بنود الاتفاق وما وراء الأسطر في الروايات المختلفة
يا صديقي الباحث عن الحق، إننا حين نقرأ بين السطور ما حدث تحديدًا بين الحكمين، أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، نجد أنفسنا أمام مسرحية هزلية نسجها قُصّاص العباسيين، وهي رواية لا تصمد أمام أبسط قواعد المنطق السياسي والعسكري. تخيل معي جيشين جرارين كانا على حافة الحسم وإتمام المقتلة، وفجأة يتوقفان لانقسام في الجيش الأول لإدراكه خطورة المذبحة في رافعي المصاحف. إن المنطق في سير أي معركة عادية يقتضي أن يجلس كل فريق ليملي شروطه. وهنا يبرز السؤال الجوهري: ما هي شروط كل فريق؟ ماذا يريد فريق علي بن أبي طالب، وماذا يريد فريق معاوية؟
إن هلامية الأغراض التي تفرضها الروايات الرسمية تجعلنا نستخلص الحقيقة بوضوح أكبر عند تفكيكها. الجيوش حين تتقاتل، فإنها تتقاتل على قضايا واضحة: صراع موارد مثلاً، أو أرض كجيش يحتل أرضاً ثم ينفر جيش من البلد المعتدى عليه لاستردادها. في هذه الحالات، نحن نعرف ونتوقع مطلب كل فريق، فكل واحد يريد أن يكسب أكثر أو يقلل خسائره.
أو يكون الصراع صراعًا دينيًا حقًا، كحرب النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل الجزيرة؛ أولاً لأنهم لم يخلّوا بينه وبين دعوته فبادروه بالسيوف والقتال، فوجب عليه حماية بيضة الأتقياء. وثانياً لأنهم طردوه والمؤمنين من بيتهم وفتنوهم في دينهم. وثالثاً لأنه مع اكتمال الدين صارت هناك منظومة حق تشريعية فيها حفظ دماء الناس وفرض حق الفقير في الزكاة وإقرار حرية الاعتقاد حتى لا يُفتن أحد على اعتقاده.
القتال النبوي كان كمشرط الجرّاح الدقيق، لا يقاتل إلا أكابر المجرمين المتجبرين المبادئين بالعدوان. ولذلك لو لاحظنا، فإن إجمالي من قُتلوا في معارك النبي وصدر الإسلام من أهل الجزيرة لا يبلغون عُشر معشار من قتلهم علي بن أبي طالب في سبيل إمامته؛ فلا تجد في قائمة قتلى حروب النبي إلا بضع مئات أو آلاف على أقصى تقدير، من أكثر الكفار دموية وتطرفاً وإجراماً. وكان النبي يهادن من يهادنه، ويحقن دم من اعتزل، ويقيم حكم الله الحق مع كل مؤمن وكافر، ولم يطالب الكفار ببيعته بل بمهادنته، ولم يفتنهم على السيف هل هو نبي أم لا.
إن الصراع على حاكمية الله يختلف جذريًا عن الصراع على الإمامة الدنيوية. فالفئة المؤمنة منخلعة تمامًا عن حقها الشخصي. يكفي أنك لو تقاتل رجلاً قتل أخاك في معركة ورأيته بأم عينك وحنق الغيظ في صدرك، ثم آمن هذا الرجل وحسن إسلامه وصلى وزكى، صار أخاك في الدين إلزامًا، وفرح المؤمن بإيمانه إن كان حقًا واحتسب أخاه البيولوجي شهيدًا. صراع الفئة المؤمنة صراع متجرد بشكل مهول.
بل لم يكن الصراع يومًا صراع موارد، كيف ذلك والفئة المؤمنة مأمورة بالإنفاق على اليتيم والفقير والمسكين من خيرة مالها، سواء كان هذا اليتيم كافراً أو مسلماً، وابن السبيل مسلماً أم كافراً. فكل بلدة يفتحها المسلمون يصير في رقبتهم كل ضعفاؤها، لا كما يصور فقه الاغتصاب والسبي أنهم يسترقون ضعفاءها، وهذا كذب على الله ومن أعظم الفرى على رسوله.
