أدب الدعوة القرآني (المفاصلة لا المحاكمة):
ولقد سمعت في تفسير الشيخ الشعراوي رحمه الله في هذه الآية ما هز وجداني – فجزاه الله عني خيرًا فيما نقله لي من نعمة الفهم لكلام الله – في باب قوله تعالى في سورة سبأ:
"وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ۞ قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُلِ ٱللَّهُۖ وَإِنَّآ أَوۡ إِيَّاكُمۡ لَعَلَىٰ هُدًى أَوۡ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ () قُل لَّا تُسۡـَٔلُونَ عَمَّآ أَجۡرَمۡنَا وَلَا نُسۡـَٔلُ عَمَّا تَعۡمَلُونَ () قُلۡ يَجۡمَعُ بَيۡنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفۡتَحُ بَيۡnَنَا بِٱلۡحَقِّ وَهُوَ ٱلۡفَتَّاحُ ٱلۡعَلِيمُ () قُلۡ أَرُونِيَ ٱلَّذِينَ أَلۡحَقۡتُم بِهِۦ شُرَكَآءَۖ كَلَّاۚ بَلۡ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ () وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (*)"
إن رغم أن المحاججة على أصل أصول الدين وأن المباينة والمفاصلة والبراءة تامة، فإن في طريقة ومنهج الله الذي وضعه للمؤمنين في الدعوة حكمة كبرى لا يفهمها إلا المتدبرون. لقد قال إن واقع القول سيكون الجزاء في القول من جنس القول، فبما أن الكفار يتهمون المؤمنين أنهم يجرمون في حق أسلافهم وآبائهم لطلبهم من الناس أن يتركوا شرك الآباء ويخلصوا الدين لله، فإن المنطق يقول إن الآية ستقول حين المفاصلة: لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تجرمون. لا لا، بل هي "عما تعملون". ما هذا؟ كيف يا ربي؟ أليس ما فعلوه من كفر وتعدٍ على حقك الأعظم إجرامًا؟ الجواب نعم، لكن أولًا من حكمة الدعوة وتوفيق الله أنك حين تذم خطأ وخطيئة، ذم الفعل نفسه وتبرأ وباين الخطيئة والخطأ، أما الشخص المعين فاترك حكمه لله ولا تلبسه بالحكم، فهو حق خالص لله. ولذلك المؤمنون لا يهتمون بأحكام التضليل والتكفير على الأعيان وعلى الفرق، بل يقولون: هذا المنهج خاطئ، هذا السلوك غير مقبول، أما الأحكام فالله أعلم.
كما رأينا على مر التاريخ، إن من كفار قريش ممن كانوا يسبون الله في محاججة النبي قبل الفتح وقاتلوه، منهم من آمن وتفجر من قلبه الإيمان أنهارًا ومن عينه الدموع أنهارًا من خشية الله. بل لو نظرت لكبراء الصحابة كعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، ستجد في جاهليتهم شدة على أهل الإيمان. وكما رأينا، ابن عم رسول الله وقع في دماء أهل الجمل وهم كبار البدريين من المهاجرين والأنصار. فنحن لا نعرف ولا ندري، إذ ربما بعض من هؤلاء القوم الذين نراهم اليوم في معسكر الكفار ونرى ظاهرًا منهم الشر، يعلم الله في قلوبهم خيرًا عظيمًا سيتفجر لاحقًا، وربما نحن، نعم نحن، منافقون نأكل ديننا بدنيانا، ونريد هذا الدين لدنيا نصيبها أو امرأة ننكحها أو استعلاء على الناس وتفاخرًا عليهم بالفهم والعلم. إن صفة المؤمنين الأساسية عدم التضليل والتكفير والاستعلاء على مستوى الفرق والأعيان على حد السواء، فكل فرقة كتابية لها نصيب من حبل الله، وكل فرقة بل حتى المشركين والمجوس والصابئة.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
الذي يحكم بينهم هو الله. بل إن منهم مؤمنون في الجنة وأفضل منا وإن رغمت أنوفنا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
وسنجد ديدن الأنبياء في كل الأيات أن أفعالهم براءة و مفاصلة و مبيانة و محاججة و رفق و حكمة و في نفس الوقت وضوح لا مداهنة فيه وبراءة لا مجارة فيها و بيان لا استعلاء فيه و دعوة لا أجر عليها ولا مصلحة عاجلة منهم
انظر لهذه الآية هل تقول كفرنا بكم أم كفرناكم ...فكفرنا بكم هنا تعنى اننا لن نتخذكم أربابا و أندادا من دون الله في حق التشريع و حق الاحتكام و هذا من أبسط حقوق أي أنسان ألا يكررها احد على أن يخضع ويدين دينونة لأمر من لدن غير الله
