جماعة التبليغ والدعوة.. صدق الأداة وغياب الغاية
في بداية رحلتي أيضاً، صادفتُ جماعة التبليغ والدعوة، ولقد استخلصتُ من مخالطتي لهم عبراً وحِكَماً أحب أن أشارككم بها.
جماعة التبليغ، لمن لا يعرفها، نشأت في الهند وباكستان وانتشرت في كل العالم الإسلامي. قوامها في الغالب رجال في الأربعين فما فوق، مع قليل من الشباب. هم ثلة من الرجال يحملون فكرة "الدعوة إلى الله" بإخلاص ومثابرة يُحسدون عليهما. لقد عشتُ معهم فترة، واقتربتُ جداً من طريقتهم، وشاركتهم أحلامهم. التزمتُ بمجالس الذكر التي يعقدونها بعد صلاة العشاء، وخرجت معهم في "الجولات" قبل الصلاة لدعوة الناس من المقاهي والطرقات، وذهبت معهم في زيارات للمرضى والمحتاجين، وكنت أوزع معهم ما يسمونه "الإكرام" (الطعام).
كان لهم ثلاثة أيام من كل شهر يخصصونها لما يسمونه "الخروج في سبيل الله"، حيث ينقطعون في المسجد ويتفرغون للدعوة وحلق الذكر. لقد أخذت جماعة التبليغ أداة عظيمة من أدوات إقامة الدين، وهي "الدعوة"، وأخلصوا لهذا الركن إخلاصاً شديداً.
ثبات على البساطة في وجه التقلبات
وهنا لا بد من وقفة إنصاف. إنني، ويا للعجب، أحسدهم على ثباتهم الشديد. فبينما كان يسخر منهم من أعرفهم، ويصفونهم بالجهال والدراويش والمبتدعة، لا يزال أهل التبليغ بعد مرور ربع قرن كما هم: على بساطتهم وتلقائيتهم، بوجوههم المبتسمة، وأحضانهم الدافئة، ثابتين على الدعوة إلى مكارم الأخلاق والإحسان إلى الناس. أما أولئك الذين كانوا يحتقرونهم ويزدرون ضحالتهم، متشدقين بـ"السلفية العلمية" ومتباهين بالأسانيد العالية، فقد تحول كثير منهم اليوم إلى علمانيين متطرفين، ودعاة للفواحش، موالين للطواغيت.
لقد تركتُ أهل التبليغ لأني كنتُ في تلك المرحلة متعجلاً، أبحث عن تغيير واقعي وملموس، وكنت أشعر أنهم يعيشون داخل "أداة الدعوة" دون أن تكون لديهم رؤية إصلاحية شاملة تصل إلى لب الفساد. ومع ذلك، لا أنسى حكمتهم التي كثيراً ما أعجبتني بعد أن ذقتُ مرارة معاندتها، وهي قولهم: "من السياسة ترك السياسة".
ولا أنسى يوماً سألتُ أحد كبرائهم، وكان شيخاً وقوراً، وأنا أتحرق ألماً: "ألا ترى فساد الناس والحكام؟ لماذا لا تحمل على عاتقك تغيير هذا المنكر الكبير ولو بالدعوة والبيان؟". فأجابني بكلمة لا تزال محفورة في ذاكرتي: "يا ولدي، ليست وظيفتي اليوم أن أوجه الناس إلى النتائج، بل أن أجعلهم يشاركونني في فهم البرهان، وساعتها ستكون معرفة النتيجة أمراً حتمياً لا يحتاج إلى بيان".