عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الفكر القُطبي.. نورٌ في الظلال وثغرة في البنيان

لقد كنتُ في الماضي أتجنى على سيد قطب، وأصدر عليه أحكاماً قاسية استقيتها من الفكر المدخلي، كما كنت أفعل مع غيره من المخالفين لهم.
ثم شاء الله لي أن أراجع قصة هذا الرجل بإنصاف، فوجدته علَماً من أعلام النقد الأدبي العربي، ورجلاً كانت له كتب تدرّس في التعليم الأساسي لضلاعة فهمه اللغوي، ورسوخ قدمه في البلاغة، وبراعته الأدبية. إن كونه من خريجي دار العلوم، وهي معقل اللغة العربية، قد منحه فهماً عميقاً للتراث اللغوي، وفتح له باباً من ذهب ليتدبر القرآن. لكن كل هذا لم ينفعه حتى أذن الله لتلك اللحظة التي اجتاح فيها الإيمان قلبه. شرارة التحول: صدمة في بلاد الغرب
لقد كنتُ في الماضي أتجنى على سيد قطب، وأصدر عليه أحكاماً قاسية استقيتها من الفكر المدخلي، كما كنت أفعل مع غيره من المخالفين لهم.
ثم شاء الله لي أن أراجع قصة هذا الرجل بإنصاف. لم يكن سيد قطب مجرد أديب مرموق، بل كان يعيش في برج عاجي من المجد الشخصي والمكانة الاجتماعية. كان قطباً من أقطاب الأدب والثقافة يُشار إليه بالبنان، ورجلاً لم يكن بحاجة ليتخلى عن كل ذلك ويدخل في كفاح فكري أنفق فيه زهرة حياته خلف السجون.
فكيف حدث هذا التحول الجذري؟ إن نقطة الانقلاب الحقيقية كانت رحلته إلى أمريكا. هناك، لم يصطدم الرجل بحضارة متقدمة تقنياً فحسب، بل صُدم بفراغ روحي هائل، وانحلال أخلاقي يُسوَّق له على أنه حرية، ونظرة استعلاء واحتقار لكل ما هو شرقي أو إسلامي. والأخطر من ذلك، أنه لامس بنفسه عداءً سياسياً عميقاً وممنهجاً في دوائر صناعة القرار هناك تجاه أي فكرة لنهضة الإسلام وعودته.
لم تكن هذه مجرد مشاهدات سائح أو تحليل أكاديمي، بل كانت صدمة حضارية عنيفة هزت كيانه وأشعلت فيه نار الغيرة على أمته. أيقن أن المعركة لم تعد معركة قصائد ومقالات نقدية، بل هي معركة هوية ووجود. وأن قلمه الذي كان يكتب به في روائع الأدب، يجب أن يتحول إلى سيف في معركة الدفاع عن هذه الأمة. ومن هنا، اتخذ قراره الأصعب: أن يهجر برجه العاجي، وينزل إلى ساحة الصراع، حاملاً فكراً جديداً، أياً كان حكمنا عليه اليوم -إصلاحياً كان أم إفسادياً- فقد وُلد من رحم تلك الصدمة وذلك الشعور بالمسؤولية.
وعندما قرأتُ بعض كلماته التي كتبها في "ظلال القرآن" وهو في خضم ابتلاء السجن، رقّ قلبي له جداً، ووجدت في طي كلماته نوراً عظيماً أثّر في نفسي تأثيراً بالغاً، فأحببته، وصرت أستغفر الله على كل حكم حكمته عليه، ولا أزال أستغفر إلى يومي هذا.
وسمعتُ أنه كان ينوي أن يكتب ما يسمى "في ظلال السنة"، فحمدتُ الله أنه لم يكتبه، فالقرآن له نور خاص لمن عظّمه وتبحّر فيه.
إن سيد قطب ليس كالوهابية؛ لقد أنكر "شرك الدعاء" و"شرك الحكم" كليهما، وأقام ملحمة مشرفة في زمنه للوقوف ضد هذين النوعين من الشرك أمام طاغية من أشرس طغاة عصره. لكنه لم يمس "شرك التشريع" نفسه، وهي المسألة الأهم والأخطر.
وهنا يكمن الخلل الجوهري. فما فائدة أن ندعو الناس إلى "حاكمية الله"، لنُخضعهم في النهاية لأحكام ليست هي حكم الله أصلاً، بل هي أحكام إجرامية مصدرها بشري، بل طاغوتي في كثير من الأحيان؟
هذا هو البلاء الذي يلاحق كل فرقة وكل عمل إصلاحي. إننا نُجبر الشباب على العودة لمنظومة حكم غير مناسبة للنفس والواقع والزمان، ثم نتعجب من النتائج الكارثية.

سجل المراجعات