الفصل الثاني: ميزان الكثرة في القرآن - بين "أكثر الناس" و"السواد الأعظم" وأصحاب الأعراف.
أخي في الله، يا كل باحث عن الحق بقلب سليم،
لقد ورثنا عن الأولين تصورًا قاتمًا يكاد يسد أبواب رحمة الله، تصورًا يجعل من الهلاك قاعدة ومن النجاة استثناءً، فيرسم لنا إلهًا -حاشاه- خلق البشر ليكون أغلبهم حطبًا لجهنم. وهذه الفكرة، يا أخي، هي من أعظم ما صدّ الناس عن سبيل ربهم، وزرع في قلوبهم اليأس من رحمته التي وسعت كل شيء.
لكننا حين نعود إلى كتاب الله، ونتجرد من كل الموروثات، ونقرأه بعين البصيرة لا بعين التقليد، نكتشف ميزانًا مختلفًا تمامًا. نجد أن القرآن، في دقته اللغوية المعجزة، يفرق تفريقًا حاسمًا بين تشخيص حال الأكثرية، وبين تحديد مآل الهالكين، ليفتح بذلك بابًا عظيمًا من الأمل لما أسميته أنت "السواد الأعظم" من الناس.
"أكثر الناس": تشخيص للحالة لا حكم بالمآل
إن أول ما يجب أن نتوقف عنده هو فهم مراد الله من قوله "أكثر الناس". نعم، لقد شخص القرآن حال أغلبية البشرية بصفات لا تدل على الكمال الإيماني، وهذا تشخيص واقعي لا يمكن إنكاره:
- [cite_start]في الجهل: ﴿...وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [cite: 10-55].
- [cite_start]في عدم الشكر: ﴿...إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [cite: 10-60].
- [cite_start]في عدم الإيمان الكامل: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [cite: 12-103].
- [cite_start]في الشرك الخفي: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ [cite: 12-106].
إن هذه الآيات هي "تشخيص" دقيق لحالة البشرية، حالة الغفلة والجهل والتقصير. ولكن، وهنا يكمن المفتاح الذي يغفل عنه المقلدون، أن تشخيص الحالة شيء، وإصدار الحكم بالمآل الأبدي شيء آخر تمامًا. فالله يصف حالهم في الدنيا، ولم يقل قط في كتابه "إن أكثر الناس في جهنم خالدون". إن عدم بلوغ درجة الإيمان الكاملة لا يساوي بالضرورة درجة الكفر والجحود الموجبة للخلود في النار.
"كثيرًا من الجن والإنس": تخصيص أهل العذاب
على النقيض تمامًا، حين يتحدث القرآن عن الفئة التي استحقت العذاب، فإنه يستخدم غالبًا لفظ "كثير"، وليس "أكثر". وهذا تخصيص وليس تعميمًا. كما في قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا...﴾ (الأعراف: 179).
إن كونهم "كثيرًا" يعني أنهم عدد ضخم، وهذا لا شك فيه. ولكنه لا يعني بالضرورة أنهم "أغلبية" البشرية. إن العذاب الأبدي لا يستحقه إلا من بلغ درجة معينة من الجحود والاستكبار ومحاربة الحق بعد أن تبين له، وهؤلاء وإن كانوا عددًا كبيرًا، إلا أنهم ليسوا السواد الأعظم من خلق الله.
"ثلة من الأولين وثلة من الآخرين": بشرى الناجين
وهنا تأتي البشرى العظمى التي تزيل كل يأس. ففي سورة الواقعة، يصف الله أهل اليمين، وهم الجمهور الأعظم من أهل النجاة، بأنهم:
*﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾**.
"الثلة" في لغة العرب ليست مجرد قلة، بل هي الجماعة الكبيرة من الناس. فالله يبشرنا بأن جمهور أهل الجنة ليسوا قلة نادرة، بل هم جماعة كبيرة من الأمم الأولى وجماعة كبيرة من الأمم المتأخرة. وهذا ينسف فكرة أن الخير قد انحصر في الصدر الأول وأن النجاة أصبحت مستحيلة.
"السواد الأعظم" وأصحاب الأعراف: كشف المنطقة الرمادية
والآن، اكتملت أمامنا الصورة التي رسمها القرآن بدقة:
- إذا كان الهالكون "كثيرًا" (وليسوا الأكثرية).
- وكان الناجون "ثلتين" (أي جماعتين كبيرتين).
فإن المنطق والعقل يفرضان وجود كتلة بشرية هائلة بينهما، هي "السواد الأعظم" من الناس. هذه الكتلة هي التي لا تنطبق عليها صفات الكفر الصريح والجحود، ولا تنطبق عليها صفات الإيمان الكامل والسبق بالخيرات.
وهؤلاء هم بالضبط "أصحاب الأعراف" الذين تدبرنا حالهم. إنهم يمثلون تلك المنطقة الرمادية، منطقة من عاشوا في غفلة، لم يناصروا الباطل بنابهم ومخلبهم، ولكنهم لم ينهضوا لنصرة الحق بيقين وثبات.
إن هذا الفهم، المستنبط من دقة اللفظ القرآني، يحل الإشكال تمامًا، ويقدم صورة تتناسب مع عدل الله ورحمته:
- أصحاب الشمال: فئة "كثيرة" من المجرمين والكافرين الذين استحقوا العذاب.
- السابقون وأصحاب اليمين: "ثلتان" كبيرتان من الناجين بفضل الله.
- السواد الأعظم (أصحاب الأعراف): الأغلبية التي عاشت في غفلة، ومصيرها معلق برحمة الله التي وسعت كل شيء، فيدخلهم الجنة في نهاية المطاف بفضله لا بعملهم.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا الفهم من كتابه، والذي علمنا أن ميزانه هو القسط، وأن رحمته هي الغاية. فامضِ يا أخي على هذا النور، فإنك على صراط مستقيم.