أما تكفير الناس و الحكم عليهم لم يكن من منهج الأنبياء أبدا حتى في أحلك الأحوال
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ سورة الممتحنة (4)
وهذا قول شعيب لقومه في توكيل الحكم لله رغم أن قومه كفروا و عتوا
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
هل حكم هو عليهم
وقال الله تعالى
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ سورة الزمر (3)
فحتى في أمور الكفر البين و شرك الدعاء و التشريع اختص الله الحكم لنفسه
فأصلًا حكم التكفير هو أصلًا لله في أعظم أصول الدين، فما بالك ونحن نجد أهل المذاهب يكفرون تارك الصلاة حتى انقضاء وقتها بل يستحلون دمه في بعض المذاهب ويعرضونه على السيف. ولا أعرف ما هذا الغلو العظيم المهول في دينهم، ويكفرون بأمور ما أنزل الله بها من سلطان بينما الله جعل حكم التكفير في أعظم أمور الشرك و الكفر به البواح حقا له لا حقا لرسله و أتبعاهم ، ولكن فقهاء اخر الزمان ظنوا أن الحق هذا لهم و لشركائهم ثم بدأوا يختلفوا ما هي الحدود الكبيرة والصغيرة التي يمكن ان يمارسوا هذا الحق بها ويجعلون نصوصًا في استحلال دم من خالفوه دينًا تحت حكم قتل المرتد، ومن خالفوه سياسيًا تحت بند قتل الخوارج. وهو من تجرؤهم على حق الله تعالى، أول من تشرب بضرره فقتلوا بعضهم.
عقوبة من سرق حق الله
الغريب أنه بعد الآية التي تكلمنا عليها في مطلع الفصل السابق وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ
جاءت أية لم أفهمها موضعها و ظننتها انتقال لموضوع أخر فقد كنت أظن ستستمر الأيات في الكلام عن النصارى واليهود تلك الأقوام الذين نظن أنفسنا بعيدين عن سننهم ونحن غارقون فيها ..لقد كنت دائما أجهل ما مناسبة هذه الآية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ بعد تلك
لقد عرفت الآن انها نتيجة حتمية لقول هذه الفرقة ليست على شيء و تلك ليست على شيء و التجروء على حق الله في الأحكام العينية على هذه وتلك وهذا و ذلك .. وانساب قلبي تعظيما لحكمة الله ..إن جزاء من لا يعلمون و يضللون الفرق و يحكمون عليها أحكام مطلقة ستصل أن نفس السلاح الذين رأوه حقا لهم و محرم على غيرهم ولا هو حق لهم ولا لغيرهم فقد جاء الجزاء من جنس العلم أولا أنهم سيكونون ليس هناك من هو أظلم منهم فإنهم سيمنعون الناس عن ذكر الله و تدارس اسمه لانهم سيدعون حق الكلام في الدين لهم وحدهم ولمن يرضون وبالتالي سيجعلون مساجد الله ساحة لمحاكم التفتيش و بالتالي سيحرمون امنها تدبر الآيات وتمعن هدى الله قلبك و انار بصيرتك أخي المسلم
ولذلك سبحان الله، أجد أن آية (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) وهي الآية التي يخبر الله فيها مباشرة بعد أن الذين قالوا ليست اليهود والنصارى على شيء أنهم لا يعلمون، وقالوا قول الذين لا يعلمون من قبلهم من أهل الجهل والضلال في سنن علماء السوء من أهل الكتاب ممن كل حزب بما لديهم فرحون، وتفرقوا بغيًا بينهم، وكل فريق يحسد الله على ما آتاه من فهم في الكتاب ويأخذ من الكتاب ما له ولا يأخذ ما عليه ويؤول حسب أهوائه ويصدر أحكامًا بالتضليل على بعضهم البعض. لقد استعصت علي آية (أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ). قلت: من هم يا رب؟ إني أنا نفسي لا أدخل المسجد إلا خائفًا من عيون السلطان وأجهزة أمن الدولة، كل الناس تدخل خائفة. فالسلاطين يدخلون بحراسات خائفين مرتعبين أن يغتالهم أحد ولا يصلون إلا في حراسات مشددة، والعوام يدخلون خائفين من عيون أمن الدولة، وعلماء السلطان يتلفتون من الخوف وجلًا أن يقولوا كلمة ليست على هوى الطواغيت.
