الفصل الخامس آلـيـة الـتـحـريـف: أعـنـاق الـزجـاجـة والـزجـاجـة الـمـكـسـورة
أخي في الله،
نصل الآن إلى فصل هو لُب رسالتنا ومنهجنا. فبعد أن سرنا في الأرض ورأينا الآثار، وبعد أن غصنا في أعماق التاريخ، حان الوقت لننظر في الكتب نفسها، لنفهم "كيف" طرأ عليها التغيير، و"لماذا" كان لا بد من رسالة خاتمة محفوظة. هذا الفصل هو تشريح لـ "آلية التحريف"، وبيان لدور القرآن كـ "مهيمن" يعيد الحق إلى نصابه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الخامس
آلـيـة الـتـحـريـف: أعـنـاق الـزجـاجـة والـزجـاجـة الـمـكـسـورة
إن الإيمان بكتب الله السابقة أصل من أصول الإيمان، ولكن هذا الإيمان لا يكتمل إلا بفهم الحقيقة التي قصها علينا القرآن: أن هذه الكتب، رغم أصلها الإلهي النقي، قد تعرضت لعبث الأيدي البشرية، فضاع منها ما ضاع، وحُرّف منها ما حُرّف. إن القول بالتحريف ليس اتهامًا جزافيًا، بل هو تشخيص تاريخي وعلمي لحالة هذه النصوص، وهو ما سنعرضه في هذا الفصل، لا لنطعن في أصل الوحي، بل لنثبت عظمة حكمة الله في إرسال وحي محفوظ يكون هو المرجع الأخير للبشرية.
سنتناول هنا حال الكتابين السابقين، التوراة والإنجيل، لنرى كيف أن الظروف التاريخية لكل منهما قد هيأت لوقوع التحريف، ولكن بآليتين مختلفتين: آلية "أعناق الزجاجة" التي مرت بها التوراة، وآلية "الزجاجة المكسورة" التي هي حال الإنجيل.
المحور الأول: التوراة و"أعناق الزجاجة" التاريخية
إن تحريف نص مقدس منتشر بين أمة كبيرة تمتلك آلاف النسخ هو أمر شبه مستحيل. ولكن ماذا لو مرت هذه الأمة بكارثة قومية أدت إلى ضياع النسخ الأصلية، وحصرت ما تبقى من علمها في أيدي فئة قليلة؟ هذه هي "أعناق الزجاجة": لحظات تاريخية حرجة يضيق فيها مسار انتقال النص، فيصبح هشًا وقابلاً للتغيير. لقد مرت توراة موسى عليه السلام بعدة أعناق زجاجة، أخطرها اثنان:
الفوضى والانقسام: بعد عصر موسى ويوشع، دخل بنو إسرائيل في فترة من الفوضى والانقسام السياسي (عصر القضاة ثم انقسام المملكة). أدى هذا إلى نشوء مراكز كهنوتية متنافسة، كل منها له تقاليده ونصوصه، مما فتح الباب على مصراعيه للإضافات والتحريرات التي تخدم الأجندات السياسية لكل مملكة.
الكارثة الكبرى: السبي البابلي (586 ق.م.): هذا هو "عنق الزجاجة" القاتل. حين دمر نبوخذنصر هيكل سليمان، لم يدمر مجرد مبنى، بل دمر الأرشيف المركزي للدولة والمكتبة الرسمية التي كانت تحوي النسخ المعتمدة من التوراة. لقد أُحرقت الأسفار، وقُتل الكهنة والكتبة، وسُبيت النخبة إلى بابل. لقد انقطع السند، وضاعت الأصول.
إعادة الكتابة في عهد "عزرا": بعد العودة من السبي، قاد "عزرا الكاتب" ومن معه مشروعًا لإعادة إحياء الأمة. هذا المشروع لم يكن مجرد جمع لما تبقى من شتات، بل كان عملية "إعادة تأسيس وكتابة" للتوراة بناءً على ما حُفظ في الذاكرة وما نجا من قصاصات متفرقة. في هذه اللحظة، التي احتُكر فيها النص في يد لجنة محدودة من الكهنة والكتبة، كانت الفرصة سانحة لإعادة صياغة التاريخ بما يخدم رؤيتهم الجديدة.
