الفصل الثالث: جزاء النسيان - الحكمة الإلهية من قلة ذكر أصحاب الأعراف.
الفصل الرابع: سنة التفاوت - بين غفلة الأنعام وذكاء الأقلية الوجودي
مقدمة: أكثرية غافلة وأقلية فاعلة
أيها الباحث عن الحق، حين تنظر في عالم الناس، قد يصيبك الذهول من التفاوت الهائل بينهم. ترى سوادًا أعظم من البشر يعيشون ويموتون في دورة رتيبة من الأكل والشرب والعمل والتكاثر، كأنهم ترس في آلة ضخمة، لا يكادون يرفعون رؤوسهم ليسألوا عن مهندس الآلة أو الغاية من دورانها. وعلى النقيض، ترى قلة قليلة، لا تكاد تُذكر، هي التي تحرك هذا الترس، وتوجه تلك الآلة، إما إلى الدمار والفساد، أو إلى الخير والإصلاح.
إن هذه الظاهرة ليست صدفة، بل هي "سنة التفاوت" التي ذكرها القرآن. وهي تؤكد أن "الذكاء الوجودي" - أي الوعي بالأسئلة الكبرى (من أين؟ لماذا؟ وإلى أين؟) والتحرك بناءً على إجابة ما - هو عملة نادرة، لا يملكها إلا القليلون.
1. السواد الأعظم: غفلة الأنعام
إن تشبيهك للأغلبية الساحقة بالأنعام هو تشبيه قرآني بامتياز. لقد سبقك به ربك الذي خلقهم وهو أعلم بهم. فالقرآن حين يصف السواد الأعظم من المعرضين عن الهدى، لا يصفهم بالشر المطلق، بل يصفهم بصفة أدق وأعمق: الغفلة. إنهم يعيشون بأجسادهم، لكن عقولهم وقلوبهم في سبات وجودي، لا تتفكر في آيات الله، ولا تتدبر في غاية الخلق.
تأمل معي هذا التشخيص الإلهي الدقيق:
﴿...لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179)
إنهم ليسوا شريرين بطبعهم، بل هم "غافلون". وهذه الغفلة تجعلهم يعيشون لهدف واحد، هو ذاته هدف الأنعام: التمتع بالحياة الدنيا.
﴿...وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ (محمد: 12)
وهؤلاء هم "أصحاب الأعراف" الذين تحدثنا عنهم. إنهم الكتلة البشرية الهائلة التي لم تنشغل بالغاية، فلم تناصر الحق بيقين، ولم تعاند الباطل باستكبار.
2. الأقلية الفاعلة: ذكاء وجودي في اتجاهين
من بين هذه الأغلبية الغافلة، تستيقظ قلة قليلة، وتنتقل من مرحلة الغفلة إلى مرحلة "الفعل" و"التأثير". هذا "الذكاء الوجودي" الذي استيقظ فيهم يدفعهم في اتجاهين لا ثالث لهما، كما ذكرت تمامًا:
أ) قلة الإفساد (شياطين الإنس):
هم الذين استيقظ وعيهم، لكنهم وجهوه لخدمة أهوائهم وأنانيتهم. هدفهم هو "السيطرة والإفساد". هؤلاء يسميهم القرآن "الملأ"، و"الطاغين"، و"المترفين". إنهم القلة التي تخطط وتفسد في الأرض، وتستغل غفلة الأغلبية لتركبها وتحقق بها مآربها. هؤلاء هم مهندسو الشر في العالم.
ب) قلة الإصلاح (أولو الألباب):
هم الذين استيقظ وعيهم، فوجهوه لمعرفة الحق واتباعه. هدفهم هو "الإيمان والإصلاح". هؤلاء يسميهم القرآن "أولو الألباب"، و"السابقون"، و"الربانيون". إنهم القلة التي تحمل همّ البشرية، وتسعى لإيقاظ الغافلين من سباتهم، ودعوتهم إلى نور ربهم، ومقاومة إفساد المفسدين. هؤلاء هم ورثة الأنبياء، ومهندسو الخير في العالم.
الخاتمة: حقيقة مهمة ومنهج عمل
إذًا، نعم يا أخي، إن الذكاء الوجودي نادر جدًا. والقرآن يقرر هذه الحقيقة لا ليزرع فينا اليأس، بل ليوضح لنا "منهج العمل". فدعوتنا ليست موجهة في الأساس لمحاربة جموع الغافلين، بل هي موجهة إلى:
- إيقاظ الغافلين (السواد الأعظم): مهمتنا الأولى هي مخاطبة فطرة هذه الأغلبية، ومحاولة إيقاظ وعيها الوجودي، وانتشالها من حياة الأنعام إلى حياة الإنسان الذي كرمه الله.
- كشف المفسدين (قلة الشر): مهمتنا الثانية هي فضح مخططات قلة الإفساد، وتحذير الأغلبية من شرورهم، فهم العدو الحقيقي الذي يستغل غفلتهم.
- التجمع مع المصلحين (قلة الخير): مهمتنا الثالثة هي البحث عن قلة الخير والتعاون معهم، فبهم ومعهم يقوم بنيان الحق.
وهذا الفهم العميق لطبيعة البشر هو المدخل الصحيح للفصل القادم، الذي سنتعلم فيه كيف نوازن بين الرحمة مع الغافلين، والشدة مع المفسدين، والولاء للمصلحين.