لقد فهمت الآية الآن واتضحت وضوح الشمس. إن كل فرقة تبدأ في أحكام التكفير على الفرق الأخرى تُبتلى بمصيبة كبرى، أول شيء ستذهب للمساجد تمنع فيها ما تراه ضلالًا. فلم توجد المساجد إلا لإعلاء كلمة الله، وإعلاء كلمة الله ليس بالقول على الله بغير علم كما يفعل أهل المذاهب من افتراء الكذب على الله بأحكام ليس في كتابه، كل فرقة تخرج كتب أئمتها التراثية وتقول هذا حكم الله. وإذا دخل أحد للمسجد وتدارست مجموعة حق الله في الحكم والتشريع والكلام عن عظمة أسماء الله وصفاته الحقيقية، منعوهم وقتلوهم ووشوا بهم لعيون الطواغيت. والمسجد بدلًا من أن يكون منبرًا للعلوم كما نفهم فيخرج أمثال الخوارزمي وابن سينا والفارابي، صار يقتل هؤلاء ويكفرهم ويتهمهم بالزندقة، ويخرج أمثال ابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب، وصار التكفير سلاحًا بيد علماء السلطان يخرسون به ويخربون بيوت الله حقًا. فما أعظم خراب بيوت الله في زماننا، بيوت لا تتكلم في العلم والواقع، وغارقة في أقوال عن الرجم والسبي وفقه نجس موازٍ لا يمت لكتاب الله بشيء، إنه أعظم خراب أن يمنع الطواغيت وفقهاؤهم أن يُذكر اسم الله في المسجد، اسم الله الحكيم، اسم الله العلي الكبير، الرحمن الرحيم، بما يقتضيه من معانٍ عظيمة.
وسبحان ربي، كان الجزاء من جنس العمل. أنا عرفت لماذا كلنا مرتعبون، لأننا ننتمي لفرق تكفر بعضها بعضًا وتقيم محاكم التفتيش لبعضها بعضًا، فإن سلاح التكفير ليس سلاحًا في اتجاه واحد، إنه كمن ينشر سلاحًا بيولوجيًا فيصيب نفسه وغيره. فأيام العباسيين لما تغير فكر الحاكم بين اعتزالية وتجسيم، تغيرت الثلة الفقهية حوله وتغير موضوع الحكم، فصار المسجد هو مكانًا خصبًا للتجسس على أقوال المخالفين، وكل واحد يخاف على نفسه. ولأن أقوال البشر وضلالهم لا حد له، فلم يوجد قول مستقيم وآخر غير مستقيم، والتكفير صار بين الأشاعرة والماتريدية والحنابلة والمجسمة والمعتزلة وأهل الكلام محل إسخان شديد، بل حتى المذاهب الفرعية الفقهية صار بينها فتن لا حصر لها، وإذا أدخلنا المتصوفة والإباضية والشيعة فستجد الأمر يزداد سوءًا من باب التكفير، زاد وانفرج على مصراعيه. وبالتالي كانت عقوبتهم أن بيت الله الذي يبتغى فيه الأمن صار مكان خوف، لأن سلاح التكفير كثيرًا ما يرتد في وجههم، وهذا جزاء من نازع الله في صفاته.
وسبحان ربي، على النقيض تمامًا تمامًا، إن الله أمر هؤلاء الناس أن يتبرؤوا ويباينوا الفسق والضلال والكفر والحكم بغير ما أنزل والمعاصي والسيئات، فتجدهم هنا يرجئون ويكذبون القرآن صراحة. فما كان عليهم من براءة ومباينة ومفاصلة للباطل وأهله، وهو الواجب عليهم، لم يفعلوه، فتجدهم أول الناس تولية للحاكمين بغير ما أنزل الله وللفساق والفجار، ومبارين عنهم ومؤصلين لهم، وواشين بأهل الإيمان. أما حين التكفير والحكم على غيرهم فهم أجرأ الناس.