وهنا يمكننا أن نفهم كيف يمكن لقصة شنيعة مثل اتهام نبي الله هارون بصناعة العجل أن تُقحم في النص. ربما كان ذلك لضرب شرعية فئة كهنوتية منافسة تنتسب لهارون، أو لتبرير كارثة السبي باعتبارها عقابًا على خطيئة أصلية بدأت من قمة الهرم الديني. إن النص الذي خرج من "عنق الزجاجة" البابلي لم يعد هو النص النقي الذي نزل على موسى، بل نص بشري يحمل آثار الصدمة التاريخية والأهداف السياسية لمرحلة إعادة البناء.
المحور الثاني: الإنجيل و"الزجاجة المكسورة"
إذا كانت التوراة قد مرت بأعناق زجاجة ضيقة، فإن حال الإنجيل أشد خطرًا. فالإنجيل الأصلي الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، لم يمر بعنق زجاجة، بل إن زجاجته قد تحطمت بالكامل منذ البداية، ولم يصلنا منها إلا شظايا متناثرة.
ضياع الأصل: لم يكتب المسيح ولا تلاميذه الإنجيل الأصلي في حياته. لقد ضاع الأصل الآرامي (لغة المسيح) وضاعت النسخة الأصلية.
الفجوة الزمنية: هناك فجوة تمتد من 40 إلى 70 عامًا بين رفع المسيح وكتابة أولى "السير الذاتية" عنه (الأناجيل الحالية). طوال هذه الفترة، كانت قصصه وأقواله تُروى شفهيًا، فتتعرض للنسيان والترجمة والتغيير.
تدخل بولس: إن الشخصية المحورية التي أسست المسيحية الحالية هو "بولس"، وهو رجل لم ير المسيح، بل كان من أعدائه ثم ادعى رؤيته في رؤيا. لقد أعاد بولس صياغة رسالة المسيح بالكامل لتناسب العقلية الرومانية الوثنية، فأدخل مفاهيم تأليه المسيح والصلب والفداء والخطيئة الأصلية، وألغى شريعة موسى التي جاء المسيح ليتممها.
التلاعب السياسي (مجمع نيقية 325 م): تدخل الإمبراطور الروماني قسطنطين بشكل مباشر لفرض عقيدة معينة (ألوهية المسيح)، وأمر بإحراق كل الكتب التي تخالفها. لقد تحول الدين إلى قرار سياسي يُفرض بالسيف.
شبح "المصدر Q": إن أكبر اعتراف من علمائهم بهذه الكارثة هو نظريتهم عن "المصدر Q"، وهو كتاب مفقود افترضوا وجوده ليبرروا التشابه بين بعض الأناجيل. إن وجود كتاب أصلي مفقود يحتوي على أقوال المسيح الحقيقية هو أكبر دليل على أن "الزجاجة مكسورة"، وأن ما لديهم ليس إلا شظايا أعيد تجميعها.
المحور الثالث: القرآن "المهيمن" - النسخة المحفوظة والمصححة
أمام هذا المشهد من الضياع والتحريف، تتجلى حكمة الله ورحمته في إنزال القرآن الكريم، وحفظه حفظًا مطلقًا ليكون هو المرجع الأخير للبشرية.
وعد الحفظ الإلهي: على عكس الكتب السابقة التي وُكل حفظها للأحبار والرهبان فضيعوها، تكفل الله بنفسه بحفظ كتابه الخاتم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 9). وقد تحقق هذا الوعد بالتواتر الشفهي والكتابي منذ اللحظة الأولى لنزوله.
وظيفة "الهيمنة": لم يأت القرآن ليمحو ما قبله، بل ليقوم بوظيفتين عظيمتين كما تصفه آية المائدة: مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (المائدة: 48).
مُصَدِّقًا: يصدق على أصل الوحي، وعلى الحقائق الإلهية الباقية في تلك الكتب.
وَمُهَيْمِنًا: أي حاكمًا وشاهدًا ورقيبًا. فهو الذي يكشف التحريفات، ويصحح الأخطاء التاريخية (كبراءة هارون)، وينقي العقيدة من شوائب الشرك (كتأليه المسيح)، ويعيد القصة إلى أصلها النقي الذي أراده الله.
الخلاصة:إن تاريخ الكتب السابقة هو تاريخ مأساوي لضياع الأمانة. أما تاريخ القرآن فهو قصة معجزة لحفظ الله لوحيه. إن فهمنا لآلية التحريف التي مرت بها التوراة والإنجيل لا يقلل من إيماننا بأنبياء الله ورسله، بل يزيدنا يقينًا بضرورة الرسالة الخاتمة، ويزيدنا تمسكًا بهذا النور المحفوظ الذي بين أيدينا، والذي جعله الله حجة على العالمين إلى يوم الدين.