بعد أن كفرنا بكل الآلهة من دونه.. هل الله موجود؟
يا صديقي الباحث عن الحق، يا من سرت معي في دروب هذا الكتاب الوعرة، فهدمنا معاً أصناماً شاهقة من التراث، ونسفنا قلاعاً من الخرافة، وكفرنا بكل إجماع بشري نُصِّبَ شريكاً لله في حكمه وتشريعه. بعد كل هذا الهدم، وبعد أن وقفنا على أرض جرداء خالية من كل وثن، لا بد أن يرتفع في النفس ذلك السؤال الأبدي، السؤال الأكثر جوهرية وبدائية: بعد أن كفرنا بكل الآلهة من دونه... هل الله موجود؟
كثيراً ما كانت زوجتي، حين أُكثر في الكلام عن أدلة وجود الله المنطقية والفلسفية، تقص عليّ قصة تعجبها عن ذلك الإمام الحبر، الذي عظّمه المتكلمون حتى لقبوه بـ"حجة الإسلام"، الغزالي - رحمه الله -. نزل هو وصحبه منزلاً في سفر، وكانت بالبيت عجوز. دخل عليها الإمام في حاشيته، فلم تقم له كما اعتاد من الناس، ولم تبجّله كما يفعلون. استنكروا صنيعها وقالوا: "ألا تعلمين من هو هذا الرجل العظيم؟ قومي فبجّليه". قالت في بساطة فطرية: "لا أعرفه، فمن هو؟". قالوا: "هذا هو الإمام الذي جمع ألف دليل ودليل على وجود الله!".
فنظرت إليه وقالت كلمتها التي كانت كالصاعقة: "سبحان الله! وهل وجود الله يحتاج إلى ألف دليل ودليل؟ والله ما جمع ألف دليل، إلا وقد تولّد في قلبه ألف شك وشك".
يُقال إن الكلمة نزلت على قلب الغزالي برداً وسلاماً، ونوراً وفرقاناً، فجعل يردد: "اللهم إيماناً كإيمان العجائز... اللهم إيماناً كإيمان العجائز".
قد يسوق كهنوت التقليد هذه القصة ليذموا العقل ويحتقروا علم الكلام، ويدعوك إلى إيمان أعمى لا يقوم على برهان. ولكني، يا صديقي، أرى في قصة هذه العجوز الحكيمة فهماً أعمق وأجلّ. إن إيمانها لم يكن إيمان جهل أو تقليد، بل كان إيمان "يقين" راسخ، ولد من رحم "البرهان" المباشر الذي لا يحتاج إلى وسيط.
لقد شعرتُ أن إيمانها أرسخ من جدل المتكلمين لأنها لم تكن بحاجة إلى ألف دليل نظري، فقد كانت ترى حولها "مليارات" الأدلة الحية الناطقة. كانت ترى الله في تسوية أصابع يدها، وفي قطرة الماء التي تنزل من السماء فتحيي الأرض بعد موتها وتروي الظمآن. كانت ترى آثار صفاته، من قدرة وحكمة ورحمة، في حبة الخردل وفي أفلاك السماء. أدلة وجود الله، يا صديقي، ليست مئة ولا ألفاً، بل هي بعدد كل ذرة في هذا الكون، من أصغر كوارك إلى أعظم مجرة.
بل دعني أذهب معك إلى ما هو أعمق من ذلك. إنني أتأمل في السؤال ذاته: "هل الله موجود؟".
حين أتمعن في هذا السؤال بعمق، أجده وحده دليلاً عليه، جلّ وعلا.
إن وجودي أنا وأنت، ككائنات واعية، ذكية، نتساءل عن سبب وجودنا وغايته في هذا الكون المهيب الرحيب، بعد أن أتينا من لا شيء، لهو أعظم دلالة على أن من تجليات قدرة "موجد الوجود" أن يخلق كائناً واعياً متسائلاً عن كنهه وأصله وغايته. كائن يدرك أن وعيه أتى من العدم، فيحاول أن يفهم العالم ويتعرف عليه بعقله، ويرى فيه عياناً آثار وأفعال هي انعكاسات لصفات خالقه. إن الشرارة التي تقدح في عقلك هذا السؤال، هي بحد ذاتها نفخة من روح ذلك الخالق.
