عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفصل الأول: خلقٌ بقَدَر أم صدفةٌ عمياء؟

الكتاب الأول: هدم الأصنام الفكرية

الفصل الأول: خلقٌ بقَدَر أم صدفةٌ عمياء؟

مقدمة: صنم العصر الأكبر

في كل عصر، ينحت الناس بأيديهم أصنامًا يعبدونها من دون الله. وفي عصرنا هذا، لم يعد الصنم حجرًا أو تمرًا، بل صار "فكرة" تتلبس لباس العلم، وتتزين بمصطلحات براقة. إن أعظم صنم فكري يُعبد اليوم من دون الله هو فكرة "الخلق بالصدفة العشوائية"، أو ما يُعرف بنظرية التطور غير الموجه.

إنها الفكرة التي تقول لك: أنت، أيها الإنسان العاقل، بكل ما فيك من إبداع ولغة وحب، لستَ إلا نتاج سلسلة لا نهائية من الحوادث العمياء والأخطاء المطبعية في شفرة الحياة. الكون كله، بهذه الدقة المتناهية، جاء من فوضى، والحياة جاءت من موت، والوعي جاء من مادة صماء.

في هذا الفصل، لن نحارب هذه الفكرة بالخطب والمواعظ، بل سنهدم هذا الصنم بنفس الأدوات التي يدعي أنه بُني بها: العقل، والمنطق، والرياضيات، وعلم المعلومات. سننظر في "كتاب الكون المنظور" لنرى هل يتفق مع "كتاب الله المقروء"، أم أن العلم الحقيقي يشهد للقرآن، لا عليه.

1. معضلة المعلومات: من كتب "شفرة الحياة"؟

كمبرمج قضى حياته يتعامل مع الشفرات والأنظمة، أقول لكم بيقين: إن نظام تشغيل "ويندوز" أو "أندرويد"، بكل تعقيده، هو حرفيًا كذرة تراب في صحراء مقارنة بنظام تشغيل "الحياة" المكتوب في شريط الـ DNA.
إن القضية ليست قضية كيمياء، بل هي قضية "معلومات". شريط الـ DNA ليس مجرد مركب كيميائي، بل هو شفرة برمجية مكتوبة بلغة رباعية (A, T, C, G)، تحمل تعليمات دقيقة لبناء كائن حي كامل.

وفي كل خبراتنا الإنسانية، نعلم يقينًا أن المعلومات المعقدة لا تأتي إلا من مصدر واحد: عقل ذكي. حين نرى بضعة أسطر من برنامج حاسوبي، نستنتج وجود مبرمج. فكيف حين نرى شفرة من ثلاثة مليارات حرف، مكتوبة بترتيب مذهل داخل كل خلية من خلايانا، نقفز إلى استنتاج أن "الصدفة" كتبتها؟

إن الرياضيات تسحق هذه الفكرة سحقًا. لقد حسب العلماء احتمالية أن تتشكل سلسلة بروتين واحد وظيفي بالصدفة، فوجدوا أنها أقل من واحد من 10^77. هذا الرقم أكبر من عدد كل الذرات الموجودة في مجرتنا! هذا لبروتين واحد، فما بالك بخلية حية تحتاج لمئات البروتينات لتعمل معًا بتناسق؟
إنها، كما قال عالم الفلك فريد هويل، كاحتمالية أن تضرب عاصفة هوجاء ساحة خردة، فتخرج منها بطائرة بوينج 747 جاهزة للطيران.

إن فكرة نشوء الحياة صدفة ليست نظرية علمية، بل هي خرافة دينية لأهل المادية، يؤمنون بها إيمانًا أعمى ضد كل براهين العقل والمنطق.

2. المعضلة الهندسية: "التعقيد غير القابل للاختزال"

حتى لو افترضنا جدلاً أن الخلية الأولى وُجدت بمعجزة ما، فإن الداروينية التقليدية تواجه معضلة أخرى لا تقل ضخامة، وهي ما أسماه عالم الكيمياء الحيوية مايكل بيهي "التعقيد غير القابل للاختزال".
الفكرة ببساطة، كما في "مصيدة الفئران"، هي أن هناك أنظمة بيولوجية تتكون من عدة أجزاء متفاعلة، ولو نزعتَ جزءًا واحدًا منها، لتوقف النظام بأكمله عن العمل.
خذ على سبيل المثال "السوط البكتيري"، وهو محرك جزيئي فائق الصغر تستخدمه البكتيريا للسباحة. إنه يتكون من حوالي 40 جزءًا بروتينيًا مختلفًا، تعمل معًا كمحرك سيارة، فيه عمود إدارة، ومروحة، وبطانات.
لا يمكن لهذا المحرك أن يكون قد تطور خطوة بخطوة، لأن الخطوات الوسيطة (محرك بلا مروحة، أو مروحة بلا عمود إدارة) ليس لها أي وظيفة، وبالتالي فإن "الانتخاب الطبيعي" كان سيتخلص منها. كان لا بد لهذا النظام أن يوجد كاملاً متكاملاً دفعة واحدة.

وهذا ليس إلا كشفًا علميًا حديثًا عن حقيقة قرآنية قديمة: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ...﴾ (السجدة: 7). وقوله: ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ...﴾ (الملك: 3). إنه خلق متقن، لا مجال فيه للعبث ولا للأجزاء الناقصة.

3. البديل القرآني: الخلق بقَدَر

إن القرآن لا يقدم لنا بديلاً عن العلم، بل يقدم لنا التفسير لما يكتشفه العلم.

  • العلم يكتشف "المعلومات" الهائلة في الخلية، والقرآن يخبرنا أن مصدرها هو الخالق ﴿الْعَلِيمُ﴾.
  • العلم يكتشف "التعقيد" الهندسي المذهل، والقرآن يخبرنا أن مصدره هو الخالق ﴿الْمُصَوِّرُ﴾.
  • العلم يكتشف "قوانين" دقيقة تحكم الكون، والقرآن يخبرنا أن مصدرها هو الخالق ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

إن القرآن لا ينفي فكرة التغير والتطور والتكيف، بل يؤكد أن خلق الإنسان نفسه مر بأطوار ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (نوح: 14). ولكن الفرق الجوهري هو أن هذه الأطوار، وهذا التطور، ليس أعمى ولا عشوائيًا، بل هو "تطور موجه"، يتم وفق خطة وتقدير. إنه "خلق بقدر":
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49).

فلا تصدق يا أخي من يقول لك إن الإيمان بالتصميم هو عداء للعلم. بل إن الإيمان بالصدفة العمياء هو عداء للعقل والمنطق. إن العلم الحقيقي، كلما غاص أكثر في أسرار الكون والحياة، لا يزداد إلا شهادة بأن وراء هذا الخلق المذهل، خالقًا عليمًا حكيمًا.

سجل المراجعات