تم بناء هذه الأنفاق لحماية القادة والمقاتلين، وليس لحماية الشعب. تُرك السكان المدنيون دون أي ملاجئ ليواجهوا القصف الإسرائيلي. إن بناء بنية تحتية عسكرية ضخمة تحت مناطق سكنية مكتظة، مع عدم توفير أي وسيلة حماية للسكان، هو قرار استراتيجي يجعل من هؤلاء المدنيين درعاً بشرياً بحكم الأمر الواقع.
الجدول 2: عدم التكافؤ العسكري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة

المقارنة
إسرائيل (جيش الدفاع الإسرائيلي)
الفصائل الفلسطينية في غزة (بقيادة حماس)
نسبة عدم التكافؤ (تقريبي)

الميزانية السنوية
أكثر من 23 مليار دولار (2023)
تقدر بمئات الملايين من الدولارات
~ 100 : 1

القوات النشطة
~170,000 جندي نظامي
~30,000 - 40,000 مقاتل
~ 5 : 1

القوات الاحتياطية
~465,000 جندي احتياط
لا يوجد جيش احتياطي منظم

  • -
  • سلاح الجو

طائرات مقاتلة متطورة (F-35)، مروحيات هجومية، طائرات بدون طيار متقدمة
طائرات بدون طيار بدائية، طائرات شراعية
تفوق جوي مطلق لإسرائيل

الدفاع الجوي
أنظمة متطورة (القبة الحديدية، مقلاع داوود، السهم)
منظومات دفاع جوي محدودة الفعالية
تفوق دفاعي مطلق لإسرائيل

الفصل الرابع: السبي البابلي – عبرة لا تُكرر إلا بالجهل
القرآن يروي قصة السبي البابلي كـقانون اجتماعي إلهي (سُنّة) يُطبّق على كل أمة تكرر أخطاء بني إسرائيل.
السياق التاريخي (600 ق.م):

الانقسام الداخلي: بعد وفاة سليمان، انقسمت مملكة إسرائيل إلى دولتين: الشمال (10 أسباط) والجنوب (سبطا يهوذا ولاوي).
السبي الآشوري (722 ق.م): أباد الآشوريون 10 أسباط من الشمال بسبب عبادة العجل والشرك (كما في سفر الملوك الثاني 17: 6–23).
السبي البابلي (597–586 ق.م): مملكة يهوذا (السبطان المتبقيان) سقطت بسبب الظلم الاجتماعي والانحراف الروحي، فسُلّط عليهم البابليون.

التحذير النبوي والخطيئة القاتلة:
في ظل الحكم البابلي، حذّر النبي إرميا من التمرد المتهور، قائلاً:

"لا تُفكّروا في قول: 'الهيكل، الهيكل هو!'... إن كنتم تُصلحون طرقكم وأفعالكم، وتُحقّقون العدل بين الناس، فلا يُسلّط عليكم غريب" (إرميا 7: 4–7).

لكن الحاكم الإداري صدقيا (المُعيّن من البابليين) تمرّد على الحاكم العسكري بتحريض من وعود مصرية فارغة، وقتل الحامية البابلية (كما في سفر أرميا 52: 27). فجاء الوعد الإلهي:

﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا﴾ (الإسراء: 5).النتيجة: دمّر البابليون الهيكل، وأحرقوا أورشليم، وشُتّت اليهود في بابل (586 ق.م).

التوازي الصادم مع غزة اليوم:

التحذير الرباني: ﴿كُفُّوا أَيْدِيكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (النساء: 77) – أي: لا تُسرعوا بالقتال في مرحلة الاستضعاف، بل ابنوا المجتمع أولًا.
الخطأ نفسه: في 7 أكتوبر 2023، تمرّدت حماس على الحاكم العسكري (إسرائيل) بعمل تشنجي (خطف مستوطنين غير ذي قيمة استراتيجية)، فحصلت إسرائيل على الذريعة المثالية لتنفيذ مخططات التهجير التي حلم بها نتنياهو منذ 2019 (كما في مذكراته).
النتيجة المتوقعة: تدمير الهيكل الرمزي (غزة)، وزيادة الشتات (التشريد)، وتحقيق "وعد مفعول" جديد.