ولكن، كن على حذر يا صديقي. أنا لا أذم الشك أبداً، بل أراه بداية اليقين. فلا إيمان حقيقي إلا بتعقل، لا إيمان وراثي يُتلقى كما تُتلقى الأسماء والأنساب.
إن أعظم نموذج يقدمه لنا القرآن هو رحلة أبينا إبراهيم. لقد آمن بعد بحث واستقراء وشك. نظر في ملكوت السماوات والأرض، رأى كوكباً، ثم قمراً، ثم شمساً، فكفر بها كلها كآلهة، باحثاً عن حقيقة أكبر، حتى اطمأن قلبه، وهداه ربه إلى الذي فطر كل هذه الأشياء.
إن إيمان العجوز ليس نقيضاً لمنهج إبراهيم، بل هو خلاصة رحلته. إنه اليقين الهادئ الذي يأتي بعد عاصفة البحث، والسكينة التي تستقر في القلب بعد أن يكفر بكل الطواغيت والأصنام، فلا يجد ملجأً إلا إلى الله الواحد القهار.
فلا تخف من سؤالك، ولا تجزع من شكك، فهذا هو الطريق الذي سلكه من قبلك الأنبياء والصديقون. إنه طريق الهدم الذي يسبق البناء، ولحظة الظلام الكامل التي يعقبها بزوغ فجر اليقين الذي لا يغيب.
يا من عبرت معي صحراء الشك وهدمت أصنام التقليد. الآن، نصل إلى قمة الجبل، إلى السؤال الأكبر الذي يطرحه كل عقل متفكر، وتلوح به ألسنة المتشككين كسيف قاطع:
حكمة الحجاب: لماذا لا نرى الله جهرة؟
بعد أن هدمنا أصنام التقليد، نصل الآن إلى السؤال الأكبر الذي يطرحه كل عقل متفكر، وتلوح به ألسنة المتشككين كسيف قاطع: لماذا الله غائبٌ عنا بذاته فلا نراه عياناً؟
إنه السؤال الذي يتردد صداه عبر العصور، والله نفسه قد بيّن في كتابه أن سنته في مخاطبة البشر لا تقوم على الظهور المباشر، بل تقوم على الحكمة والحجاب:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
ولكن النفس البشرية الكنود تظل تطالب بالمستحيل، وتتعالى على حكمة الخالق، فتردد ذات الطلب الذي طلبه الكفار من قبل:
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا
غير مدركين أن إجابة هذا الطلب ليست بشرى، بل هي نذير الهلاك ونهاية الفرصة:
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا
فلماذا إذن هذا التصميم؟ لماذا لا ينزل الله آية واحدة قاهرة، تخرس الألسن وتخضع الأعناق، وتنهي حالة الجدل إلى الأبد؟ إن الله يؤكد قدرته على فعل ذلك، ولكنه لا يفعله لحكمة أعظم:
طسٓمٓ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
إن انتظار مثل هذه الآية هو انتظار ليوم لا ينفع فيه إيمان لم يأت عن اختيار وقناعة:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
إن الجواب يا صديقي، ليس في عجز الله - حاشاه - بل في كمال حكمته. إن الجواب يكمن في فهم "تصميم" هذا العالم الذي نعيش فيه.
ساحة الاختبار: شرط الحرية المطلقة
إن هذا العالم الذي نحياه، هذه الحياة الدنيا، لم تُصمم لتكون دار قرار أو نعيم دائم، بل صُممت بعناية فائقة لتكون ساحة اختبار للوعي البشري. ولكي يكون الاختبار حقيقياً وعادلاً، لا بد من توفر شرط واحد لا غنى عنه: الحرية الكاملة التامة للاختيار.