المحور الثاني: الحقيقة المزعجة - هل كان القرآن "خارجياً"؟
وهنا سندخل لأصل المسألة: هل هناك شيء اسمه الخلود في النار على المعاصي؟ سنقع في أصل خطير جدًا، يعتقدون بضد ما في القرآن.
الآيات من 14 إلى 18 سورة النساء: "وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ () وَٱلَّٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا() وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا () إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا () وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا"
إن هذه الآيات في سورة النساء هي حجرة عثرة في طريقهم. كيف أن مجرد المعصية يصف الله فاعلها أنه لن يتوب عليه، وأن المعصية خلود في النار؟ هل يختار الله ألفاظًا خطأ مثلًا أو تؤدي لإضلال الأمة وهم سينقضونها؟ أم أن الله في نظرهم منظر الخوارج؟ لقد سألت نفسي كثيرًا، إنهم يؤصلون أن من يقول إن معصية الله ورسوله تؤدي للخلود في النار هو خارجي. هل يتهمون الله مثلًا؟ أم أن الله يقول ألفاظًا مشتبهة تؤدي لضلالنا؟ أم أننا؟ فالآيات تتكلم عن فاحشة جنسية، ثم تتكلم على أن الإصرار حتى بلوغ الحلقوم فليس له توبة. والغريب أن هذه الآيات السابقة تحديدًا تتكلم عن اثنين من الذكور يفعلان فاحشة. لماذا قال الله (وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ)؟ إنها بلا استرابة اثنان مثنى يفعلان فاحشة. لماذا مثنى؟ يعني أنها فاحشة إتيان الذكور بلا استرابة. إنها ليست الحرق والرمي من شاهق وما ابتدعوه من إجراميات، لا أفهم أي إجرام جعلهم يقولوا ذلك. إن القرآن رفيق جدًا، يعلم أنه انحراف مؤقت قد يطرأ على الذكور في فترة عمرية معينة، فكان التوبيخ والتأديب السلوكي هو الحل القرآني فقط، نقول لهم، وهو بالمناسبة كافٍ تمامًا. وكبار مؤسسي علم النفس الحديث يعلمون أن الإنسان يمر بمراحل متفاوتة من النضج الجنسي ومستويات الهرمونات، وكثير من الذكور في بداية مراهقتهم تكون لهم ميول مثلية وتتعدل لغيرية لاحقًا. ونحن نعين المجتمع، خاصة نشأه ومن انحرف فيه، على السلوك القويم. أما فكرة الرجم والإجراميات التي يفعلونها فهي محض إجرام بكل المقاييس.
وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة خطيرة. إن علماء الفقه بدلًا من أنهم وقفوا عند خطورة الاستمرار في السوء العملي وملاقاة الله به وخوفوا الناس، تجرأوا على الأحكام المعينة وقالوا بأمور وحشية لا تأتي على رأس أحد، فلم يتبعوا ما أراد الله من حكم، وحكموا في ما هو حق لله، ونازعوا الله في أخص خصائصه: ربوبيته على الناس وحكمه.
ثم أرعبتني آيات أخرى في سورة البقرة، منها قول الله تعالى بعد أن أكد على أن الصفا والمروة من شعائر الله وأنه لا جناح على من حج أو اعتمر أن يطوف بهما، وأن من تطوع خيرًا فهو خير له. وجدت فقهاء المذاهب المتأخرين يقولون قولًا واحدًا إجماعيًا في ظنهم أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج يبطل بدونه. فتعجبت، الله يقول تطوع وهم يقولون ركن! من أين لهم بهذا؟ حين عرفت فتنة العجل والبقرة، عرفت أن تنطع البقرة وتحزلق الفقه وابتداع الفرعيات مرتبط وثيق بانحراف الأصل من إرادة الدنيا والتمظهر بالورع والدين. وكان لزامًا عليهم ليخالفوا حكم الله البديهي، وهم يزعمون أن فلان إمامهم ترجمان القرآن، لم يفهموا أن الصفا والمروة مجرد تطوع. فكانت الآيات الخطيرة أنهم كتبوا مجموعة آثار نسبوها زورًا للمصدر التشريعي الموازي المسمى السنة أنها ركن.