دوافع الصراع الحقيقية: ما وراء شعارات الإمامة والقصاص
لنرجع إلى صراع صفين لنرى حقيقة غرض كل فريق بكل إنصاف، بعيدًا عن الشعارات الزائفة التي تتكلم عن صراع بين خليفة حق وفريق باغٍ.
فريق معاوية (ولي الدم الطامح للمُلك):
معاوية هو ولي دم عثمان، وله سلطان بنص القرآن: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾. وهو مؤيد من الله في هذا الحق. ولولا جهل الثوار وفريق ابن أبي طالب بهذه الحقيقة القرآنية، لعلموا أنه سينتصر عليهم عاجلاً أم آجلاً، لأنهم ليسوا بأهل قرآن ولا يرون الأمور بأبعادها.
ولا شك أن فريق معاوية لم يكن سالمًا؛ فرغم أن له الحق الكامل في ولاية الدم والثأر، إلا أن وقائع التاريخ تكشف أنه استغل هذا الحق ليتخذه سلمًا للدنيا، وهذه طامة كبرى. فكما أن فريق الثوار زين له الشيطان قتل أمير المؤمنين وفتنة الناس تحت شعار الإمامة والخلافة، وهي دعوة مبطنة برغبتهم في الحظوة وحسدهم لأموال المؤمنين الأغنياء، فإن إبليس دخل للفريق الآخر من مروان ومعاوية بنفس المدخل وإن كان أخف. لقد أخذوا الثأر قنطرة للقفز على القيادة ثم الاستبداد بها، وهو ما حدث فعلاً، وأسرفوا في القتل. لذلك قال الله تعالى بعد أن جعل لولي الدم سلطانًا: ﴿فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾. ولقد أسرف بنو أمية في القتل وقتلوا ابن الزبير الآمن في الحرم، وتحولوا إلى طواغيت أذلهم الله ومزقهم بعد فترة يسيرة جزاءً بإسرافهم، كما هي سنة الله في المسرفين.
فريق علي (تحالف الثوار الباحثين عن الغنيمة):
أما فريق الثوار، فقد كان يريد مال مال مال، وجاه جاه جاه. كل كلامهم عن الإمامة والخلافة كان مجرد غلاف. فلما أغراهم معاوية بذكاء بمال الشام وكنوزه المخبأة التي سيفقدونها للأبد لو تم القضاء عليه ولا يعرف طريقها إلا هو، لقد طمعوا في "ضرع البقرة الذهبي" الذي لن ينضب لبنًا. فالشام كانت تضج بالكنوز، وهي مجمع واردات الفتوحات في شمال أفريقيا وأوروبا المقدسة، أوروبا التي كانت بابًا من الجنات فُتح على أهل الجزيرة.
إن أحلام زخرف الدنيا أكلت رؤوسهم، فظنوا أنهم سيمكرون بمعاوية إن تركوه، وظنوا أنهم سيدجنونه، وأوهمهم معاوية بذلك فداهنهم فداهنوه.
صفقة الكعكة الدنيوية: شروط الصلح التي لم تُكتب
إن أهل الدنيا لا يحبون القتال، بل يحبون الغنائم الباردة. لم يدخل الثوار تلك المعارك إلا لأن أحداثها كانت دراماتيكية، كانوا يظنون أن معاوية لن يستطيع حشد كل هذه الجحافل. وأظن أن هناك مبالغة في تعداد جيش معاوية؛ فأغلب معارك بن أبي طالب و الثوار كان له فيها تفوق عددي مهول. الثوار أهل دنيا وإن ادّعوا الزهد، ولا يدخلون غزوات إلا كغزوة حنين تعجبهم كثرتهم ولا يريدون الموت. وكل معاركهم الكبرى كانت في الربيع والبرد بل في عمق الأشهر الحرام اوأطرافها، لا في الحر. فلا إشكال لديهم أن يبدأوا مناوشات وقتلاً في الشهر الحرام كما حدث في صفين عند السيطرة على منابع الفرات، ولا إشكال لديهم أن يقتلوا الإمام في الشهر الحرام ويجهزوا ويخرجوا لقتال أهل الجمل في محرم. هم لا يعتبرون لأي حرمة في سبيل دنياهم.
