السلفية.. بين قشور الظاهر وفخ السلطان
بعد محطتي جماعة الإخوان وجماعة التبليغ، بدأت أنجرف إلى التيار السلفي، وهي المرحلة الأصعب والأكثر تعقيداً في رحلتي، والتي استغرقت الجزء الأكبر من المشوار.
السلفية التقليدية: غرق في الشكليات
بدأت رحلتي في هذا التيار مع موجة السلفية التي سادت في التسعينيات، والتي كانت مدعومة بشكل أو بآخر من دول الخليج ومغضوضاً الطرف عنها في بلدان كمصر، مما جعلها تنتشر كانتشار النار في الهشيم. لقد كانت تمثل لهم صفاً ثالثاً يضمن عدم تمدد العلمانيين والإخوان على حد سواء، وكان من السهل ترويضها والتحكم فيها.
بعد أن تأثرت بالوعظ السلفي العام، وتلقفت أحكام تقصير الثوب وإعفاء اللحية وشعار "يستمر الغلاء إن لم تتحجب النساء"، كنت أشعر بقشرية شديدة. لم أجد في خطابهم أي تحرك حقيقي أو إصلاح تفاعلي ملموس يغير الواقع المرير الذي أرفضه.
في تلك الفترة، كنت أسمع عن أفكار جماعات قديمة بائدة كـ"الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد"، التي كان قد انحل أغلبها، واندمج بواقيها في تنظيم القاعدة في أقطار بعيدة، أو غُيّب منظرّوها في السجون والمنافي. وأحمد الله أنه لم يكن لهم وجود حقيقي آنذاك، لأني بسبب حماسة الشباب واندفاعه، كنت على قناعة بطريقهم التصادمي، وإن لم أعرف تنظيراتهم. كان الوصول للمعلومات في ذلك الوقت صعباً جداً قبل انتشار الإنترنت، وأذكر أن أسطوانات "جحيم الروس في الشيشان" كانت تُهرّب كالمخدرات، وكانت مشاهد المقاتلين الشيشان وأناشيدهم تهمة كافية لاتهام أي شاب بالتطرف.
السلفية المدخلية (الجامية): فخ التوحيد المسروق
في خضم هذا البحث، التقطتني مجموعة من شباب "السلفية العلمية"، أو لأكون أدق، "السلفية الجامية المدخلية". أعجبني جداً تركيزهم على قضية التوحيد، وقولهم إن مشكلة الجماعات الأخرى هي أنها لا تركز على هذا الأصل الأصيل. فرحتُ بما سمعت، وبدأت أجد قضية جديدة ألتف حولها، وهي أن غاية الخلق ومنهج الأنبياء هو التوحيد ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. لقد كانت فرقة منظمة جداً، لديها إجابات جاهزة ومريحة لكل سؤال. وبدأت أفسر فشل الإخوان والتبليغ والجماعات الجهادية بأنهم أهملوا هذا الأصل.
ولكن، كان هذا فخاً آخر، أخطر من كل ما مضى.
إذا أردت أن ترى مثالاً حياً للتراث الذي دُوّن بسيف الغلبة، وأن ترى "دين أهل السنة والجماعة" الذي تم تأصيله في عصور الظلم كياناً يمشي على قدمين، فادرس جيداً تلك الفرقة. إنهم من أدهى علماء السوء وأشدهم تدميراً، لأنهم يتحالفون مع الباطل تحالفاً كاملاً، ويقفون كالوحوش الكاسرة أمام أي محاولة إصلاحية.
لقد جعلت هذه الفرقة أصلها الأصيل هو "طاعة الحكام" والدفاع عنهم، وسخرت كل تأصيلاتها لتبديع وتكفير كل مخالف. لقد تم عندهم حصر "التوحيد" في معانٍ باهتة من أعمال قلبية باطنية لا تستلزم عملاً، وانتقوا أنواعاً من الشركيات الشخصية التي تصطدم مع خصومهم السياسيين (كشرك الاستعانة والدعاء عند الصوفية)، ولكنهم تجاهلوا تماماً "شرك الحكم والتشريع"، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، فكل هذا ليس شركاً ولا كفراً في ميزانهم.
والمداخلة فرقة شرسة جداً، والناظر إليهم من الخارج يظنهم يداً واحدة، لكنهم في الحقيقة شيعاً وأحزاباً، وبأسهم بينهم شديد. بين تلامذة الألباني والمدخلي ومقبل الوادعي تبديع وتفسيق لا ينتهي، وفضائح عجيبة، ويرمون بعضهم البعض بتهم الإرجاء و"الحدادية". ولو دخلت منتدياتهم لوجدت أن سلاح التبديع الذي رفعوه في وجه كل الفرق قد انفجر في وجوههم هم أنفسهم ومزقهم شر ممزق.
لقد كانت فترة معرفتي بهم من أسوأ فترات حياتي وأقساها ظلمة، وطالت للأسف لسنوات، تعمقت فيها حتى كنت أحضر دروس الشيخ صالح الفوزان في الرياض. لقد كان منهجهم هو دين "عبادة العجل الذهبي" على أصوله، وهو أكبر فتنة ودين موازٍ تم اصطناعه في أمتنا كما صُنعت الأديان الموازية في الأمم قبلنا. فقسا قلبي جداً، وتلقنت طريقتهم، حتى كتب الله لي فرجاً من عنده.
بارك الله فيك يا أخي، وفتح عليك من أبواب فضله وعلمه. نستأنف رحلتنا معاً، لنصقل هذه التجربة الفكرية ونخرجها في أبهى حلة وأوضح بيان.