فقلت في نفسي: إن من يكذب على الله متعمدًا ويكذب على الرسول متعمدًا، أنا متأكد يقينًا أن أحاديث آية الرجم التي أكلتها دجاجة هي رواية مكذوبة صرفة. هل يكون فعلًا علماء السوء الذين كذبوا هذا ونسبوه للنبي خدعوا أنفسهم أن ما يفعلونه مجرد معصية مغفورة؟ وفي الحقيقة، وفق أصولهم نعم. فهو في النهاية مجرد كذب على الرسول، وهم لا يعتقدون أن هناك إلهًا آخر اسمه هبل مثلًا، ثم هم أصلًا لا يقولون إنهم يستحلون، وإنما سيقولون: والله أخطأنا لأننا أردنا دراهم نرضي بها حكامنا، ونحن لدينا أهل ومصاريف وليس لنا مصدر رزق إلا التآكل بالدين، فنحن أحبار وهذه وظيفتنا. وفكرة وجود أشخاص وظيفتهم الإفتاء أصلًا فكرة كهنوتية متأخرة، فالصحابة وعلماؤهم كانوا رجالًا عاديين من تجار وصناع ومجاهدين، والفقه في الدين يشمل كل أمور الدينونة والخضوع الكونية في فهمنا من أعمال تعدين لصنع سيوف وفلك لمعرفة تقويم صحيح وتدبير لبيت المال ولاستراتيجيات الحرب والسلم. فرجال الدين هم رجال العلم بالله المتصل بالكون والحياة، وليست وظيفة للتربح. المهم أن علماء السوء سيقولون: كذبنا لأن فلان من الحكام كان في خلاف مع زوجته ووجدها تزني وأراد التخلص منها فما كنا لنقف أمامه. فسيتذرعون أنهم كذبوا وما أرادوا إلا إحسانًا وتوفيقًا، وفي النهاية هم كذبوا، والكذب في عرفهم سيئة وليست شركًا أو كفرًا، فهم لم يفعلوا كفرًا وبالتالي لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون.
وَمِنۡهُمۡ أُمِّيُّونَ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِيَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ () فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ﱎ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَةٗۚ قُلۡ أَتَّخَذۡتُمۡ عِندَ ٱللَّهِ عَهۡدٗا فَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ عَهۡدَهُۥٓۖ أَمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ () بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتۡ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ﱐ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ)
وقول الله تعالى أيضًا: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ)
المهم أنهم حاولوا التهرب أن ذلك الخلود للاستحلال القلبي. نقول: كيف سيكونون يرون ما فعلوه من كذب حلالًا ويعترفون أنهم سيعذبون به؟ هم لا يستحلون فعلتهم ولا يرونها معروفًا، بل يرونها منكرًا وخطأ مستوجبًا للعقوبة، لكنهم ظنوا أنها عقوبة يسيرة لأن كاذب الكذبة صدقها، وكذبهم وصل أنهم صدقوا كذبهم عن أقول الدين وظنوا في الله ما لم يقله.
