رحلة بحث التقويم الكوني
إن بحثي هذا لم يكن نتاج دراسة أكاديمية جامدة أو رحلة فكرية عابرة، بل هو عصارة رحلة استغرقت مني قرابة ربع قرن، استنفذت فيها زهرة شبابي وأغلى أيامي. رحلةٌ رأيت فيها شباباً كالورد يُسجنون، وعلى أشد أنواع العذاب يُفتنون، وبالرصاص على الثغور يُغربلون. لقد بحثتُ في خضم أمواج الفرق المتلاطمة، يمنةً ويسرةً، عن حلٍّ لهداية قلبي أولاً، ثم لضعف أمتي ثانياً، فقد عزّ عليَّ أن أرانا في كل بقعة مستضعفين؛ أطفالنا يُقتّلون، ورجالنا يُغتالون، ونساؤنا يُهانون ويُذلّون.
طرقتُ في رحلتي أبواب جل الفرق الإسلامية، لم أكن فيها مجرد مطّلع، بل تقمصتُ أحوال أهلها، وعشتُ تجاربهم بعيونهم، وجرّبتُ فرضياتهم الإصلاحية، وأنفقتُ من مالي وجهدي. رأيتُ في مسيري هذا لياليَ مظلمة ومصاعب كادت تودي بنفسي وبكل من أحبُّ وكل ما أحب، حتى هزل جسدي وطال صيامي وقيامي.
ولكنني، بعد رحلة البحث المضنية هذه، وجدتُ أن الحق الذي يجمعهم جميعاً هو أن يُخلصوا دينهم لله أولاً، فيعظموه ويفردوه -جل وعلا- بحق التأليه والربوبية والحكم والتشريع، وأن يعتصموا بحبل الله جميعاً (القرآن) ولا يتفرقوا. وأيقنتُ أن أصل الداء هو ما اشتكى منه النبي ﷺ يوم قال: ﴿...يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾. إنه ليس هجراناً عادياً، بل هجرانٌ مؤصَّل، خلفه شركٌ يتبع فيه الناس سبلاً غير سبيل الله، ومشرّعين غير شرع الله، وديناً غير دين الله، وكلاماً غير كلام الله.
قبل أن أبدأ بالكلام الذي قد يبدو أكاديمياً - وما هو بأكاديمي - اسمحوا لي. فهذا الكلام، وإن تحققتُ من كل كلمة فيه بما بلغني من برهان، فإنه في جوهره إيمانٌ استقر في سويداء قلبي، وهدايةٌ أنارها الله في عقلي، وثمرة رحلة طويلة كنت أخفيها سراً. ومادمت أريد لمن يقرأني أن يفهمني، فلن أتكلم بعقلي فقط، بل سأتكلم بقلبي وعقلي، بكل مشاعري وأيامي وأحلامي.
سأشارككم رحلتي لتشاركوني المشوار، فالمشوار أهم من النتيجة، لأن النتيجة ما هي إلا محصلة المشوار. سأشرككم أحزاني وابتلاءاتي لتعرفوا أن نضج هذه الرؤية لم يكن تفضلاً على أحد، بل هو أقصى ما اعتصرته مهجتي في خضم إعصار... إعصارٌ اجتاحني منذ أيام مراهقتي الأولى، حتى حطت قدماي على أعتاب الأربعين وأنا أتخبط يمنة ويسرة، حتى مكثت في قعر بحر لجيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض. ثم جاءني نور من حيث لا أحتسب، أنقذني من قعر الظلام وقذف بي إلى شاطئ النور.