إن وجود أي حجة قاهرة للعقل، أو أي إظهار مباشر لعالم الغيب، كان سينسف الغاية من هذا العالم من أساسها. فلو ظهر الله جهرة، أو نزلت الملائكة أمام أعيننا، لما عاد هناك معنى للإيمان بالغيب، ولتحول الأمر إلى إيمان مشاهدة وإذعان قهري، لا إيمان اختيار وحب. لقد كان سيتحول البشر إلى روبوتات مبرمجة على الطاعة، وهذا ليس ما أراده الخالق من خلقه الواعي.
لقد صُمم هذا العالم ليتيح لك الحرية المحضة بين أمرين:
- الانقياد الاختياري لأمر الله: فتخضع له ظاهراً وباطناً، وتتأمل بعقلك في عظيم آياته، فتصل إلى قمة النعيم والنورانية والسلام والرحمة.
- الإباء عليه والخروج على أمره: فتختار طريق الظلم والفساد، فترى بنفسك وتذوق بعينك آثار هذا الاختيار من دموية وظلامية وجحيمية، وتعيش في الكبد والمشقة والحسرة، وتدرك يقيناً أن كل ما دون الله باطل، وأن كل تولي لغيره مُضل.
إن حجب الغيب هو الذي يسمح بوجود هذه الحرية، وهذه الحرية هي التي تسمح بوقوع أعظم حدث في الوجود.
الغاية الأسمى: ولادة الإيمان الحق
إن حجب الآية القاهرة ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لتحقق أعظم شرف يمكن أن يناله مخلوق، وهو ليس مجرد رؤية الله، بل هو حب الله وتأليهه، واختيار عبادته طوعاً ووعياً.
إن هذا التصميم الكوني يتيح لنا أن نرى بأم أعيننا أن البعد عن أمر الله وحكمته هو عين الفساد، والبعد عن نوره هو الظلمة، والبعد عن منهجه هو الضلال. نرى الأرض قد ضجّت بالفساد بما كسبت أيدي الناس، ونختبر يقيناً أن اتخاذ أرباب من دون الله مُضل، وأنه ما لنا من دونه من ولي ولا نصير.
وبضدها تُعرف الأشياء. والله إن فساد هذا العالم الزائل وشقاءه لهو من أعظم الأدلة القائمة في الوجود على عظمة خالقه وكمال حكمته. فلو كان العالم كله يمضي في اتجاه إيجابي واحد نحو نوره جل وعلا، لما شعرنا بعظمة النعمة؛ فالمغموس في النعمة يألفها حتى لا يدرك قيمتها، ويظنها أمراً عادياً. إن انقسام الوجود إلى نورٍ بقربه وظلمةٍ في البعد عنه، ونعيمٍ في طاعته وعذابٍ صعداً في الحكم بغير ما أنزل، لهو تجلٍ عظيم من أعظم تجليات الإله الكامل، الرب الأحد الصمد.
وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا (*) لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا.. سورة الجن (16-17)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ... سورة الروم (41)
وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ... سورة الأعراف (96)
فالفساد لم يظهر في الحقيقة إلا نتيجة لهذا العالم الاختياري الاختباري فلو كان أدم لم يرتكب النهي الأول لما خرج من الجنة البدائية الأولى التي له فيها ألا يجوع و لا يعري و لا يظمأ ولا يضحى و له السكن و الأنس بالزوجة
إن أعظم تجربة أن نرى بأعيينا الناس الذين يبعدون عن نور الله باختيارهم وحريتهم ان ذلك ضد مصلحتهم .