وهنا، لعب معاوية على سيلان لعابهم للطمع، وقدم لهم اتفاقية ماكرة:
• قال لهم: ما لكم نطحن بعضنا بالدماء والحديد والنار؟ ما رأيكم أن نكف عن هذا الأمر وتتركوننا ونترككم، ولكم من كنوز الشام ثلثها، ويأتيكم خراجها كل عام وافرًا ونعيش في سلام ووئام. لكن علي ليس خليفة عامًا، بل له العراق والحجاز ومصر. دعوا لي الشام فقط، فقد لبثت بها عشرين سنة، وإلا فالسيف إن أردتم السيف، ولن تنالوا من خيرها شيئًا.
لقد علم معاوية أن من معه الاقتصاد سيغلب آجلاً أم عاجلاً، وأن الثوار أهل دنيا يمكن شراؤهم بالمال، وهو ما حدث. فقد كان يستميل كل حكام الأقاليم بعد صفين رويدا رويدا وهو أول من ابتدع وظيفة( العيون ) الاستخبارات بشقيها الناعم بتجنيد الجاوسيس بالرشاوي أو عمل الاغتيالات الدقيقة ، ولأن ثوار جيش علي أهل دنيا، صار أغلب الولاة في ولاء معاوية مع الوقت لأجل أموالهم الطائلة التي تجري لها لعابهم أو مداهنون له في الباطن، وصار علي بن ابي طالب هو المعزول في الكوفة. وقام معاوية بتسميم القادة الأخطر والتخلص منهم بنزعة لطافة كمالك الأشتر؛ فمن لم يُشترَ بالمال، تخلص منهم بمشرط مؤامرة رفيعة،أو غيلة مضمرة ..ومن استفرد بهم كعمر بن الحمق و محمد بن ابي بكر مثل بهم جزاءا وفقا كما قتلوا عثمان في الشهر الحرام شيخ كبير مسالم ظمئان ... وصار لمعاوية العيون في كل مكان. فالثوار سهل شراؤهم لمن يدفع أكثر، وهذا داء كل ثورة. فما رأينا ثورة إلا وبداخل نسيجها من ينقلب عليها لمن يدفع أكثر، ويصير إخوان الأمس أعداء اليوم، وأعداء الأمس أولياء اليوم.
إن الرواية التي قدمها العباسيون وقت التدوين هي حقيقة طمسية يتضح من نسجها كم مهول من التناقضات لتبري ما ما وقع فيه من شروط مخزية و مكر بعلي بني ابي طالب و محاولة تعليق شماعة الفشل على أهل القرأن بالنهراون تارة وعلى ابي موسى الأشعري بزعم سفاهته و على ابن العاص تارة بزعم مكره ..إلخ المهم ان المبرأ المظلوم الأمام الملمع الذي لا سخطيء ولو قتل كل الأمة هو بن الثوار و أمامهم . ولكن يمكننا أن نتصور طبيعة الشروط التي جرت، والتي كانت اتفاقًا على تقاسم الكعكة الدنيوية: لا نريد شورى ولا يحزنون.
الدور الشجاع للحَكَمَين: محاولة إغلاق باب الفتنة
إن دور الحكمين فيه شيء غامض. لكن ما توصلا إليه، أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، هو جوهر الحق: خلع كلا الرجلين وإعادة الأمر شورى بين المؤمنين. إنه قرار غريب وجريء جدًا منهما، فهو كمثل قفل لباب جهنم الذي فُتح، ومفتاح لجنة حكم الله التي قوام أمرها الشورى بين المؤمنين و خلع أغراض المنتفعين.