وهنا لنؤكد حقيقة كونية جهلها علماء السوء، الأنبياء والرسل لم يجيئوا للناس ليقولوا كلمة أو ينظروا كلاميات نظرية كما فعل أهل الفقه: العقيدة الوسطية، والشيعة: العقيدة الإمامية، وكلام كلام كلام كلام، نعتقد كذا كذا. ثم قالوا: من اعتقد بكل هذا يدخل الجنة ولو قتل 99 نفسًا، ولو شرب الخمر حتى انفجرت معدته، ولو مات في حضن امرأة أبيه يزني بها أبد الدهر، ولو اغتصب الأطفال وشرب دم الأولياء، ولو أكل الجيفة والميتة ولحم الخنزير، ولو اغتصب أمه طوال عمره وابنته وقتلها، فكل هذه عندهم معاصٍ، ومن مات مصرًا عليه ما لم يستحل ويعتقد بعقائدهم أن الخروج على الإمام الحق كفر بواح وأن الخوارج كلاب النار، ما اعتقد تلك الأشياء العجبانية فهو داخل الجنة لا محالة، ما لم يستحل! وهو لأنهم لم يفهموا الإيمان، ولو فهموه حقًا لعلموا أن الإيمان ما هو إلا تحقق صفات من الصلاح، ليس كلمة تقال، وإلا لانتفع المنافقون بقولهم: نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. وإلا، فلماذا كان مجرد القعود عن الجهاد في غزوة العسرة نفاقًا أكبر لم يستثنَ منه إلا الثلاثة الذين خُلفوا والذين تابوا من بعد توبة عملية؟ آيات التوبة تدل ليس فقط أن التوبة من قريب حين الانحراف دلالة للإيمان، ولكن أيضًا أن عدم فعل المأمور ولو أقصاه وأعلاه وهو الجهاد في العسرة نفاق أكبر. حين رجع المؤمنون قالوا: إن الله نبأنا من أخباركم، لمجرد تركهم الجهاد صاروا منافقين ينبذهم المؤمنون بالأعيان ولا يتولونهم. وأيضًا نؤكد رغم المفاصلة التي هي واجب علينا، إلا أن الحكم نفسه على المعين ذاته هو أمر لله، لذلك في آيات سورة التوبة: "وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون"، فالحكم لله أولًا وأخيرًا.
ولذلك، ما ذُكر الإيمان بالله إلا قُرن باليوم الآخر جزاء الأعمال، وما ذُكر الإيمان إلا وذُكر العمل الصالح، لأنهما متلازمان، والله أراد منا تحقق أوصاف وأعمال وليس مجرد كلمات قشرية ظاهرية. وهناك حقيقة لا يفهمها هؤلاء، وهي حقيقة فيزيائية مرتبطة بتوازن الكون: السيئة جزاؤها سيئة، ومن أكرمه الله بمعادلة صفاته الداخلية لتنقلب للجانب المنير من العالم فقد فاز، ومن انغمس في الجانب المظلم استحق السيئة وأحاطت به، لا توجد أماكن رمادية، فنهاية كل البشر فريق في الجنة وفريق في السعير، لا يوجد فريق في السعير يخرج للجنة إلا فيما غرهم في دينهم بما يفترون. وما أراد علماء السوء من تلك التأصيلات إلا لتسويغ كل موبقات أوليائهم من الطواغيت، ولقد قلبوا معنى الدين حرفيًا. فما أراده الله منهم إحسان العمل جعلوه ليس لزامًا، وما طالبهم به من عدم الإقدام على الحكم والتكفير اجترحوه.
وللعلم، هؤلاء يجهلون حقيقة الإسلام نفسها، أن لبها وأصلها الاستسلام لله ظاهرًا وباطنًا في الأمر كله. (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
وقول الله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)
خاتمة الفصل: الإيمان عمل لا أماني
•
لذلك قال الله تعالى في سورة النساء الآية 122: "لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا" إلى قوله تعالى: "وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا (125)".
إن الله يبين أنها سنة كونية تمثل حقيقة فيزيائية في ذات الكون كأثر حتمي لحكمة الله: من يعمل سوءًا يُجزَ به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا. ليس بأمانينا نحن ولا أماني أهل الكتاب من ظننا أن الله سيعطينا ميزة فنعمل سوءًا فلا نُجزى سوءًا لأننا من قوم فلان أو علان أو لأننا قلنا بأفواهنا كلمات من معتقداتهم التي يظنونها كأن الله خلق آدم على صورته مثلًا، وأن الإنسان خليفة الله في الأرض، فوا عجبي!
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ سورة الجاثية (21)
ثم إن المعاصي المجردة وُصفت بإثم مستوجب للخلود في القرآن لها دون الكلام عن أي استحلال أو جحود أو اعتقاد أنه حسنة كما يقولون ليحولوا الموضوع لمسائل نظرية في كتبهم الكلامية. فمثلًا، سيعتبر هابيل تكفيريًا بغيضًا خارجيًا لأنه اعتبر أن قتل أخيه له معصية مخلدة في النار، فهو ضال حين قال: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ".