السبي البابلي الثاني كنموذج تاريخي للتمرد المتهور: في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، كانت مملكة يهوذا تابعة للإمبراطورية البابلية. قرر الملك صدقيا، بتحريض من مصر، التمرد على بابل، متجاهلاً التحذيرات المتكررة من النبي إرميا الذي كان يدعوه إلى تجنب مواجهة غير متكافئة. كانت النتيجة كارثية: في عام 586 ق.م.، دمر الجيش البابلي أورشليم بالكامل، بما في ذلك هيكل سليمان، وبدأت حقبة السبي والشتات. إن تمرد صدقيا، الذي رُوّج له كعمل بطولي، لم يؤدِ إلا إلى دمار شامل للدولة وتشريد شعبها.
الإفساد في الأرض: تفسير قرآني لآيات سورة الإسراء: يقدم القرآن الكريم في مطلع سورة الإسراء إطاراً لفهم هذه السنة الإلهية: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا﴾. تربط كثير من التفاسير "الوعد الأول" بالسبي البابلي. تكشف الآية عن سنة إلهية عميقة: عندما تصل أمة إلى درجة من الفساد الداخلي والغطرسة والتمرد غير المحسوب، فإن الله يسلط عليها قوة خارجية لتأديبها وتدميرها.
منهج الاستضعاف في القرآن: "كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ": في مقابل نموذج التمرد المتهور، يقدم القرآن منهجية واضحة للتعامل مع مراحل الضعف. تتجلى هذه المنهجية في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...﴾. نزلت هذه الآية في مكة، حين كان المسلمون قلة مستضعفة. الأمر الإلهي "كفوا أيديكم" ليس دعوة للاستسلام، بل هو تأجيل للمواجهة حتى تتوفر شروطها. المقاومة الحقيقية في مراحل الاستضعاف لا تكون بالمواجهة العسكرية الخاسرة، بل بالصبر والبناء الداخلي للمجتمع: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة".
نموذج طالوت: شروط النصر الإلهي: تقدم قصة طالوت في سورة البقرة نموذجاً لشروط النصر الإلهي. لم يكن اختيار طالوت مبنياً على النسب أو المال، بل على الكفاءة الحقيقية: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾. الدرس المستفاد هو أن النصر الإلهي ليس نتيجة حتمية لأي عمل عسكري يرفع راية الدين، بل هو مشروط بقيادة ربانية مؤهلة، وجيش مطيع صابر، ويقين بأن النصر من عند الله وليس بكثرة العدد والعدة.
الجدول 3: مقارنة تحليلية بين السبي البابلي والوضع في غزة وقصة طالوت

المعيار
السبي البابلي (نموذج الفشل)
الوضع في غزة (تحليل مقارن)
قصة طالوت (نموذج النجاح)

القيادة
الملك صدقيا، تمرد على نبوخذنصر وتجاهل تحذيرات النبي إرميا.
قيادات تتخذ قرارات مواجهة غير متكافئة، وتتمترس في أنفاق بعيداً عن معاناة الشعب.
طالوت، تم اختياره من الله بناءً على العلم والقوة.

الاستراتيجية
تمرد عسكري متهور ضد قوة عظمى دون امتلاك مقومات النصر.
مواجهة عسكرية مستمرة ضد قوة ساحقة بأسلحة بدائية، مما يستجلب الدمار.
مواجهة محسوبة بعد تمحيص الجيش واختيار الفئة الصابرة والمؤمنة.

التعامل مع المدنيين
التمترس داخل أسوار أورشليم، مما أدى إلى مجاعة ودمار شامل.
بناء أنفاق لحماية القادة مع ترك المدنيين دون ملاجئ، مما يجعلهم دروعاً بشرية.
لا يوجد ذكر للتمترس بالمدنيين، بل قيادة تتقدم الصفوف.