فلولا هذا العالم الاختباري، لما عاش المؤمن تلك التجربة الفريدة: تجربة الإيمان الاختياري بالله والفرار إليه من الطاغوت، ليحمدوا الله أنهم كانوا على شفير الهلاك فأنجاهم محبوبهم الأعظم بفضل منه وحده، وأنهم كانوا في الظلمات فأدخلهم النور، وأنهم كانوا ملوثين بالظلم والجهل والشح والجزع والكفر الذي هو من طبيعة الإنسان، فنقلهم إلى تزكية صرفة بيد الحق الكبير.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا
إنها تلك اللحظة النورانية الكبرى التي يتجلى فيها الإيمان في قلب المؤمن، فيدخل في السلم كافة، ويُقبل على الله بكل جارحة من جوارحه، ويتمكن حب الله من كل ذرة في كيانه حتى سويداء قلبه، فتمتلئ نفسه بالرضا والاطمئنان والسكينة.
إنها اللحظة الحقيقية التي يدخل فيها المؤمن جنة الدنيا، ويصبح كل نعيم بعدها مجرد تابع يسير لذلك النعيم الأكبر. إنها اللحظة التي يذوق فيها معنى أن يُحبب الله الإيمان ويزينه في قلبه.
صدقوني، لن يفهم هذا المعنى إلا من اختبره، ولا يمكن لأبلغ العبارات البشرية أن تصفه. هي لحظة يبيع فيها المؤمن نفسه وماله لربه عن طيب خاطر، ويفدي رضاه بالدنيا وما فيها. هي لحظة يرتفع فيها وجدانه عن هذا العالم الزائل، إقبالاً وطمعاً وخوفاً وحباً وشوقاً للقاء ربه.
رزقكم الله تلك اللحظة الكبرى التي تجدون فيها ريح الجنة، فمن أجلها خُلقت العوالم، وأُوجد الثقلان.
شواهد من كتاب الله
إن القرآن كله، من أوله لآخره، يؤكد هذه الحقيقة: أن هذه الحياة ابتلاء، وأن الإيمان كلمة لا بد أن يصدقها العمل، وأن الغاية هي علم الله بمن ينصره بالغيب. تأمل في هذه الآيات لترى كيف تتضافر كلها لترسم هذه الصورة الكاملة:
- الابتلاء: قانون الخلق والغاية
• الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
• وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
• وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
• لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ
• أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
• أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
- لحظات التجلي: حين يشرق نور اليقين شاهد كيف يتحول الابتلاء إلى يقين في قلوب المؤمنين الصادقين:
• وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا
• قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
• لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعِلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ
• وعندما هدد فرعون السحرة بالتقطيع والتصليب، ماذا كان جوابهم بعد أن مس الإيمان قلوبهم؟ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
إن "غياب" الله المادي هو الذي سمح بـ "حضور" الإيمان الكامل في قلوبهم. لقد اختاروا الله بالغيب، فكافأهم الله بالسكينة والرضا واليقين في عالم الشهادة. وذلك هو الفوز العظيم.
الكلمة التامة: كفاية الوحي في وجه الجحود
وفي ختام هذا الجواب، يضع القرآن الكلمة الفصل. فالمشكلة ليست في قلة البراهين، بل في القلوب التي لا تريد أن تؤمن. فلو تحققت كل معجزة طلبوها، لما آمنوا، لأن قرارهم بالرفض نابع من اتباع الهوى والظن، لا من غياب الدليل.
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ
فما هو الحل إذن أمام هذا الجحود؟ وما هو المرجع الذي لا يأتيه الباطل؟ إنه ليس رؤية العين، بل بصيرة القلب التي يهديها الكتاب المفصل:
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّtْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
فالكلمة قد تمت، والحجة قد قامت بالقرآن، فهو الحَكَمُ العدل، وهو النور الكافي لمن أراد أن يبصر.
وحدة المعرفة حين يتكلم الله في الكون وفي الكتاب
إن الفصل المأساوي بين العلم والدين هو أكبر بلاء أصاب الفكر الإنساني، وهو وهمٌ روّج له التراثيون والعلمانيون على حد سواء. الحقيقة أن مصدر المعرفة واحد، وأن خالق الكون ومنزّل الكتاب هو ذاتٌ أحدية واحدة.
