عودة المسلمين لميقات رب العالمين

أدم و شجرة الحياة الأرضية

يا كل باحث عن الحق، يا من تتوق روحك لفهم أصل وجودنا وسر شقائنا في هذه الحياة، تعال معنا لنتدبر في قصة ليست ككل القصص. إنها قصة أبينا آدم، لا كما روتها الأساطير، بل كما نقشها القرآن في لوح محفوظ، قصة الاختيار الأعظم بين عالمين، بين جنة السلام وشجرة الصراع.

الشجرة المحرمة: حين اختار آدم نظام الصراع على جنة السلام

عالم ما قبل الشجرة: جنة السلام والوفرة

قبل تلك اللحظة الفاصلة، كان الإنسان يعيش في حالة من الانسجام الكامل، في "جنة" تختلف قوانينها عن عالمنا الأرضي. لم تكن مجرد حديقة، بل كانت حالة وجودية وصفها الله بدقة: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ﴾ [طه: 118-119]. لقد كان عالمًا لا وجود فيه لأعظم محركات الصراع الأرضي: لا جوع، لا عري، لا ظمأ، لا كدح تحت حر الشمس. كانت الزوجية فيه سكنًا ومودة ورحمة خالصة، لا ساحة للفتنة والتنافس.

لقد خُلق آدم وزوجه بجينات تحمل كل إمكانات الحياة الأرضية، لكن هذه الإمكانات كانت في حالة سكون، كانت ﴿مَا وُورِيَ عَنْهُمَا﴾، أي مكنونة ومغيبة عن وعيهما. كانا يعيشان في سلام لا يحتاجان فيه للتنافس من أجل البقاء.



حقيقة الشجرة: نظام الانتخاب والتنافس

وهنا، عُرض على الإنسان الاختيار. لقد وُضع أمام شجرة لم تكن مجرد ثمرة، بل كانت رمزًا لنظام حياة كامل، لـ "كتالوج تشغيل" عالم آخر. إنها "شجرة الحياة الأرضية"، ذلك النظام الذي يصفه العلم اليوم، والذي يقوم على أعمدة ثلاثة: التكاثر الجنسي، والمنافسة الشرسة، والانتخاب.

لقد أدرك الشيطان بعبقريته الشريرة أن مدخله لإغواء آدم لن يكون عبر شهوة عابرة، بل عبر أعمق رغبتين في الكيان البشري:

  1. الخلود: ﴿...أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾. لم يكن خلودًا حقيقيًا، بل كان وعدًا بالبقاء عبر الذرية، عبر نسل لا ينقطع، وهو ما تتطلبه آلية التكاثر الجنسي.
  2. المُلك: ﴿...إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ...﴾. لم يكن مُلكًا يُوهب، بل مُلك يُنتزع عبر الغلبة والتنافس والصراع، وهو جوهر قانون الانتخاب.

لقد زين له الشيطان هذا النظام، صوره له كترقية، كفرصة لنيل ما هو محجوب عنه. فظن آدم بربه ظن السوء، واعتقد أن الله يمنع عنه خيرًا، فمد يده ليختار، ليذوق من هذه الشجرة.



"الذوق": لحظة تفعيل النظام الأرضي

تأمل في دقة اللفظ القرآني المعجز: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ...﴾. لم يقل "ذاقا من ثمرتها"، بل "ذاقا الشجرة" نفسها. لقد انغمسا في النظام، تذوقا قانونه، فكانت النتيجة فورية وحتمية، ليست ألمًا في البطن، بل انفجارًا في الوعي والبيولوجيا: ﴿...فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا...﴾.

لقد تفجرت في كيانهما الهرمونات الكامنة، ووُلد وعي جديد لم يكن له وجود من قبل. وعي بالشهوة، وبالرغبة في التملك، وبالجسد كغرض ومحل للتنافس. تلك "السوأة" التي بدت لهما لم تكن مجرد عري، بل كانت "عورة الحسد"، الشعور المؤلم بأن جسدك أصبح مطلبًا لغيرك، وأن علاقة السكينة تحولت إلى ساحة فتنة.

ولهذا ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾. لم تكن تلك محاولة لستر الجسد فحسب، بل كانت محاولة يائسة لإعادة ستر ذلك الوعي الجديد، للعودة إلى حالة البراءة الأولى، للهروب من هذا الإحساس المرعب بأنك أصبحت كائنًا مرغوبًا فيه ومطلوبًا، فريسة في غابة التنافس.