النتيجة
تدمير كامل لأورشليم والهيكل، وبداية الشتات.
تدمير متكرر للبنية التحتية، وخسائر بشرية فادحة، وتكريس الحصار.
نصر إلهي حاسم: "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ".

الفصل الخامس: من السبي إلى الخروج – الطريق الوحيد للخلاص
القرآن لا يروي القصص لتسلية الأذهان، بل ليبني منهجًا للعمل وفق سلسلة مرحلية محددة لا يمكن تجاوز أي حلقة فيها. فكيف نستفيد من هذه السنن دون أن نعطل سلسلة البناء الإلهي؟

  1. أولاً: الدار قبل الإيمان – حقيقة لا يمكن تجاوزها

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)
إن بني إسرائيل لم يبدأ تكليفهم بالقتال إلا بعد سفر الخروج والهجرة واستعدادهم كأمة حرة لإعداد العدة وإقامة الكيان المادي الحقيقي بعيداً عن المنظومة الدينوننية لغير الله.. وكذلك النبي والصحابة رضي الله عنهم لم يكلفوا بقتال إلا بعد الهجرة وإقامة الدار والإيمان ورسوخ قدمهم واستنفاذهم لكل السبل السياسية والدعوية والوعظية الممكنة حتى قتلوا ظلماً وأذن الله لهم بدفع القاتل المعتدي.
الآية الكريمة تبدأ بـ"أُخْرِجَتْ" قبل "تُؤْمِنُونَ"، فالأمة لا تُبنى بالإيمان فحسب، بل بالإخراج إلى دار تسمح لهذا الإيمان بالنمو والتمكين. النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة التي كانت "دار استضعاف" إلى المدينة التي أصبحت "دار تمكين"، فاختار مكانًا قادرًا على استيعاب الإيمان وتمكينه.
القوة المادية للجماعة المؤمنة لن تبني في سجن مفتوح، لكن يبني ما هو أهم البذرة الصامدة التي تبتلى حتى تخرج الشجرة الكبرى إن وضعت في تربة الدار بعد الخروج.. إنها مرحلة الفرز والتمحيص وتنقية الذهب.... فالصلاة في مرحلة الاستضعاف هنا ليست مجرد طقس، بل هي نظام نواة نورانية صلبة، كما قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (يونس: 87). فالصلاة تبدأ ببناء بيوت تتحول إلى قبلة، وليس بمواجهة السيف بالسيف.
  1. ثانياً: البذرة المبتلاة – من المِحنة إلى النور

القرآن يصف المؤمنين كـ"زيت كاد يُضيء" لكنه لا يضيء فعلاً إلا في "مِشْكَاةٍ" بعد أن "يَحْتَرِق" في تجربة الابتلاء:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ...﴾ (النور: 35)
الشجرة المباركة هي فسيلة للجماعة المؤمنة الأولى والزيت هنا هو نور القرآن والوحي الذي يتفاعل معها ثم يشتعل بالابتلاء الذي يحول الزيت إلى نور حقيقي، والمِشْكَاة هي الدار التي تحمي هذا الاشتعال. فلا يمكن للإيمان أن يضيء كـ"كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" إلا بعد أن يمر بسلسلة من الابتلاءات في دار تحميه.
غزة اليوم ليست "مِشْكَاة" تحمي الزيت، بل هي سجن مفتوح صادر فيه كل مظهر من مظاهر الاستقلال التي تسمح للإيمان بالنمو. فكيف نتوقع أن يتحول هذا الزيت إلى نور يضيء العالمين؟
  1. ثالثاً: الترتيب الرباني – من التبذر إلى البناء

المنهج الرباني يمر بثلاث مراحل حاسمة لا يمكن تجاوزها:
أ. مرحلة التبذر والابتلاء (مثل مكة)
المرحلة التي يكون فيها المؤمنون قلة، مضطهدين، ممنوعين من إقامة دينهم بشكل كامل. المطلوب هنا:

كف الأيدي: ليس استسلامًا، بل تجنب الأعمال الارتجالية التي تعيد إنتاج المذبحة.
بناء الإنسان المؤمن: عبر تدبر القرآن كقانون اجتماعي وفيزيائي، لا كنصوص معزولة.
التماسك الداخلي: عبر تحويل البيوت إلى قلاع روحية وفكرية.