وأنا هنا أفكر، كيف كان لأبي موسى الأشعري هذه الجرأة العظيمة وهو يعلم أن هذا الحكم لن يرضي أنصار علي البتة؟ فالعودة للشورى تعني رجوعها لأكابر القوم، وأغلب الصحابة قد ذبحهم الثوار وجيش علي في الجمل، ومن بقي منهم إما قليل كسعد بن أبي وقاص، أو كبار في السن، أو من الطائفة التي لسان حالها يقول: ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾.
لقد فضح العباسيون أنفسهم حين أظهروا كراهيتهم لأبي موسى الأشعري، فسبوه وحقروه وصوروه سفيهًا تلاعب به ابن العاص. والحقيقة أنه لو صح خلعه لابن أبي طالب وإرجاعه الأمر شورى، لوجب أن نصنع له نيشانًا في الصدق والصدع بالحق في أحلك أوقات الأمة دموية. هذا يدل على أن إجماع اهل الحديث العباسيون على اجماع الصحابة المزعوم على خلافة علي بن ابي طالب باطل.
إن إعلان أبي موسى بخلع علي وإعادة الأمر شورى، رغم صعوبة تطبيقه، يدل على أنه لم يكن يعتقد في شرعية إمامته. فلو كان يراه إمام حق، فلماذا يخلعه على الملأ؟ إن هذا يثبت أن بيعة كبار الصحابة لعلي، إن وجدت، كانت تحت الإكراه والتهديد.
في ميزان القرآن: جزاء الحرابة وأمانة الشورى المهدورة
لقد كانت آيات الحرابة في سورة المائدة من أعوص الآيات عليّ فهمًا. كنت أقول: ما هذه الوحشية؟ يستحيل أن يقول الله هذا. فكل آيات القرآن رحمة، حتى آيات القتال لم تأت إلا كحد قصاص وتتم بكل قوة ورحمة. لكن بعد نظري في التاريخ الإسلامي، رأيت أهمية حد الحرابة، وأنه الجزاء الوحيد الشافي للقلب. أرأيتم ما فعل ترك قتلة عثمان بالأمة؟ لقد تحولت الجزيرة الآمنة والحرم الآمن إلى حمام دم لمئات السنين.
﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...﴾ (المائدة: 32). إن قتل عثمان كان كقتل الناس جميعًا فعلاً، إنها ضربة وُجهت لكل الفئة المؤمنة التي هي صمام أمان الناس.
ولقد فهمت أن جزاء محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادًا ﴿أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 33) ليس كما فهمه فقهاء العصور الوسطى. فالقرآن مثاني، والجزاء من جنس العمل.
• فمن قَتَل، يُقتَل.
• ومن عذّب ونكّل، يُصلّب (يُعلّق كعقوبة رادعة لا تفضي للموت).
• ومن أغار ونهب وسبّب العاهات، تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف (تُجرح جرحًا بليغًا كعلامة وعبرة، لا بترًا كما زعموا).
• ومن كان فساده باللسان والتحريض، يُنفى من الأرض لعزل شره.
إنها عقوبات دقيقة وليست همجية. والأعظم من ذلك، أن الله برحمته فتح للمحاربين باب النجاة: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ (المائدة: 34). لقد كان باب التوبة مفتوحًا لقتلة عثمان عند التحكيم، لكنهم ولحظهم العاثر، سفهوا حكم الحكمين ورفضوه.
إن تحليل محاججة ابن عباس للخوارج، كما وردت في الروايات، تفضح أن هناك اتفاقية صلح حدثت بالفعل، وأن قرار الحكمين لم يعجب عليًا ولا فئته، فتجاوزوه لشروط سياسية أرادوها. لقد رفضوا حكم الله الواضح وعادوا لحكم الأهواء، فمكر الله بهم، وكانت نهايتهم عبرة لمن يعتبر