مقدمة: لماذا الآن وكيف؟ - منهج العودة إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم،
مقدمة: لماذا الآن وكيف؟ - منهج العودة إلى الله
أخي في الله، يا كل باحث عن الحق في زمن الغربة،
هل تشعر بذلك؟ هل تشعر أننا تائهون في صحراء تمتد لقرون؟ هل ترى الأمة كجسد مريض، يتنازعه فريقان يدعيان علاجه، وكلاهما يسقيه السم؟
- فريق يقول: "دواؤك في العودة إلى ماضينا! إلى تراث السلف!"، فيقدمون لنا تاريخًا من الدم والفتنة والملك العضوض، ويأمروننا بتقديس رجال أخطأوا وأصابوا، ويجعلون من رواياتهم دينًا بجانب دين الله.
- وفريق آخر يصرخ: "انظروا إلى ماضيكم الأسود! لا حل لكم إلا أن تتخلصوا من هذا الدين كله في حياتكم العامة، وتتبعوا طواغيت الشرق والغرب".
كلاهما، التقليدي والعلماني، وإن اختلفا في الظاهر، إلا أنهما يتفقان على نتيجة واحدة: "اهجروا القرآن!". الأول يهجره إلى روايات الرجال، والثاني يهجره إلى قوانين البشر.
فلماذا الآن؟
لأننا وصلنا إلى القاع. لأن الأمة لم تعد تحتمل المزيد من هذا الفصام الفكري، وهذا الخزي العملي. لأن صرخات المظلومين في كل مكان، من أطفال غزة إلى كل مستضعف في الأرض، تكشف لنا أن كل المناهج البشرية قد فشلت، وأنه لا سبيل لنا لتسود العدالة على الأرض إلا بالعودة إلى المنهج الذي نزل من السماء. الآن، لأننا لم نعد نملك ترف الانتظار.
وكيف نعود؟
إن العودة إلى الله ليست شعارًا عاطفيًا، ولا صرخة يائسة. إنها "منهج عمل" واضح ودقيق، رسمه لنا الله في كتابه. إنه المنهج الذي سنسير عليه في هذا الكتاب، والذي يقوم على أصول خمسة، هي مفاتيح فهم القرآن وإقامة الدين:
الأصل الأول: الإيمان بكمال القرآن وكفايته
قبل كل شيء، يجب أن يستقر في قلبك أن هذا القرآن الذي بين يديك هو رسالة الله الكاملة التامة إليك. هو كتابٌ بيّن بنفسه، مبيّن لغيره، فصّله الله تفصيلاً، وجعله تبيانًا لكل شيء. نحن لا نؤمن بكتاب يحتاج إلى "كتالوج" آخر من خارجه ليشرحه، أو "ملحق" من كلام البشر ليكمله.
﴿الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1).
الأصل الثاني: نبذ "الأمية" في كتاب الله
إن من أسباب هلاك الأمم قبلنا هو انقسامهم إلى طبقة "أحبار ورهبان" تحتكر فهم الكتاب، وعامة "أميين" لا يعلمون الكتاب إلا أماني يلقيها إليهم كهنتهم. إن الله لم ينزل القرآن ليكون حكرًا على أحد. وكل من يرضى بأن يكون جاهلاً بكتاب ربه، معتمدًا على فهم غيره، فقد اختار لنفسه طريق الضلال.
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (البقرة: 78).
الأصل الثالث: التدبر فرض عين على كل مسلم
إن الأمر بتدبر القرآن لم يأتِ بصيغة "يا أيها العلماء"، بل جاء بصيغة عامة لكل من في قلبه حياة. إنه فرض عين عليك، وعليّ، وعلى كل من يقول "لا إله إلا الله". فمن أغلق عقله عن تدبر كلام ربه، فقد أغلق على قلبه أقفاله.
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24).
الأصل الرابع: وظيفتنا التدبر والتطبيق، لا التأويل والحكم
إن "تأويل" القرآن، أي معرفة مآلاته النهائية على الأشخاص والأحداث، هو من علم الغيب الذي استأثر الله به. أما نحن، فوظيفتنا أن نتدبر الآيات المحكمات الواضحات، ونفهم أمر الله ونهيه، ونسلم له تسليمًا. نحن نسعى لتطبيق مراد الله، لا لتقمص دور الله في الحكم على مصائر خلقه.
﴿...وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا...﴾ (آل عمران: 7).
الأصل الخامس: القرآن "مثاني" يشرح بعضه بعضًا
هذا هو المفتاح الذهبي لفهم القرآن. إنه كتاب "مثاني"، يوضح بعضه بعضًا. كل كلمة غامضة في موضع، تجدها مبيّنة في موضع آخر. كل مفهوم مجمل في سورة، تجده مفصلاً في سورة أخرى. لن تحتاج أبدًا للخروج عن القرآن لفهم القرآن.
بهذه الأصول الخمسة يا أخي، سنبحر معًا في هذا الكتاب. سنستخدمها كبوصلة ترشدنا، وكميزان نزن به كل فكرة وكل تاريخ وكل صنم.
هذا الكتاب ليس دعوة لفرقة جديدة، ولا لتأسيس مذهب جديد. إنه دعوة للعودة إلى الأصل، إلى "الإسلام" كما أراده الله، دينًا يقوم على التسليم لله وحده، بكتابه وحده.
إنها رحلة لتحطيم الأصنام: صنم التطور العشوائي، وصنم السلف المزعوم، وصنم الطواغيت القدامى والجدد. وهي رحلة لبناء التصور الصحيح: عن الله، وعن الإنسان، وعن الألم، وعن التاريخ، وعن المنهج. فاستعن بالله، واعقد العزم، ولنبدأ المسير.