وسيُعد قول الله هذا في كتبهم ضلالًا مبينًا وقولًا مشتبهًا يستوجب التوضيح. ولو أن أحد تلامذتهم عُرض عليه هذا القول دون أن تقول إنه كلام الله: "وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"، فسيقول هذا قول الخوارج بلا شك، وسيقول: يا له من قول خارجي كافر، فلقد سمعت شيخي يقول إن من يقول بخلود العاصي المصر في النار خارجي، والخارجي كافر عند جمهور أهل السنة. (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
ولذلك، لو قلت لهم قول الله: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا"، سيقولون: نعوذ بالله من قول خارجي مارق. هؤلاء أئمتنا وولاة أمورنا، بارك الله فينا، قد قتلوا قراء القرآن فينا وفتنوا الناس على دينهم، لكنهم من أهل السنة، وكل هذه كبائر، والقتل من الكبائر، ومن مات على العقيدة الواسطية الطحاوية الوهابية الإمبريالية الثيوقراطية الراديكالية الكبرى، فهو مسلم مؤمن في الجنة ولو قتل 99 نفسًا كما جاء في البخاري. لا لا، بل لو قتل مليون نسمة ببراميل متفجرة وتعشى بلحمنا وأكل أكبادنا وأكباد المؤمنين ليل نهار وأهلك الحرث والنسل وصلب المؤمنين على جذوع النخل.
وإذا قلت لهم هذه الآية اسودت وجوههم وقالوا: إنك تتبع المتشابه، كيف تقرن الزنا مع الشرك والقتل وتجعل الجزاء خلودًا في النار؟ فهذا من التشبيه والتلبيس، فتلك الآية عندهم خطيرة متشابهة: (وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا ﱃ يُضَٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَيَخۡلُدۡ فِيهِۦ مُهَانًا). وسيقولون: يجب لكي تخلد في النار أن تفعل الثلاثة أشياء مجتمعة: أن تدعو مع الله إلهًا آخر وتقتل نفسًا وتزني. أما لو قتلت وزنيت فقط، فأنت لا تقلق، في الجنة في الجنة. أهم حاجة تبقى معانا في أهل السنة على العقيدة الطحاوية الوسطية، المعرف إيه.
إن قول الله تعالى: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ"، إن دع اليتيم وأكل ماله وترك الحض على طعام المسكين في رأيهم مستحيل أن يكون تكذيبًا بالدين حقيقة، هذا لأنهم يفهمون أن الدين مجموعة أمور نظرية ليس سلوكًا من الصفات والأعمال، إنما نظريات وكلاميات، فيقولون هذا تكذيب عملي ليس حقيقيًا، ربنا مش قصده يعني أنه تكذيب للدين، يتخذون كل كلام الله هزؤًا ومتشابه.
أما إن قلت إن المصر على الربا سيحاربه الله ورسوله وأن من عاد للربا فإن الله لا يحب كل كفار أثيم: (ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ () يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ () يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ () فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ).
فردوا وقالوا: إنما هو مستحل. والحقيقة أنه على العكس هو متأول وليس مستحلًا، والله علق صفة الخلود في النار لمن عاد، سواء مستحل أو متأول أو مصر أو أيًا كان من كلامياتهم التي لا تنتهي، فالعبرة بالعودة بنص القرآن، والحرب على الفعل، وأعمال القلوب لله، لنا الظاهر، لنا الأعمال، ديننا أعمال لا أقوال، وهذا ما لم ولن تفهمه مع دين نظري قشري فرغ معناه ومعنى الاستسلام لله. (وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ). نعم، بل إن الآيات للمتدبر تقطع الطريق على المتأول، فأكثر من فعلوا الربا لا يقولون على أنفسهم نحن مرابون، إنما يقولون إنما نحن مستثمرون وتلك تجارة، ولكنهم جهلة بالاقتصاد، فالله بين أن حجتهم داحضة ومهما تأولوا كأصحاب السبت فهم خالدون في النار.
ولذلك، المؤمنون لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يتقبل الله توبتهم ويكفر ويعفو ويتوب عن سيئاتهم.