ب. مرحلة الهجرة والتمايز (مثل الهجرة إلى المدينة)
المرحلة التي تبحث عن دار جديدة تسمح بإقامة الدين. المطلوب هنا:

الهجرة: إلى مكان قادر على استيعاب الإيمان وتمكينه.
البناء المجتمعي: عبر الزكاة كنظام اقتصادي عادل، والشورى كنظام حكم.
التمايز الواضح: بين منهج الله ومنهج البشر.

ج. مرحلة التمكين والإعداد (مثل المدينة المنورة بعد الهجرة)
المرحلة التي تسمح فيها الدار الجديدة ببناء القوة الشاملة. المطلوب هنا:

الإعداد العسكري: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60) - بعد أن تتوفر الدار الحرة.
القوة الاقتصادية: استخراج الموارد وبناء الصناعات.
القوة العلمية: دراسة الفيزياء والكيمياء كسنن إلهية في الكون.

الفصل الخامس: المقاييس الربانية للقيادة والأمة
في قصة طالوت في القرآن تتبدى المقاييس الربانية للحكم والقيادة. عندما طلب بنو إسرائيل ملكاً يقاتلون تحت رايته، اعترضوا على اختيار طالوت لأنه لم يكن من سلالة ملوكية ولم يكن ثرياً. فجاء الرد الإلهي: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: 247).
هذه الآية تنسف المفاهيم الأرضية للقيادة:

الاصطفاء الإلهي يهدم فكرة الحق الوراثي.
البسطة في العلم تعني المعرفة الاستراتيجية وفقه الواقع.
البسطة في الجسم تعني القدرة على التحمل والهيبة.

المُلك في المفهوم القرآني ليس سلعة تُورّث، بل أمانة ومسؤولية يختار الله لها الأكفأ.

الخاتمة: لا وطن دون دار، ولا دار دون إيمان
المأساة الحقيقية ليست في ضعف القوة العسكرية، بل في محاولة بناء القوة دون وجود دار تسمح بهذا البناء. فالقوة بدون دار هي قوة وهمية تُستخدم كذريعة للمزيد من القتل، كما حدث في 7 أكتوبر عندما قدمت أعمال تمرد متهورة الذريعة المثالية لزيادة التهجير والإبادة.
الطريق الوحيد للخلاص هو اتباع الترتيب الرباني:

الاعتراف بالواقع: نحن في مرحلة الاستضعاف، وليست مرحلة التمكين.
البدء بالدار: بناء الجماعة المؤمنة في مكان يسمح بإقامة الدين.
الصبر على الابتلاء: حتى تتماسك البذرة وتصبح نبتة قوية.
الهجرة عند الإمكان: إلى دار تسمح بتمكين الإيمان.
البناء الشامل: اقتصاديًا وعسكريًا وعلميًا - بعد توفر الدار الحرة.

فلا يمكن أن نفكر في "استخراج الحديد" قبل أن نكون في دار تسمح لنا باستخراجه، ولا يمكن أن نبني "صناعات عسكرية" بينما نحن تحت حكم عسكري لغير الله. النصر لا يأتي بالقفز على المراحل، بل بالسير وفق السنن الإلهية التي وضعها الله في كتابه وفي الكون.