• "كلام الله" ليس فقط في النص القرآني، بل هو في شيفرة الـ DNA، وفي قوانين الفيزياء الكمومية، وفي نسبية أينشتاين وميكانيكا نيوتن.
• "نفخة الروح" التي حولت "الحمأ المسنون" إلى كينونة آدم البيولوجية المبرمجة، هي من جنس "وحي الروح" الذي نزل به القرآن على محمد. كلاهما نظام معلوماتي إلهي يحول المادة إلى حياة، والقلب إلى بصيرة.
• إن العلم التجريبي ليس خروجًا عن الدين، بل هو صميم المنهج الذي أراده الله. فحين يقول تعالى عن تدريب كلاب الصيد: "...تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ..." (المائدة: 4)، فهو يؤسس لقاعدة مذهلة: أن ما تكتسبونه بالتدريب والملاحظة والتجربة والاستقراء هو في حقيقته تعليمٌ إلهي مباشر.
إن الدين الحق لا يمكن أن يكون منفصلًا عن العلم والواقع وحياة الناس. والعودة إلى الفهم الصحيح للتقويم ليست مجرد تصحيح فلكي، بل هي استعادة لفلسفة التشريع التي تهدف إلى تأمين الحياة وحماية الأرزاق وتحقيق العدل، كما أرادها الله يوم خلق السماوات والأرض.
سنبدأ ب (لا إله) و ننتهي ب( إلا الله )
إن حين نؤمر بالإيمان يجب أن ننخلع عن الوراثة و التقليد ان المقلد مذموم ولو كان كتابي ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمني و إن هم إلا يظنون ) و إن طريقة الايمان بالوراثة أقصر طريقة لعبادة الشيطان و ليس عبادة الرحمن ( إنا وجدنا أباءنا على أمة و إنا على آثرهم مهتدون )
فكل كلمة من إيمان يخاطبنا الله بها يسبقها بمطالبات كبرى بالتعقل و التفكر و التدبر و كل ذم للكفار مقرون بامتناعهم عن التعقل و التفكر و التدبر وانغماسهم في الهوى و صفات العمى و الطمس و قلة الفهم
فالإيمان ليس كما يتصور مجرد أن اصطفانا الله بوراثة الكتاب أننا مسلمون أو مؤمنون ( ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ)
انها في الحقيقة حجة لنا أو علينا فأول صنف مذكور على كثرته الظالم لنفسه وهو واقع الكثير من إمتنا لا محالة الذي اشتكاه النبي لم عرض عليه يوم القيامة كحقيقة قدرية ( ربي ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) ...كيف اتخذناه مهجورا و يحفظه الأطفال في الكتاتيب و نتبرك به في كل ركن في البيت و السيارة و نقرأه مرارا في رمضان و في غيره و نسمعه في كل صلاة ..هل كل هذا ونحن نهجره ..نعم نهجره ...إن هجرانه هجران تدبر و عمل وهي أمر مظاهر الهجران
وإن كان مدخلنا في كل ما نعتقد التعقل و الفهم فلنبدأ باذن الله
أولا : هل الله موجود ؟
إن هذا السؤال يبطل كل بعده لو لم يكن الله موجودا لما احتجنا لكل هذا الصبر في الحق والبحث و لاكتفى كل انسان بدوره كنملة في كون فسيح لا حاكم له .