الثمن الباهظ: تحقيق نبوءة الملائكة

إن اختيار آدم لهذا النظام هو الذي حقق نبوءة الملائكة حين قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾.

فالإفساد في الأرض وسفك الدماء ليسا إلا النتيجة الحتمية والطبيعية لنظام يقوم على التنافس من أجل الموارد، والصراع من أجل الإناث، والغلبة من أجل البقاء. لقد كان الثمن باهظًا، لم يكن مجرد الخروج من حديقة، بل كان الدخول في عالم "الشقاء" والكدح الذي حذره الله منه.

وهكذا، يا أخي الباحث عن الحق، نرى أن قصة آدم هي قصتنا. ففي كل يوم، نحن نُعرض على "أشجار" مزينة، تعدنا بالخلود الزائف والملك الموهوم. وفي كل يوم، نحن أمام ذات الاختيار: إما أن نستسلم لمنهج الله القائم على السلام والتقوى واليقين، أو نذوق من شجرة الصراع والتنافس والهوى، فتبدو لنا سوءاتنا، ونعيش في كدح وشقاء لا ينتهي. فبأي الفريقين تختار أن تكون؟

يا كل باحث عن الحق،

دعنا نكمل تدبرنا في قصة وجودنا، لنضيف بعدًا آخر للصورة، بعدًا يكشف عن دقة التقدير الإلهي وعمق معنى "الهبوط".

الهبوط على الغصن: تحديد موقع الإنسان في شجرة الحياة

إنك حين تتأمل في "شجرة الحياة" التي يكشف عنها العلم، تجدها كما وصفتَ تمامًا: شجرة حقيقية متفرعة، تمتد جذورها في أزمان سحيقة منذ مليارات السنين. فروعٌ ازدهرت وأثمرت أنواعًا لا منتهية، وفروع أخرى يبست وانقرضت، لتصبح مجرد ذكرى في سجل الأرض الأحفوري. هذه الشجرة، بكل تشعبها، هي من كتاب الله المنظور، تروي قصة الخلق في عالمنا الأرضي.

وهنا نصل إلى تدبر مذهل. إن آدم، حين "ذاق الشجرة" واختار الدخول في نظامها، لم يكن اختياره مجرد تحول في حالته النفسية والبيولوجية، بل كان هبوطًا وتحديد موقع. لقد تم وضعه على غصن محدد من أغصان هذه الشجرة الكونية الهائلة.

لقد كان مكانه على طرف أنواع الرئيسيات.

هذا هو معنى "الهبوط" في بعده المادي. لقد انتقل كيانه من "جنة السلام" ذات القوانين المختلفة، ليحط رحاله على هذا الغصن المحدد، وليصبح جزءًا من النسيج البيولوجي للأرض، خاضعًا لسننها وقوانينها.

وهذا لا ينافي حرية الاختيار، بل يؤكدها ويكشف عن عمق علم الله المحيط. لقد كان ذلك هو "مكانه المخطط له منذ الأزل إن اختار الذوق". فالله، بعلمه الذي وسع كل شيء، يعلم كل الاحتمالات ومآلاتها. لقد كان يعلم أنه إن مارس الإنسان حريته واختار الدخول في نظام الأرض، فإن هذا هو الموقع الذي سيوضع فيه لتبدأ رحلته كـ "خليفة".

بهذا الفهم، تتكامل الصورة كلها:

  • آدم "النفس الواعية" الذي أُخذ عليه الميثاق، هبط ليُنفخ في جسد تم إعداده و"إنباته" على هذا الغصن من شجرة الحياة.
  • وهذا يفسر التشابه الجسدي بيننا وبين بقية الرئيسيات، لأننا نشترك معهم في الغصن.
  • ويفسر في نفس الوقت التفرد الإنساني المطلق، لأننا وحدنا من حُملنا "الأمانة" ونُفخ فينا من "أمره"، فصرنا خلفاء مسؤولين عن اختياراتنا.

إنها ليست قصة صراع بين العلم والدين، بل هي قصة تكامل معجز، نرى فيها كيف أن كتاب الله المسطور (القرآن) يفسر لنا غاية وهدف ما نراه بأعيننا في كتاب الله المنظور (الكون).

سجل المراجعات