كف الأيدي: نهاية الوهم العسكري – ﴿كُفُّوا أَيْدِيكُمْ﴾ لا تعني الاستسلام، بل التوقف الفوري عن الأعمال الارتجالية التي تُعيد إنتاج المذبحة. القوة الحقيقية ليست في صواريخ البارود، بل في:
إقامة الصلاة: بناء الإنسان المؤمن – الصلاة هنا ليست طقسًا، بل إعادة بناء الوعي عبر: فهم القرآن كـ"قانون اجتماعي" (مثل تحليل السبي البابلي). تربية جيل يفهم أن النصر لا يأتي بالانتحار، بل بالإعداد.
إيتاء الزكاة: بناء المجتمع المتكافل – الزكاة ليست صدقة، بل نظام اقتصادي عادل يُنهي الفقر الذي يُضعف الأمة. غزة اليوم تعاني من بطالة 47% (البنك الدولي 2023)، وهذا يُسهّل على الاحتلال تقسيمها.
الخروج والهجرة والدار والإيمان ثم إعداد العدة لا يكون إلا بعد الحرية والاستقلال وجود مكان الدين كله فيه لله – القوة الاقتصادية: استخراج الحديد (كما في ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾) عبر بناء صناعات عسكرية حقيقية (مثل إيران). القوة العلمية: تدريس الفيزياء والكيمياء كـ"سنن إلهية"، لا كعلوم غربية.

الفرق بين غزة اليوم ويهوذا في السبي البابلي أن قوة إسرائيل تفوق بابل بآلاف المرات تكنولوجيًّا وإعلاميًّا. لكن السنن الإلهية واحدة:

القوة بدون إعداد = إبادة (كما حدث في 586 ق.م و2023).
الإعداد بدون قوة = استعباد (كما في مصر تحت فرعون).

الطريق الوحيد هو العودة إلى الله منهجًا عمليًّا:

الاعتراف بالواقع: لا وجود لـ"حماس" ككيان مقاوم، بل هي أداة في يد الاحتلال.
التخلي عن وهم الجبهتين: المذبحة ليست حربًا، بل جريمة ضد الإنسانية.
البدء ببناء "الدار": عبر التعليم، والاقتصاد، والوحدة، قبل أي حديث عن التحرير.

كما قال الله ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)، فالأمة لا تُبنى بالصواريخ البارودية، بل بالإيمان الذي يفهم سنن الله في الكون.
يكشف هذا التحليل أن استراتيجية "المقاومة المسلحة" التي تتبناها الفصائل في غزة هي وهم استراتيجي كارثي. فالصواريخ البدائية لا تشكل رادعاً حقيقياً، بل أصبحت ذريعة متكررة لتبرير التدمير الممنهج للقطاع. كما أن شبكة الأنفاق، التي بنيت لحماية القيادات وليس المدنيين، كرست استراتيجية التمترس وسط السكان.
إن الخروج من حلقة الدمار المفرغة يتطلب مراجعة جذرية لمفهوم "المقاومة" نفسه. إنه يتطلب العودة إلى الحكمة القرآنية والتاريخية، وإدراك أن القوة الحقيقية لا تنبع من صواريخ بدائية أو أنفاق تحت الأرض، بل من بناء مجتمع متماسك، متعلم، ومنتج. إن الصبر الاستراتيجي، والبناء الداخلي، وتوحيد الصفوف، هي الشروط الأساسية التي لا غنى عنها لتغيير موازين القوى الحقيقية، وهي الطريق الوحيد الذي يمكن أن يمهد لتحرير فعلي ومستدام، بدلاً من الانجرار وراء وهم المقاومة الذي لا ينتج إلا المزيد من الدمار والمآسي.
الطريق إلى تحرير أي أرض يبدأ من تحرير الإنسان الذي يعيش عليها من الجهل والفرقة والفقر والوهم. إنها دعوة للعودة إلى الله، بفهم سننه وقوانينه في الكون وكتابه، والعمل بها. فهذا هو الطريق الوحيد الذي وعد الله أهله بالنصر والتمكين.
"وكان وعداً مفعولا"
الهوامش والمصادر:

تقرير البنك الدولي: "Gaza Economic Update" (2023).
وثائق حماس المسربة: "Al-Aqsa Flood" (2023).
سفر أرميا (الفصول 37–52).
معهد الحرب الحديثة: "Rocketry in Gaza" (2023).
القرآن الكريم (النساء: 77، الإسراء: 5، آل عمران: 110).

هذا المقال ليس رأيًا سياسيًّا، بل قراءة واعية لسنن الله التي لا تُخاطب العواطف، بل تبني على الحقائق. فهل نتعلم من التاريخ قبل فوات الأوان؟

سجل المراجعات