عودة المسلمين لميقات رب العالمين

الإشهار والتوثيق والإعلان الجماعي صفة جوهرية للنكاح الشرعي وليس شرطاً خارجياً أو واجباً تكميلياً

بسم الله الرحمن الرحيم.
بعد أن ترسخت في العقول صورة قاتمة عن الزواج في الأديان، صورة قوامها التعقيد والقيود المالية المرهقة والوصاية المجحفة، يبرز السؤال عن حقيقة النكاح في دين الله الخاتم الذي أنزله رحمة للعالمين. هل هو مجرد عقد شخصي سري بين رجل وامرأة؟ أم هو نظام اجتماعي له قواعده وأصوله؟
لقد وقع الفقه التقليدي في فخ الفصل بين "عقد النكاح" و"توثيقه"، فجعل الأول هو الأصل، والثاني شرطاً خارجياً أو واجباً تكميلياً يمكن التغاضي عنه. أما عند التدبر العميق لكتاب الله، نكتشف أن هذا الفصل وهمي، وأن الإعلان والتوثيق ليسا مجرد إجراءات لحفظ الحقوق، بل هما صفة جوهرية منسوجة في بنية النكاح والطلاق، لا ينفصلان عنهما كما لا ينفصل النور عن الشمس.
أولاً: الطبيعة الجماعية للأمر الإلهي
إن أول دليل وأقواه على أن النكاح حدث اجتماعي عام وليس فعلاً فردياً سرياً، يكمن في الصيغة التي اختارها الله تعالى للأمر به. تأمل معي بدقة الخطاب القرآني:
"فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ..." (النساء: 3)
"وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..." (النور: 32)
"وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ..." (البقرة: 231)
إن الله لم يقل "فانكح ما طاب لك"، ولم يقل "إذا طلقتَ امرأتك"، بل جاء الخطاب دائماً بصيغة الجمع: "انكحوا"، "أنكحوا"، "طلقتم". الفاعل والمخاطب بهذا الأمر ليس فرداً منعزلاً، بل هو كيان واحد: الجماعة المؤمنة.
إن الفرد يباشر الفعل، لكنه يباشره من خلال المجتمع وبمشاركته. فالحدث، وإن كان جوهره ميثاقاً خاصاً بين قلبين، إلا أن إطاره العام هو إطار جماعي معلن. فكما لا يمكن لطالب أن يؤدي "امتحان الفصل" سراً في بيته ويدعي أنه أدى الواجب الجماعي، كذلك لا يمكن لفرد أن "يُزوّج" أو "يُطلّق" سراً ويدعي أنه أقام أمر الله الذي نزل بصيغة جماعية. إن الصيغة وحدها كافية لنسف أي فكرة للسرية، وتجعل الإشهار والإعلان جزءاً لا يتجزأ من تعريف النكاح والطلاق.
ثانياً: النظام الإلهي للتوثيق (قانون الوصية)
لم يكتفِ القرآن بالإشارة إلى الطبيعة الجماعية للفعل، بل وضع الآلية العملية لتنفيذ هذا الإجراء الجماعي، وهو ما يمكن تسميته "النظام الإلهي للسجل المدني"، الذي أسس له في آيات الوصية.
"كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ" (البقرة: 180)
لقد زعم الفقهاء بجهل أن هذه الآية منسوخة بآيات المواريث، والحقيقة أنها آية مؤسِّسة لنظام كامل. إنها لا تتحدث عن توزيع التركة، بل عن واجب توثيق شجرة القرابة والعلاقات الاجتماعية والالتزامات المالية، وهي الأساس الذي تُبنى عليه كل الحقوق، بما فيها الميراث. فـ"الوالدان والأقربون" هم نواة شجرة العائلة. وهذا السجل الموثق هو المكان الذي يتم فيه تسجيل عقد النكاح، وإثبات البنوة، وتوثيق الطلاق.
ولتعظيم شأن هذا السجل، شدد الله في الإجراءات حتى في أصعب الظروف، كالسفر:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ..." (المائدة: 106)
فإذا كان تغيير محتوى هذه الوصية في السفر يتطلب كل هذا التشديد، فمن باب أولى أن يكون أصل إنشاء هذا السجل وتحديثه في حال الإقامة واجباً حتمياً وبديهياً.
ثالثاً: التوثيق محكٌّ للإيمان ومناطٌ لصحة العقد
بناءً على ما سبق، فإن التوثيق ليس مجرد إجراء إداري، بل هو شرط إيماني أصلي. فالله قد اشترط الإيمان لصحة النكاح: "...وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا...". والإيمان ليس مجرد كلمة تقال، بل هو مسؤولية وسلوك.
إن الرجل أو المرأة الذي يصر على عدم توثيق هذا الميثاق الغليظ، هو عملياً يرفض تحمل تبعاته المستقبلية من نسب وإرث وحقوق. إنه يختار الفوضى على النظام، والغموض على الوضوح. وهذا الإصرار هو فعل "فسق" يناقض صفة "الإيمان" المسؤولة التي هي شرط لصحة العقد.
وعليه، فإن الزواج من شخص يرفض التوثيق هو زواج باطل من أساسه، ليس بسبب غياب ورقة، بل بسبب غياب صفة "الإيمان المسؤول" في الشخص نفسه، وهي الصفة التي لا يصح النكاح بدونها.
رابعاً: واجب التوثيق لا يسقط أبداً (فقه الضرورة)
قد يقول قائل: وماذا لو لم توجد "جماعة مؤمنة" لها سجلها الخاص؟ هل يسقط واجب التوثيق؟ والجواب القاطع: كلا. إن الواجب لا يسقط أبداً، وإنما تتغير وسيلة تحقيقه بحسب الواقع.