ويجب أن نسأل أنفسنا سؤال عميق هل نحن نؤمن فعلا أن الله معنا الآن وهو أقرب إلينا من حبل الوريد يسمعنا
هل نؤمن بتلك اللحظة الشديدة حين قال النبي لصاحبه ( لاتحزن إن الله معنا)
إن جواب هذا السؤال لباب كل المسألة و كل المسائل بعدها عالة عليها و لا قيمة لها بدونها ..ويقينك أن الله موجود يسمع كل نفس منك وانك تؤمن انه رحمن رحيم في صفاته كل افعاله تصدر عن حقيقته الرحمانية الكبرى و الصفات العلى الحسنى
فصدقوني حققوا الاخلاص فيها
ووالله إن ملحدا مكذب بالله مساوي عند الله لمدعي للإيمان يكذب على الله وينسب له ما لم ينزله من صفات وافعال و احكام من قول فلان وعلان
بل الله جعله هو المقدم بالذم قوله تعالى
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
وقوله تعالى ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ
فوقوله تعالى ( َمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ
و قد جعل الله الكذب عليه متربع على كل الموبقات و المحرمات (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فجعل الله قمة المحرمات القول عليه بغير علم فوق الشرك به جل وعلا
وسأعيد القول التفكر في وجودية الله و التحقق منها يقينا أمر لا محيص عنه لانه الرقيب عليك في كل دليل و كل موقف و كل حكم ..عندما ننظر في كل مباحثنا الذي نريد أن نحاكم عليها كل أمورنا سيكون الله هو رقيبنا وحده وهو هادينا
ومن العجائب أن الإيمان بالله دوما معطوف على اليوم الآخر وهذه حقيقة عجيبة لم أكن أدرك عمقها
إن الاعتقاد برحمانية الله وكمال حكمه و حكمته يقتضي ان العالم الواعي الذي أعطينيا فيه حرية الاختيار بظلمنا وجهلنا يجب أن يصحح وإلا لكان قول الا أدريون صحيح ان قد يكون هناك إله لكنه صنع هذا العالم لهوا أو عبثا و نسيه وغفل عنه
والحقيقة أن قولهم هذا كان قد استقام لو تركنا الله دون كتاب كالقرآن و دون رسل
و لا أتعجب من قول كانط بضرورة الإيمان باليوم الآخر كحتمية رحمانية لله و ضرورية أخلاقية في نفس كل انسان لاستحالة ألا تحدث معادلة لتضحيات المؤمنين و معادلة لظلم الظالمين
ولعل كل الملحدين يفرغون كل شيء عن معناه و يقولون أن المعاني للخير و الشر هي ابتداع عقلي للانسان الواعي لا وجود لها في الطبيعة فعمر الانسان في الكون شبه صفري و هو منقرض لا محالة كملايين الانواع قبله
ونحن نؤكد أن الانسان اهون واقل بكثير من عظمة بناء الكون ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) و أن الانسان فعلا مغرور و ما هو إلا نقطة لا تذكر في بحر العظمة الخلقية الإلهية ...لكننا نؤمن بمعناوية و نسبية الخير و الشر هنا
و هو الاتفاق الانساني عموما المستقر في الجبلة الانسانية بل الأحيائية عموما وهو الولاء لما يحفظها
فسيتفق الجميع أخلاقيا أن أي سلوك يؤدي لاهلاك الحرث و النسل هو جريمة و ان الحفاظ على هبة الحياة البيلوجية المستقرة على الأرض من مليارات السنين هو غائية خيرية عظمى
وان الانسان الواعي حين يعمل على اهلاك تلك المنظومة من سفك الدماء و الافساد في الارض و اهلاك الحرث و النسل بشكل جذري لا كدورة طبيعية هو قمة الاجرام لذلك كبراء عقلاء البشرية يخشون أن اعمال الانسان من تغيير خلقة الله بتعقيم بعض الصفات الوراثية في النبات لأغراض احتكارية (راجع بحث د أحمد مستحير القرصنة الوراثية ) و ان انتشار الاسلحة النووية الفتاكة التي قد تدخل الارض في شتاء نووي قاتل لكل أشكال الحياة ان وقع بين أكابر مجرميها أو حتى الاحتباس الحراري لنتحول ككوكب الزهرة كوكب بلا حياة البتة بسب بمطامع الانسان وصراعته الاجرامية و تنافسه الغروري الذي لا يقدر لهذه الهبة البيولوجية التي نمت عبر مليارات السنين