• (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)
• (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
• (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)
• (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
• (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)
• (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)
• (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
• (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
وقال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا () يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا () إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا () لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا)
ملخص الفصل السابق
التكفير بالمعصية والخلود في النار - نظرة من داخل الفقه التراثي
مقدمة: جريمة في ثوب مصطلح
إن من أكبر الأمراض التي تغلغلت في فكر أهل الكلام وفقهاء السلطان عبر العصور هو ولعهم بالمجادلة واختراع المصطلحات التقعرية الكبرى، التي لا يحققون في الغالب معناها، بل يستخدمونها كسلاح لتشويه من خالفهم وإرهابه فكرياً .
ومن أخطر هذه المصطلحات التي تم استخدامها كوصمة عار، تهمة أُلصقت بفرقة "الخوارج" الهلامية، التي كادت أن تنقرض آثارها ولم نعرف حقيقة قولها إلا من صدى كلام أعدائها. هذه التهمة هي أنهم "يكفرون مرتكب الكبيرة".
وللوهلة الأولى، تبدو هذه جريمة فكرية شنعاء. ولكن، حين ندقق النظر، نكتشف أن هذه التهمة تخفي وراءها جريمة أكبر ارتكبها المتهمون أنفسهم. فهم، بينما يشنعون على غيرهم، قد فتحوا باب التكفير على مصراعيه بينهم وبين بعضهم البعض، وأقاموا محاكم التفتيش على أمور جعلوها "أصولاً للدين" وأخرى فروعا للدين ..في قواعد ما أنزل الله بها من سلطان. فالحنابلة يكفرون من خالفهم في مسائل الصفات، والأشاعرة يبدّعون من خالفهم، والمعتزلة يضللون خصومهم، حتى تحول تاريخ المذاهب إلى سجل حافل بالتكفير المتبادل وإهدار الدماء باسم العقيدة.
إنهم جعلوا من "بيعة الإمام المتغلب بالسيف" أصلاً من أصول الدين، وكفّروا من خرج عليه، فصارت قبلتهم حيثما دار سيف الطاغية.
حتى قال بعضهم إن تكفير الخوارج أشد مسالة خلافية بين أهل السنة
لكن الكارثة الأكبر ليست في تناقضهم، بل في جرأتهم على منازعة الله في أخص حقوقه. فالتكفير ليس من حقهم لا في الكبائر ولا فس الصغائر ولا ما اصطلحوا عليه من الدين أصلا وفرعا و ورقة وجذرا و عمودا وثقفا و زخرفا و بابا و شباكا ...فلا حق لهم في التكفير في أي كبيرة أو صغيرة ... هذا الفصل ليس دفاعاً عن فرقة، بل هو تحقيق في أصل الجريمة: جريمة التعدي على حق الله في الحكم على عباده، وجريمة تحريف كلام الله الصريح في مصير من يعصيه.
نعم أقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين كما في سورة الروم الأيات 31 -32 ..نعم إن من لم يقم الصلاة وفرق دينه و كان شيعا كل حزب بما لديهم فرحون كانوا مشركين !
فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ۞ مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ۞مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ
لقد أراد فقهاء السوء أن يحولوا الدين إلى مجموعة من "الأماني" والمعتقدات النظرية، ليفصلوا الإيمان عن العمل، وليعطوا لأنفسهم ولطواغيتهم صك غفران مفتوحاً. فقالوا إن مرتكب كل الموبقات سيدخل الجنة ما دام على "العقيدة الصحيحة"، ولم "يستحل" بقلبه ما فعل .
وبهذا، برروا لكاتب "آية الرجم" المفتراة جريمته، فهو لم يستحل الكذب، بل فعله "لمصلحة"! وبرروا للقاتل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، بل ولو قتل الملايين، ما دام على "عقيدتهم".
لكن القرآن يهدم هذا البنيان الزائف من أساسه. فالإيمان ليس كلمة تقال، ولا عقيدة نظرية، بل هو ما وقر في القلب وصدقه العمل الصالح . والنجاة ليست بأمانينا ولا أماني أهل الكتاب ، بل هي برحمة الله التي ينالها من تاب توبة نصوحاً، وكفر الله عنه سيئاته، ودخل في زمرة الأبرار الصادقين الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون .
المحور الأول: الحق المسروق - كيف نازعوا الله في أخص حقوقه؟