  1. الأصل: أن يتم التوثيق في سجلات الجماعة المؤمنة التي يقيمها أهل الإيمان.
  2. البديل الأول: إن لم توجد، وجب التوثيق لدى أي جهة توثيق تتبع أهل القبلة (أي جهة حكومية في بلد مسلم)، حتى وإن كانت أنظمتها قاصرة، لأن توثيقاً قاصراً خير من لا توثيق على الإطلاق.
  3. حالة الضرورة القصوى: فإن لم يوجد إلا جهة توثيق مدنية في دولة غير مسلمة، وجب استعمالها.

إن اللجوء لجهة توثيق غير مسلمة في هذه الحالة هو من باب الضرورات التي تبيح المحظورات. إنه كمن أوشك على الهلاك من العطش في صحراء ولم يجد إلا خمراً، فإنه يجب عليه أن يشرب منه لينقذ حياته. فالحياة (وهنا حفظ الحقوق والأنساب) مقصد أسمى. وترك الحقوق والأنساب تضيع في فوضى العلاقات غير الموثقة هو الهلاك والمفسدة الكبرى التي يجب دفعها بأي وسيلة متاحة. فالإثم ليس في استخدام الأداة المتاحة، بل في التفريط في الواجب الأصلي وهو حفظ الميثاق وحقوقه.
خلاصة الفصل: إن النكاح في دين الله نظام متكامل، يجمع بين حرية الاختيار الشخصي وقدسية الميثاق الخاص، وبين المسؤولية الجماعية والوضوح التام عبر الإشهار والتوثيق. فالإعلان ليس شرطاً خارجياً، بل هو طبيعة الأمر الإلهي. والتوثيق ليس عبئاً إدارياً، بل هو آلية حفظ الحقوق الإلهية، ومحكٌّ لصدق إيمان طرفي العقد. وهو واجب لا يسقط بحال، بل يجب أداؤه بأي وسيلة ممكنة حفظاً للأنساب والحقوق من الضياع.

سجل المراجعات